الكلمة

الكلمة

قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً[1].

“الكلمة” مصطلح يستخدم لأغراض عدة، فهو في اللغة يقسم إلى اسم وفعل وحرف. وقد يراد منه الجملة المفيدة أو الخطاب، أو الحجة القوية.

وفلسفة “الكلمة” أنها تعبير عما في ذهن المتكلم، لذا توصف بأنها مرآة لما في النفوس، وعلة التواصل بين الأذهان. وحين تضاف تصبح شعارًا، فتقول مثلًا: إن كلمة التوحيد هي لا إله إلا الله وكلمة الله هي العليا. فما هي كلمات الله، وما هو أتمّها؟

 الكلمة الإلهية

قال أمير المؤمنين (ع): “لقد تجلّى لعباده في كلامه ولكن لا تبصرون”. وقبل تكلّمه سبحانه كانت كمالاته في مرتبة الخفاء، فحبّب إظهارها وعشق إعلانها، فأوجد وأنشأ لكي يعرف، وهذا مضمون الحديث القدسي: “كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف”.

إذن، تكلّمه سبحانه عبارة عن تجلّي الحق الحاصل من تعلّق الحب الذاتي، والإرادة والقدرة لإظهار ما في الغيب. وهو على ضربين:

  1. كلمة قولية، وقد أخذت أشكالًا عديدة. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ[2]. فالكلام القولي الإلهي يكون إما بالوحي المباشر كما كان يحصل مع رسولنا الأكرم محمد (ص)، أو من خلال شيء ما، كالشجرة التي كلّم الله بها موسى (ع) تكليمًا، أو عبر الملك الموكل بإنزال الوحي الإلهي (جبرائيل (ع)).

2.كلمة وجودية، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[3]. فقوله هنا عز وجل عبارة عن كلمة “كن” الإيجادية.

وفي حديث لأمير المؤمنين (ع): “إنما يقول لما أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعله”.

بالتالي، كل موجود خارجي هو كلمة من كلمات الله سبحانه وتعالى، وجميع المراتب الوجودية، من عالم الحضرة الواحدية أو المشيئة إلى عالم العقول المجرّدة والنفوس الكلية إلى البرازخ، ثم عالم الطبيعة، كلها أجزاء وفصول الكتاب التكويني الإلهي، وفي كلٍّ منها أبواب وآيات وكلمات وحروف، ما لا يحصى عدده ولا ينفذ أمده.

 تمام الكلمات الإلهية وتنزّلها

إن أتمية أية كلمة تكون باعتبار وضوح الدلالة وعدم الإجمال والتشابه. وتمام الكلمة الإلهية هو بمقدار صفاء المرآتية التي تعكس الغيب وتحكي عنه.

لذا، فإن تمام الكلمات القولية هو القرآن الكريم – الكتاب التدويني – الذي جمع كل الصحف السماوية وبه كان ختمها، فهو من جوامع الكلم، وهو الهدى والنور المبين، حيث يحوي من العلوم والحقائق الكونية ما يعجز العلماء عن إحصائه وتبيان أسراره. لذا، يستفيد منه جميع البشر، إنما كلٌّ بحسب استعداده وسعته.

ولأنه كلام وتجلٍّ إلهي، لا يمكن أن يتنزل إلينا إلا مع سبعين ألف حجاب. كما يعبّر الحديث الشريف: “إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه دونه”. لذلك، فقد تلبّس بلباس الحروف والكلمات، تناسبًا مع عالم الطبيعة، وذلك لإنقاذ الإنسان من ظلمتها وكدورتها، عروجًا به نحو الملأ الأعلى.

أما تجليه بحقيقته، فهو أمر لا تحتمله حتى الجبال الرواسي في صلابتها. وقد عبّر تعالى عن ذلك بالآية المباركة: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ[4]. وكما يعبّر العرفاء: لو أن باء بسم الله في عظمتها التي كانت في اللوح المحفوظ نزلت على العرش لذاب وأضمحل. فكيف يمكن للسماء الدنيا أن تحتمل ذلك؟

كذلك الأمر بالنسبة للكلمات الوجودية، فإن تمامها هو بالمظهر الأتم للفيض المتجلّي عن الذات الإلهية، وهو مظهر اسم الله الجامع الذي منه كانت سائر الأسماء التكوينية[5]. وكما عبّر الإمام الخميني (قدس سره) “أن فاتحة الكتاب التكويني بوجه [هو] عالم العقول المجرّدة والروحانيين من الملائكة المقرّبين، والتعيّن الأول للمشيئة وبوجه [هو] عبارة عن نفس المشيئة، فإنها مفتاح غيب الوجود”. وفي الزيارة الجامعة: بكم فتح الله لتوافق أفقهم لأفق المشيئة… وهم من جهة الولاية [أي المشيئة] متحدون: “أولنا محمد، أوسطنا محمد، آخرنا محمد، كلنا نور واحد”[6]. هذا من جهة حقيقتهم عليهم أفضل الصلوات والتسليم.

أما من جهة تعيّنهم، فقد تمّ بعد التنزّل عبر عشرات آلاف الحجب، لنفس السبب الآنف الذكر.

إذن، فالتعيّن الأول (المشيئة) حقيقة الإنسان الكامل هو فاتحة الكتاب التكويني، الذي صنّفه تعالى بيد قدرته الكاملة، وفيها كل الكتاب (التكويني) بالوجود الجمعي الإلهي. لأنه تمام سلسلة الوجود، فهو الجامع لكل مراتبه تنزّلًا وعروجًا.

لقد عبّر القرآن الكريم عن بدء خلقة الإنسان (على صورته في أحسن تقويم)، وتنزّله في العوالم بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ[7]. خلقه من الحضرة الواحدة وعالم المشيئة، ثم تدرج به في المراتب المتعددة وصولًا إلى عالم الهيولى أسفل مرتبة في عالم الطبيعة (مقبض القوس)، ثم بدأت مسيرة العروج في مراتب قوس الصعود حتى الوصول إلى ختم الدائرة (مبدأ القوس النزولي) في مقام ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى[8]، وهذا مقام نبينا محمد (ص) في حقيقته. والزيارة الجامعة حين تقول: “بكم فتح الله”، تكمل: “وبكم يختم”.

 الإنسان الكامل والكتاب التدويني

إنّ أول سورة يفتتح بها كتاب الله عز وجل هي سورة الحمد. وقد أجمع المفسّرون أنها تجمع في معانيها ودلالاتها جميع معاني ومقاصد القرآن الكريم، حيث تبدأ باسم الله الدال على الذات الإلهية، ذاكرة الرحمة – بقسميها – الجامعة لصفات الجمال والجلال، ثم تبحث في علاقة الله بالمخلوقات، مع  التذكير بيوم الرجوع إليه، كما أنها تعلّم العباد كيفية التأدّب في الدعاء للباري عز وجل …

أضاف العرفاء إلى تلك الحقيقة أن “فاتحة الكتاب فيها كل الكتاب [التدويني] وهي باعتبار الوجود الجمعي في بسم الله الرحمن الرحيم، وهو في باء بسم الله [أي أن البسملة في الباء بنفس الاعتبار]، وهو [كذلك] في نقطة تحت الباء. قال علي (ع): أنا النقطة. وورد: بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميّز العابد عن المعبود[9].

فالباء تعبير عن الرحمة الرحمانية التي بها ظهر الوجود، والنقطة تعبير عن الولاية وهي سبب الرحمة الرحيمية.

واسم الرحمان كان الواسطة لتجلّي اسم الله على كل الأسماء الإلهية، ومظهر اسم الله الجامع هو الحقيقة المحمدية المكتملة بالمقام العلوي[10] التي بها كانت فاتحة الكتابين، ما يعني أن أفقهم عليهم الصلاة والسلام المتوافق لأفق المشيئة متساوي مع أفق القرآن الكريم من حيث المبدأ. وهذا إنما يؤكّد على الحقائق التالية:

  1. أنهم صلوات الله عليهم هم الوحيدون العارفون لحقائق القرآن الكريم، فهم حملته الحقيقيون، المطهرون تطهيرًا. حيث قال تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَ الْمُطَهَّرُونَ[11]. وورد عن أبي عبد الله (ع): “وعندنا والله علم الكتاب كله”. وعن أبي جعفر (ع): “ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء”.
  2. إن تحصيل معرفة الباء، التي بها كان افتتاح الكتاب الإلهي بقسميه غير ممكنة إلا من خلال الاستغراق في الولاء لأمير المؤمنين (ع). لأن الروايات تلمّح بإشارات دون تفاصيل، وذلك لإرشادنا إلى ضرورة التأمّل العبادي، لمعرفة ما تختزنه هذه المسائل، حتى تبقى في حالة رجاء من المولى عز وجل أن يمنّ علينا بفتح المعارف المتعلقة بها.
  3. الحجة الفصل بين العابد والمعبود، وحفظ العابد لعهد العبودية لله عز وجل هي الحقيقة المحمدية المكتملة بالمقام العلوي وتعيناتها تمثل الوجود الجمعي الذي به يستدل على الله. ورد في الزيارة الجامعة: “من أراد الله بدأ بكم، ومن وحّده قبل عنكم”.
  4. إن أصحاب الحقيقة المحمدية مهما سموا، فإنهم يبقون عباده “تميز العابد عن المعبود”. وهذا من دواعي فخرهم (ع). لأن مقام العبودية لله تعالى يمثل كمال الإنسانية في أعلى مراتبها. وهو متحقق فيهم على النحو الأتم.

ولعل فكرة الغلو عند بعض المسلمين نابعة من التفسير الخاطئ للكلمة الإلهية. تأثرًا ببعض الأديان الأخرى، والمسيحية بالخصوص، التي تعتبر أن الكلمة الإلهية تجمع تمام الألوهية مضافًا إلى تمام الإنسانية، وهم يحتجون علينا بذلك، في الآية المباركة: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[12].

إن مبدأ التوحيد في الإسلام مبدأ صارم للغاية. ولا يوجد ما يسمّى تمام الألوهية في بشر. لذا، لا يمكن تأليه أي معصوم، فهو كلمته الدالة عليه كونه تعبير عن إرادة ومشيئة المريد عز وجل.

وكلام رسول الله (ص) واضح في قوله: “إن الله عهد إلي في علي عهدًا قلت بيّنه يا رب… قال: إن عليًّا آية الهدى وإمام أوليائي ونور من أطاعني وهو الكلمة التي ألزمها المتقين من أحبني فقد أحبه ومن أطاعني فقد أطاعه”.

وهذا الحديث الشريف فيه دلالة واضحة على أن للمعرفة شروطًا سنأتي على بيان مجملها.

شروط المعرفة

قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.

إن الآيات الآفاقية والأنفسية لا يمكن إدراكها إلا بالاستشفاع بمحمد وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام. لأنهم الوسائط والسبب المتصل بين عالم الطبيعة وعالم الحضرة الإلهية، يشفعون وينيرون طريق المطيعين المتقين، وبحسب رتب تقواهم تفاض عليهم المعارف الإلهية.

لكن، السبيل إلى ذلك يبدأ بصفاء النية، والتوجّه الخالص لله عز وجل في أي عمل من الأعمال، بعد ترك حب الدنيا التحلي بالأخلاق العلمية والعملية الفاضل. حيث يسعى المؤمن الموالي لتعلّم العلوم التي تورث الخشية من الله عز وجل، فيوسم قلبه بالورع والصبر… وعندها تصبح نفسه عاملة صابرة محتسبة، ويصبح قلبه مرآة التجليات الإلهية، وحينها يدرك بعضًا من معاني وحقائق كلمات الحق التامات.

والحمد لله رب العالمين

[1] – سورة الكهف، آية 109.

[2] – سورة الشورى، آية 51.

[3] – سورة يس، آية 82.

[4] – سورة الحشر، آية 21.

[5] – راجع مبحث الأسماء.

[6] – شرح دعاء السحر، دار الجوادين، ط1، ص 95.

[7] – سورة التين، آية 4، 5.

[8] –  سورة النجم، آية 9.

[9] – نفس المصدر السابق، ص 95.

[10] – راجع، مبحث الرحمة.

[11] – سورة الواقعة، آية 75، 76، 77، 78، 79.

[12] – سورة آل عمران، آية 45.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الوحيالتوحيدالكلمة الإلهيّة

المقالات المرتبطة

الحسين.. صرخة الحق على مرّ العصور

لا يمكن للناظر والمتأمل إلا أن يرى ويسمع اسم الحسين حفيد رسول رب العالمين، الذي قضى شهيدًا ثائرًا على الظلم، رافضًا بيعة طاغية عصره يزيد المتجاهر بالفسق الشارب للخمر

صلاة الإنسان وصلاة الله

الصلاة عند ابن عربي عبادة خاصّة، حوارٌ حميم بين العبد وربّه، حوارٌ هو أشبه بتقاسم الأدوار في ظهور الوجود

قوا أنفسكم وأهليكم…

لو تتبعنا الهداية العبادية في حياة أهل الإيمان، على ضوء القرآن الكريم، لوجدناها تنقسم إلى مسلكين رئيسين:

المسلك الأول: هو التفصيلي الذي يتابع فيه المتدين كل جزء من الأحكام الشرعية الواجبة والمستحبة، كما يتجنب فيها المحرمات والمكروهات.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<