البنائيّة الوظيفيّة (القضايا، المعالم، والروّاد)

البنائيّة الوظيفيّة (القضايا، المعالم، والروّاد)

مقدّمة

إنّ البنائيّة الوظيفيّة هي من النظريّات المحافظة في علم الاجتماع المعاصر، حيث يمكن عدّها من أكثر الاتّجاهات تعبيرًا عن هذا  الموقف في هذا العلم، ويشاركها في هذا المضمار النظريّة ذات النزعة الإمبريقيّة، والوضعيّة الجديدة.

تكاد هذه النظريّة تشكّل الإطار التنظيري الأساسي للنظام الاجتماعي الرأسمالي المعاصر، وخاصة في المجتمعات الإنجلو الأميركيّة، وإن كان لها جذور أيضًا في الدول النامية ومنها الدول العربيّة، من هنا سوف أستعرض في هذا المقال أهمّ معالم هذه النظريّة وأفكارها وكذلك أهمّ روّادها، مع بيان لما أغفلته من القضايا، وما بالغت في التركيز عليه أكثر من اللازم.

أوّلًا: القضايا والأفكار

  1. إنّ الأساس الذي تعتمد عليه الاتّجاهات الوظيفيّة بشكلٍ عام هو استخدام المماثلة بين المجتمعات الإنسانيّة والكائنات البشريّة، فبالتالي هي تركّز على مفهومي البناء والوظيفة في فهم المجتمع وتحليله عبر تشبيهه بالكائن العضوي أو الجسم الحيّ، فالبناء الاجتماعي هو مجموعة العلاقات الاجتماعية التي تتكامل وتتناسق من خلال الأدوار الاجتماعية، أمّا الوظيفة الاجتماعية فهي ذلك الدور الذي يسهم به الجزء في الكلّ الاجتماعي، وهو ما فسّره (باريتو) بأنّه المنفعة المتحقّقة عبر المحافظة على النسق الاجتماعي.
  2. إنّ أهمّ بعد وجذر تاريخي حاولت هذه النظريّة النسج على منواله هو علم الحياة عبر تطبيق نتائجه ومصاحباته في المجتمع البشري وليس في الكائن العضوي فقط، وأوّل من تلقّف هذا الاتّجاه هو (وليام سميث) في كتابه حول الزواج والقرابة، ثمّ سبنسير، ثمّ تطوّرت فكرة المماثلة البيولوجيّة على يد (شاف)، و (سمول) في كتابه (مقدّمة في دراسة المجتمع)، على أنّ أوّل صياغة متّسقة لهذا الاتّجاه نجدها في كتابات (إميل دوركايم)، وخاصّة في كتابيه (قواعد المنهج)، و( تقسيم العمل الاجتماعي)، وصولًا إلى روّاد مدرسة دوركايم (مالينوفسكي)، و(براون)، حيث تمّ إدخال العنصر الوظيفي والبيولوجي في كافّة المجالات الثقافيّة والتعليميّة والاقتصاديّة.
  3. إنّ الاتّجاهات الوظيفيّة هي اتّجاهات كليّة تنظر للبناء الاجتماعي ككلّ مترابط ومتفاعل تتبادل مكوّناته التأثير والتأثّر وهي تحاكي العلم الطبيعي مستفيدة من مفاهيمه كالمورفولوجيا (البناء)، والفيسيولوجيا (الوظائف)، فبالتالي تدور معظم محاور هذه الاتّجاهات كما أشار إليها (ماريون ليفي) حول ثلاث أسئلة رئيسيّة:

أ. ما هي الأنماط التي يمكن الكشف عنها وإقرار وجودها عند دراسة ظاهرة معيّنة؟

ب. ما هي الظروف والمصاحبات الناتجة عن التفاعل بين هذه الأنماط؟

ج. ما هي الوظائف والنتائج التي تدلّل على وجود هذه الأنماط وتبرهن على تفاعلها؟[1].

ثانيًا: التصوّرات

  1. تصوّر المجتمع

تعتبر البنائية الوظيفية المجتمع نسقًا من الأفعال المنظّمة والمحّددة، بحيث يتكون من مجموعة من المتغيرات المترابطة بنائيًّا، والمتساندة وظيفيًّا.

إن المجتمع في هذه النظرية ذو طبيعة ترنسندنتالية سامية ومتعالية تتجاوز وتعلو على كل مكوناته بما فيها إرادة الإنسان، من هنا نجد بارسونز يؤكّد في المؤتمر الدولي الرابع لعلم الاجتماع أنّ ثمّة نظامًا واحدًا للمجتمعات المعاصرة، فهي تميل بأجمعها نحو الوحدة والتكامل على أساس القيمة، وصولًا إلى تحقيق دمج للمجتمعات الصناعية المتغايرة أيديولوجيًّا مع المجتمع الرأسمالـي.

في قضايا التغير الاجتماعي تـركـز النظرية على مسائل “الاشتراك”، و”التوازن”، وتغفل قضايا الصراع والتغير، لذلك نجد فيها اهتمامًا خاصًّا بقضايا التوازن الاجتماعي، حيث تراه واقعًا وهدفًا يساعد المجتمع على أداء وظائفه وبقائه واستمراره عبر شريط ذهبي من الاشتراك في القيم التي يرسمها المجتمع لأفراده وجماعاته فلا يملكون حق الخروج عليها، فـ “بارسونز” قد وضع مقولة التوازن في مكانة محورية، فهو يربطه تارة بتـنـاغـم مكونات النسق أو تساوقها سويًّا، ويعالجه في أخرى مـن خـلال الـتـكـامـل، ويلحقه في ثالثة بالنظام العام، أمّا بارينو فقد رأى المجتمع نسقًا متوزانًا يتـحـقـق تـوازنـه بقواه العاملة على تدعيم الصورة- الشكل- التي حققها المجتمع واستقر عليها دون تغيرات جوهرية، ومع ذلك يذهب هندرسون وكنجزلي دافيز إلى أنّ وضـع “مـسـألـة يعبر عن فكرة مبدئية غير كاملة متروكة لما يسـفـر عـنـه حـصـاد الدراسات والبحوث”.

 

  1. تركّز الوظيفية عـلـى تـفـسـيـر وظـيـفـي مـتـعـدد المتغيّرات، فهي تفسّر أي شيء في النسق الاجتماعي بـكـلّ شـيء فـي هـذا النسق، ولا تميّز بين متغيّرات مستقلّة وأخرى تابعة، كما أنّه رغم كليّتها في تصوّر المجتمع تعود وتحصر نفسها في موضوعات جزئية وأنساق فرعية تبدو منعزلة، كما أنّها تبدأ بالثقافة وتعدها الوعاء الأساسي للتفسير، مرورًا منها إلى الشخصية الفردية، ثـمّ الـتـنـظـيـم الاجتماعي.
  2. تشجّع الوظيفية على ما أسماه الباحثون بالتفسير الغائي، الذي يعني اهتمام النظرية بفروض عامة غير قابلة للاختبـار؛ فما تقدّمه الوظيفية من فروض قد يتطلب نـوعًـا مـن التحقيق العلمي لا يوجد في علم الاجتماع، كما أنّ الوظيفيّة تحفل بعدد كبير جدًّا من المفهومات كالبناء والوظيفة الواضحة والكامنة، والميسّر الوظيفي، والمعوّق الوظيفي، والمـتــوازيــات الــوظــيــفــيــة، والـشـروط الــوظــيــفــيــة، وكثرة المفهومات قد لا تكون عيبًا في أيّ نظريّة إذا كانت قابلة للاختبار ومصواغة بدقّة ووضوح كافيين، وهذا قد لا نجده في كلّ المفهومات في كتابات أنصار هذه النظريّة، وقد أرجع بعض الباحثين كـ “والتربيكلي” هذه الكثرة بالإضافة إلى الاهتمام بالغائيّة إلى المحاكاة المبالغ فيها والاستعارة المفرطة من مفاهيم العلوم الطبيعيّة.

ثالثًا: التقويم والاتّجاهات

  1. الاتّجاهات والتباينات

يذهب بعض أنصار الاتجاه البنائي الـوظـيـفـي إلـى أنـه يـحـوي بـداخـلـه اتجاهات فرعية تتباين في نقاط التركيز ومحاور الـبـدء في التحليل، وفي هذا ميّز “كإنسان” بين ثلاثة اتّجاهات فرعيّة:

الاتجاه الأول: ويوصف بالنموذج العام أو غير المحدد الذي يهتم بـالـتـحـلـيـلات السوسيولوجية العامة للنسق الاجتماعي، وهو اتجاه يقوم في جوهره على دعوى نظرية مؤداها: أن السمات الاجتماعية القائمة في أي نسق اجتماعي في أي وقت من الأوقات بمثابة وحدات مترابطة معًا بطريقة متّسقة، ولها علاقات منظمة ومرئية ويمكن الكشف عنها من خلال الوقائع الاجتماعية والنظم الاجتماعية.

الاتجاه الثاني: ويوسم بالاتجاه التقليدي، وهو يقوم على قضية نظرية أساسية مفـادهـا أن معظم الأنماط الاجتماعية وجدت لتحافظ على تكامل النسق وتوازنه، فكل جزء في البناء ما وجد إلا ليؤدي وظيفة تحافظ على بقاء هذا البناء واستمراره وتوازنه.

 الاتجاه الثالث: ويشير الاتجاه الفرعي الثالث إلى ما يسمّى بالوظيفية الشكلية أو الصورية، لأنه لا ينطلق بالضرورة من رؤية نظريـة أو من توجه نظري معيّن، ويكاد يشبه الاتجاه الإمبريقي الذي يُعنى بإجراءات جمع المعطيات الواقعية وتصنيفها وتبويبها[2].

  1. التقويم

الجوانب التي بالغت النظرية في التأكيد عليها:

أ.  المبالغة في محاكاة العلوم الطبيعيّة

إنّ أوّل العلماء الذين طرحوا فـكـرًا بـطـريـقـة أكـثـر علمية هو “أوجيست كانط” وخاصة عند اهـتـمـامـه وحـديـثـه عـن الـثـوابـت الاجتماعية، ثمّ برز “سبنسر” الذي كان أكثر تأثّرًا  بعـلـم الحـيـاة، حـيـث عـقـد مماثلة حيويّة بين عمليات البناءات الحيوية والمجتمع  الإنساني، كذلك كان “دوركايم” متأثّرًا في كتاباته الأولى بالفكر المتعلـق بـعـلـم الحـيـاة، كما أنّ الملاحظ أنّ الوظيفيّة تهتمّ بمستوًى عالٍ من التجريد في الوقت الذي تكون فيه بحوثها محدّدة بمستوى متواضع جدًّا من التعميم ممّا يشير إلى وجود انفصال بين النظريّة والتطبيق.

ب. المبالغة في تقدير الاشتراك في القيم

عقد بعض أنصار الوظيفية مثل “بارسونز”، و”ميرتون” أملًا كبيرًا على أهمية هذا الاشتراك في تحقيق تكامل عناصر النسق الاجتماعي ومكوناته، مما يشير إلى تحيّز مسبق لنسق بعينه وتفضيله على غيره، وهذا ما يتحدّث عنه “هورتزون”؛ إذ يعتبر أن الزعم بأسبقية الاشتراك في القيم على وجود النسق الاجتمـاعـي زعـم لا يمكن تأييده، هذا بالإضافة إلى أن مسلّمة الاشتراك في القيم هذه لا تنفي أن هـنـاك تـعـارضًـا أو صراعًا بينها في بعض الأحيان.

ج. لقد أغفلت الوظيفية من أهمـيـة بـعـض أبـعـاد الواقع الاجتماعي، ممّا جعلها نظريّة ذات منظـور أحـادي اسـتـاتـيـكـي، وهو منظور النظام أو التكامل أو التوازن، مع إغفال لبعدي التغيّر والصراع الاجتماعيين، فالشغل الشاغل لـلـنـظـريـة كـان مـركّـزًا عـلـى تكامل البناء الاجتماعي الذي نظر إليه عـلـى أنـه ثـابـت كـالـعـمـود الـفـقـري للإنسان، نعم قد حاول بعض المهتمّين بالوظيفية “كبارسونز” و”كوزر” وغيرهما أن يفسحـوا مكانًا للصراع في أطرهم التصورية لكن مع رغبة في الحفاظ عـلـى وجـهـة النظر الوظيفية الخاصة بالتكامل، من هنا اعتبر نـيـل سـمـلـسـر أنّ هذه النظريّة فيها الكثير من التحيّزات الأيديولوجيّة، معتبرًا أنّها أغفلت كثيرًا من الأبعاد البنائية وأنها لا تحوي نسقًا فكريًّا حول الطبيعة الإنسانية والإرادة الإنسانية[3].

 

 

 

 

[1]  راجع: عبد الباسط عبد المعطي، اتّجاهات نظريّة في علم الاجتماع، سلسلة عالم المعرفة، صدرت في شعبان 1998، بإشراف أحمد مشاري العدواني.

[2]  راجع: دفيد ريدل، مرجريت كولسون، مقدّمة نقديّة في علم الاجتماع، ترجمة: د. عبد الباسط عبد المعطي، د. غريب سيّد، القاهرة: دار الكتب الجامعيّة، الصفحتان 72و 73.

[3] Fernandes، F .Functionalism and Scientific Analysis in Modern.

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
البنائيّة الوظيفيّةعلم الاجتماع المعاصر

المقالات المرتبطة

من وحي الأربعينية الدور التربوي للثورة الحسينية

تمهيد كل عام تهل علينا أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، وعندما نتأمّل المسيرات الحافية الماشية من أقصى بقاع الأرض لتزور

مكنز المنطق والفلسفة الإسلامية

فرض العالم الرقميّ نفسه في جميع المجالات الحياتية للإنسان، ولم يعد بوسع هذا الكائن أن ينأى بنفسه عنه، حتى على المستوى التخصصات العلمية أصبح هذا العالم ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، خاصة في ظلّ القدرات التي يقدمها

قراءة في كتاب “ما العدالة؟ معالجات في السياق العربيّ” لمجموعة باحثين

“ما العدالة؟ معالجات في السياق العربي” كتاب صادر عن المركز العربي للدراسات، يقدّم من خلال أراء مجموعة من الباحثين

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<