بين زمنين ثقافيين (2) النهوض المستأنف يظهر في “جنة المواجهة”
القول بوجوب وعي جدلية الهزيمة والممانعة في آن، يرمي إلى إنشاء التحيّز الضروري بين ثقافة الامتناع والمقاومة وثقافة القبول والتمثيل.
الانهزام الإسرائيلي في لبنان، لم نستيقظ بعد على عمقه وأهميته وتاريخيته.
الإرادة الفلسطينية أفلحت في إسقاط أهم الأطروحات التكوينية لدولة الاغتصاب.
ينظر العقل الصهيوني إلى التطبيع في بعده الأشمل، فهو نظرٌ يبدأ من اللاهوت المؤسس للأطروحة الإسرائيلية، ثم ليعود إليها بعد أن يسلك الأحقاب التاريخية المفضية إلى إنجاز الدولة اليهودية وعوامل استمرارها. فلا يفصل هذا العقل تبعًا لمنطق اللاهوت المؤسس بين أحيازه وعناصره، وإنما يسعى إلى إجراء صلات تكامل فيما بينها. لعل ما يحصل اليوم على صعيد المنطقة يعكس تدابير إسرائيلية محمومة في هذا الاتجاه. غير أن مدى نجاحها يتوقف على تهيئة المجتمعات العربية لقبول مثل هذه التدابير.
إن أول ما يرمي العقل الإسرائيلي إليه هو جعل مصطلح التطبيع مفردة معرفية تختزن قابلية التداول بين النخب، كما تمتلك سحر التأثير على اللغة المكونة للنص السياسي الثقافي العربي. وحين يأخذ هذا المصطلح قسطه الوازن من التداول في حقول التفاعل المعرفي، فإنه يتحول مع الزمن إلى حقيقة سارية في الواقع ولم يكن لها من قبل أي حضور يُعتد به. ذلك أن التطبيع الثقافي يأخذ صفته العملية في الحالة التي يصبح فيها محورًا للمساجلات بين النخب العربية؛ إذ بهذا المعنى تكون سيريّات التطبيع أشبه بـ”ورطة ثقافية”. من علاماتها، أن عبارتي “الغزو الثقافي”، و”السلام السياسي” تؤديان مع الوقت إلى ترسيخ اصطلاح لا أساس له في الواقع. فهو- أي الاصطلاح- يفترض حصول سلام لم يحصل بالفعل. لكنه سيؤدي إلى حجب حقائق أخرى هي بمنزلة خرائط طُرق فعلية، للتطبيع الاقتصادي، والدبلوماسي، والأمني تجري وقائعها خلف ستائر كثيفة من الصمت.
في الثقافة السياسية الإسرائيلية يدخل المصطلح كقوة حاسمة، لكن لا مرئية في رحلة السيطرة على العقل السياسي العربي والإسلامي. ولقد عبّر الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان عن ذلك في الجانب المتعلق بمصطلح “السلام”. فقد رأى أن على الإسرائيليين أن يتخيّلوا سلامًا ناجزًا مع أعدائهم. لأن مجرد الاستجابة للدعوة (فلنتخيل السلام) يعني أولًا وقبل كل شيء أنه سيكون لنا مستقبل. ثم يستدرك ليوضح أنه لا يعني بهذه الدعوة، الكلام على مستقبل جيد أو مستقبل سيء، بل يعني بمثل هذا الحديث الإشارة إلى احتمال ما يجب أن تكون عليه الأطروحة الإسرائيلية في المستقبل ويقول: لعل جذر الأمر هنا هو أن كلمة “سلام” في وعينا نحن الإسرائيليين، يتعلق دائمًا بأمنية، وبأمل، وليس بوضع قائم كأن السلام في لغتنا كلمة فريدة من نوعها: اسم يخفي في داخله أمرًا ما. مثل مسافر كفيف يعمل بميل دائم لمستقبل. (دايفيد غروسمان، “فلنتخيل السلام”، ملحق يديعوت أحرونوت- 29/2/1993).
أفعال اللاهوت الثقافي الإسرائيلي
سلطة المصطلح التي يراد لها أن تكون قيدًا علينا، إنما تقع في أساس المنطقة المعرفية التي ستبنى عليها الثقافة السياسية الإسرائيلية. وإذا كان لدى هذه الثقافة حيوية الاستنتاج والابتكار على قاعدة زمن مديد من الشعور بالغلبة على الآخر، ففي اللاهوت الأيديولوجي اليهودي، من المفاهيم ما يفيض على الثقافة الإسرائيلية ويسدّدها ويمدها بأسباب الاستمرار. فإذا كان اليمين الديني الإسرائيلي مثلًا قد نشأ في أعقاب حرب حزيران 1967 ونتيجة لها، فإن لاهوته الأيديولوجي يسبقه تاريخيًّا بكثير، حيث بدأت نشأته- كما هو معروف- في الطائفة اليهودية في فلسطين على يد الحاخام كوهين كوك المتوفى في العام 1939؛ وهو الحاخام، الذي تحدّى رفض أغلبية اليهود الأرثوذكس للصهيونية، باعتبارها عقيدة مارقة تنكر مبدأً أساسيًّا في الديانة اليهودية- هو أن عودة المسيح المنتظر هي وحدها التي تعيد توحيد اليهود في أرض إسرائيل، وينتظر أن يكون اليهود سلبيين طوال هذه العملية، ومن ثم تكون الصهيونية اغتصابًا لما دبره الله لليهود، ونقيضًا لعملية خلاص اليهود. فالحاخام كوهين كوك كان بهذا المعنى يمارس فعلًا تأويليًّا لليهودية. ثم ليُسِهِمَ في تأسيس اللاهوت السياسي لدولة إسرائيل. ويرى كوك أن الصهيونية بشرت ببداية عصر المسيح المنتظر، زاعمًا أن الصهاينة كانوا في الحقيقة أدوات استعملها الله بغير علمها لتعجيل عملية خلاص اليهود، بأن يستوطنوا أرض إسرائيل مرة أخرى. وبذلك نال كوك رضاء الطائفة الأرثوذوكسية المتطرفة من خلال توظيف محكم لحيوية حركة قومية علمانية لا تتقيد بتعاليم الدين. وعقب حرب حزيران 1967 ترسّخ الاعتقاد بأن إنشاء الدولة هو بشير أمل ببدء عملية الخلاص. فقد مثّل الاستيلاء على الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي قلب أرض إسرائيل في الكتاب المقدس، تأكيدًا لآراء كوك، بمعنى أن انتصار إسرائيل العسكري وُضع في نطاق الارتقاء المتواصل لعصر المسيح المنتظر- طبقًا للحاخام كوك الابن، الذي استخدم آراء والده في هذا الشأن. وهي آراء تهتم بالسلوك الأخلاقي لليهود. بيد أن الحاخام كوك الأب استخدم استدلالات قائمة على القياس لسريان أحكامها على بيئة سياسية أكثر اتساعًا، عبر اللجوء إلى ما اعتبره “بيكواش نيفيش” معيارًا لتحديد أوضاع “الخطر الأخلاقي”؛ إذ بواسطته، يكون من الصعب على النفس اليهودية التخلي عن أرض مقدسة. ومن ثم يعد هذا التخلي خطرًا على الشعب اليهودي باعتباره أمة، وتنسحب أحكام “الهالاخاه” (العقيدة اليهودية باعتبارها تفسيرًا للتوراة) بحق عبادة الأوثان على من يتخلى من اليهود عن الأرض. وهكذا زعم الحاخام هيشت من بروكلين في العام 1995 أن الزعماء الإسرائيليين الذين يتخلون عن الأرض تدينهم “الهالاخاه” بجريمة جزاؤها الموت. وتم وصمهم بحكم جاء به التلمود هو المفرّط “موسير”، الذي يسري على اليهودي، الذي يشي بالشعب، أو يتخلى عن الممتلكات لغير اليهود. إلى هذا أصدر حاخامان لهما نفوذ في الضفة الغربية، هما دوف ليور وناحوم رابينوفيتش، حكمًا دينيًّا يعتبر رئيس الوزراء رابين مطاردًا أو مارقًا، بحيث يكون من الجائز قتله إذا وجد دليل على أن الحياة مهددة بالخطر. أما قمة التطور في هذا الحقل الأيديولوجي، فهي أفكار الحاخام مئير كاهانا. مع أن أفكاره ليست أيديولوجية متماسكة، لكنها تتضمن توقيرًا للعنف، إن لم يكن تقديسًا صريحًا له من أجل المحافظة على وحدة أرض إسرائيل. وكانت له تفسيرات لا نظير لها للأحداث التاريخية. فالكاهانية (أي: أفكار كاهانا) تعارض أفكار كوك نفسها، وترى أن الدولة اليهودية لم تنشأ بسبب من صوابية القضية الصهيونية، ولكن لأن الله لم يعد يتسامح مع استمرار اضطهاد غير اليهود لشعبه المختار، فقد أنشأ الله إسرائيل عقابًا لغير اليهود، لا مكافأة لليهود، ومن ثم فإن الدولة كانت فاضلة، لا لأن الصهاينة قوم ورعون، ولكن بسبب ما تلحقه تلك الدولة بغير اليهود. وعلى هذا الأساس أعاد كاهانا تفسير أفكار “الهالاخاه” الخاصة بـ”تقديس” اسم “الرب”، و”تدنيس” اسم “الرب”، معتبرًا أن هذا الأخير يشير إلى المهانة التي يشعر بها الله عندما يتعرض اليهود للقمع، بغض النظر عن سلوكهم الأخلاقي والتزامهم بالدين، بينما يتقدس اسم الرب، عندما يكون اليهود أقوياء.
وهذا الاعتقاد يعادل الإقدام على قتل الذين يعارضون الشعب اليهودي. وفي هذا الإطار، اعتبرت الكاهانية العنف عملية تطهير حررت الشعب اليهودي من اضطهاد المنفى وعبوديته. وعمّمت وصف عماليق الذي أعطي لأعداء الشعب اليهودي في الكتاب المقدس، ليشمل جميع أعداء اليهود في الماضي والحاضر والمستقبل- وقد جاء في التوراة أن الله طلب من الإسرائيليين تدمير قبيلة “العماليق” ليضفي شرعية لاهوتية على استخدام القوة من أجل تحقيق وحدة أرض إسرائيل وصيانتها. وبسبب من قدرة اللاهوت الأيديولوجي لليمين الديني الإسرائيلي على تسييل معتقداته في الزمن، فقد أدت هذه المعتقدات إلى إعطاء القيادة الإسرائيلية حرية كاملة في التصرف، وحيث فصلت النشاط الاستيطاني عن أي قيود أخلاقية أو إنسانية. وهكذا تلقى اليمين الصهيوني دفعة قوية. فالاستيلاء على الضفة والقدس، بما فيها من مواقع يهودية مقدسة، رسَّخ العلاقة التي تجمع بين “الشعب والله والأرض المقدسة”، وأعاد تأكيد القيم اليهودية، في تحديد طابع الدولة. ولكن القيم ازداد تأثيرها في القضايا السياسية في إسرائيل، وهي عملية عجّل بها انتخاب أول حكومة ائتلافية بزعامة الليكود، ومعها كاد يندمج في الأيديولوجية الناشئة لليمين الديني، الزعم بأنه لا توجد حكومة إسرائيلية يمكنها التنازل عن أي جزء من أرض إسرائيل، على أسس أمنية وتاريخية. ومع توسع نفوذ “جوش إيمونيم” في حركة الاستيطان تقوَّضت حركة الكيبوتزات. وأضحت الأيديولوجية الصهيونية التقليدية، بما تتضمنه من خصائص علمانية اشتراكية، قوة ضعيفة ومنهكة معنويًّا. حتى أنها وصلت إلى الإفلاس بسبب من تركيز اهتمامها على الصالح المادي وليس الروحي للشعب اليهودي. وبهذا التسلسل، وجد ما اعتبره حاخامات اليمين، ومنهم أميتال، صهيونية أخرى: اتجاهها الجوهري ليس تعادل شعب إسرائيل لكي يصبح أمة مثل جميع الأمم (حسب طروح هرتزل)، ولكن لكي يصبح شعبًا مقدّسًا، شعب الله الحي، الذي تكون قاعدته في القدس والتي يكون مركزها هيكل الملك.
بات واضحًا أن المحافظة على وحدة أرض إسرائيل هي الهدف الأسمى للقوميين الدينيين، وأنها تشكل الجزء الذي يكوّن قلب عقيدتهم اللاهوتية الأيديولوجية الناشئة. ومع استمرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في إسباغ قيمة كبيرة على التحكم اليهودي في الأراضي التي احتلت سنة 1967، نشأت قوى مترابطة مع القومية الدينية، على الرغم من استنادها إلى أسس أمنية. ولقد ترتب على اعتبار أن الأرض شديدة الأهمية لعملية خلاص الشعب اليهودي، أن تبلْوَرَت فكرة مؤداها، أن أي محاولة لمبادلة الأرض بالسلام إنما تعدّ اغتصابًا لإرادة الله، ويجب معارضتها. ولأغراض هذا التشكيل الأيديولوجي استخدمت لغة ورموز دينية عديدة من الكتاب المقدس، أبرزها العهد المبرم بين الله وإبراهيم بشأن الأرض، باعتبارها “مملوكة ملكية دائمة”. لكن تلك المواقف المؤكدة لقدسية الأرض استندت أكثر إلى “الهالاخاه” (والتلمود)، على الرغم من أن “الهالاخاه” لا تملك إلا القليل الذي تقوله “العماليق”. غير أن كاهانا استخدم هذا الوصف ليشمل جميع أعداء الشعب اليهودي، والفلسطينيين، خصوصًا. ولذلك كان يقول يجب على اليهود، إذا أرادوا تقديس اسم الله، أن يدمروا العماليق، وبهذا يدخلون العصر الحقيقي لعودة المسيح. وهو الرأي الذي روّج له قسم التعليم الديني، الذي ترعاه وزارة التعليم في إسرائيل، وطبقًا له لا يكون الحل الوسط بشأن الأرض مجرد مأساة سياسية، وإنما هو جرح كوني، وردّة إلى الاتجاه المضاد في الخطة الإلهية لانتصار اليهود على العماليق. (راجع: كلايف جونز، اللاهوت الأيديولوجي لليمين الإسرائيلي)، (مدارات غربية، العدد الخامس- شباط 2005، ترجمة كريم عبد الرحمن).
اللاهوت لاستعادة المعنى
إن القاعدة القبلية التي يؤلفها اللاهوت الأيديولوجي ستغذي المعارف البَعْدية، والقواعد الاستراتيجية والسياسية والأمنية لدولة إسرائيل.
سيكون الشعب الفلسطيني في الدرجة الأولى، هو مادة الاختبار الميداني لتطبيقات اللاهوت الأيديولوجي، وسيكون الوجه المتعلق بتشكيل أكثر من النفس الفلسطينية واستعادتها على نشأة جديدة مثالًا لعلاقة تمثُّلية بين المضطهد (بكسر الهاء)، والمضطهد (بفتح الهاء)؛ إذ على امتداد نصف قرن سعت دولة الحركة الصهيونية بما توافر لها من تقنيات إخضاع شديدة وعالية الدقة، إلى إعادة صوغ طبائع الشخصية الفلسطينية، على قاعدة الرضا بالاحتلال والذوبان فيه.
لقد ذهب العقل الإسرائيلي إلى ما هو أبعد من تطبيق ظاهر العلاقة مع الشعب الفلسطيني، كان عليه بعد الاستيلاء على الأرض وفاقًا لأطروحة اللاهوت الأيديولوجي “أرض شعب لشعب بلا أرض”. أن يمضي إلى احتلال المعنى، بحيث لا يكون الاضطهاد ذريعة لتحريك الثورة عليه، بل قوة إقناعية ترتد على ذات المضطهد فتجعلها ذاتًا مستلبة لا تلوي على أمر.
وللتنظير الفلسطيني في حقل علاقات القوة بين المحتل، وبين الخاضع للاحتلال حقول كلام عميقة الدلالة. كأن توصَّف العلاقة المشغولة بإتقان ممن يعيدون إنتاج الأطروحة الإسرائيلية، بتشبيه الاضطهاد بالحب، وذلك على قاعدة أن الحب لا يحتاج إلى أن يكون متبادلًا حتى يكون حقيقيًّا. والاضطهاد كذلك لا يحتاج إلى مضطهدين (بكسر الهاء) لكي يكون اضطهادًا، إذ يكفي أن تشعر بالاضطهاد لكي تكون مضطهدًا (بفتح الهاء).
لكن الفعل الفلسطيني سوف يضع المواجهات مع اللاهوت الإسرائيلي ضمن سيريّة معاكسة. هي نفسها السيرة الثورية التي تتجدد باستمرار على نشأة مستأنفة تقوم على استعادة المعنى كتوطئة لاستعادة الجغرافيا.
إذًا، كان لا مناص من مفارقة معنى الهزيمة، كشرط لمفارقة الشعور بالاضطهاد. فليس علينا أن نسهو عن حقائق أظهرتها التحولات الأخيرة في المواجهة مع الأطروحة الإسرائيلية:
– إخفاقات متلاحقة في احتواء أو تصفية حركة المقاومة الفلسطينية على المستويين العسكري والسياسي.
– الهزيمة الأولى لجيش الاحتلال الإسرائيلي في ربع العام 2000.
– الهزيمة الثانية حرب تموز 2006.
– بداية زمن جديد من الصراع العربي – الإسرائيلي، من علاماته الكبرى إمكان إلحاق الهزائم بإسرائيل بعد إيقاعها في هزيمتين محققتين بالفعل، وهزائم قيد الوقوع على جبهات أخرى.
– ذلك قد يرسي مقدمات ضرورية لقيامة المقولة الأمنية الثقافية العربية، على نشأة الاقتدار. وهو ما يفترض النظر إلى مصطلحات الأحقاب المهزومة، وأخصها مصطلح التطبيع، بوصف كونها ظاهرة سلبية في الأمن الثقافي لمجتمعاتنا.
إن مبدأ الزمن الجديد هو في تعامل النخب الثقافية العربية مع هذا المصطلح بوصفه رديفًا سياسيًّا وثقافيًّا وأيديولوجيًّا لسلام الإكراه. فلا يجوز– والحال على هذا الفهم- أن يدخل معنى التمثّل والهزيمة كواحد من العوامل المحرّكة للخطاب الثقافي العربي، ومن ثم فإن مجرد القبول مثلًا، بمصطلح التطبيع الثقافي فذلك يعني الإقرار الضمني بأنه حقيقة واقعية، أو بأنه إمكان قابل للتحقُّق.
كذلك فإن من شروط الممانعة على عدم الفصل بين أحياز التطبيع. من مثل عدم الفصل بين السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني إلخ… وبهذا المعنى يمكن الاستدلال على خط التطبيع من وجهه السياسي الدبلوماسي بالذات، فمن شاء ممانعة الثقافي، فعليه ممانعة السياسي. ولئن كان الكلام هنا يعني بالدرجة الأولى المثقفين، فلأنه يتوخى توليد حقول معرفية، تحدِّد المسافة بين وظيفة المثقف ووظيفة السياسي، فما يراه السياسي ويعمل وفق موجباته ليس بالضرورة ما يراه المثقف ويعمل عليه.
حين يرفض الثقافي مبدأ التطبيع فهو يرفضه بوجوهه وأحيازه كلها، فلئن كان الوجه السياسي والاقتصادي للتطبيع هو الذي يجري الآن مجرى الفعل اليومي، فإن الخطر يكمن فيه بالدرجة الأولى.
ثمة من يرى أن استعادة روح المقاومة ومفارقة أسباب العنف الأهلي، وتعميم مجالات التفاعل والتواصل بين المجتمعين السياسي والمدني وإطلاق الحريات، هي من الخطوات المؤسسة لمقاومة أي ضرب من ضروب التطبيع، وهي السبيل الذي يؤسس لقيام كتلة تاريخية تقاوم منطق الهزيمة وتداعياتها في الفضاء العربي بأجمعه.
إن وعي الهزيمة وثقافتها ومصطلحاتها هو قبل أي شيء مستهل وعي الممانعة ووجوبها، لأن إدراك الأمر في الحالين سوف يسقط الأوهام، ويضيء على أسئلة ظلّت محتجبة عنا زمنًا طويلًا.
إن القول بوجوب وعي جدلية الهزيمة والممانعة في آن يرمي إلى إنشاء التحيُّز الضروري بين ثقافة الامتناع والمقاومة وثقافة القبول والتمثيل، وهو الفصل الذي يمكّن النخب الثقافية العربية والإسلامية من استعادة قضاياها الغائبة، أو تلك التي غُيّبت في زحام الهزائم والتراجعات على مقربة منا اليوم شاهد على واجبية وعي استعادة المعنى.
الانهزام الإسرائيلي في لبنان، حدث لم نستيقظ بعد على عمقه وأهميته وتاريخيته. ربما لأنه جاء في زمن لا يزال اللبنانيون فيه يعيشون آثار نزاعهم وفرقتهم. ولأنه جاء أيضًا في زمن عربي مكتظ بالتراجعات ومشاعر الخيبة المزمنة. وهذا وجه مأساوي لحدث التحرير. يجب أن نعترف بهذا الحيز من المشهد، لأن الاعتراف به سيجنّبنا إهمال أسئلة جرى السكوت عنها ردحًا طويلًا من الزمن، مثلما سيمنحنا ذلك الاعتراف بإمكان نادر، هو مراكمة وعي النصر تراكم علينا وعي الهزيمة.
ربما علينا أن نضيء وجه الحدث الأكبر لنستضيء به في العتمة العربية الشاملة. لا يقتصر الأمر على السياسة وحسب، أو على موازين القوى العسكرية وما للأمر من دلالات ودروس ومعان. ينبغي أن نرى التحرير، بما هو أطروحة لم نؤتَ بمثلها منذ أكثر من نصف قرن، أنها أول هزيمة للكيان الصهيوني وأول انتصار لنا، فعلى هذه المعادلة يمكن أن ننهض على نصاب جديد. وبداية هذا النصاب وعي ثقافة التحرير، ووعي التحرير نفسه، بما هو بداية ثقافية ومعرفية وفكرية، وبما هو تأسيس حيوي لحداثة كنا أخذنا بها ولم يتسنَّ لنا التفقّه بوجودها الواقعي، فإذا كانت الحداثة بالقدرات والإرادات، فإن أطروحة المقاومة والتحرير هي عين الحداثة التي نريد، وهي عين الخروج من الهزيمة وظلامها.
أما في الملحمة الفلسطينية التي سيشهد التاريخ عليها بوصفها ملحمة قرن مضى وقرن يجري، فثمة ما ينبئ بتهافت بيّن للمقدس السياسي الإسرائيلي. لقد أفلحت مفاعيل الإرادة الفلسطينية على مساحة طويلة المدى من الصبر السياسي والكفاح الوطني الجسور من إسقاط أهم الأطروحات التكوينية لدولة الاغتصاب، عنيت بها أطروحة الاحتلال، وحين يقاتل الشعب الفلسطيني على أرضه التي أدخلها اللاهوت الصهيوني في أرض إسرائيل الكبرى يكون قد حفر المجرى الفعلي لتحرير الأرض كلها. هذا هو السبب، الذي حمل العقل السياسي في إسرائيل على استخدام اللامتناه الأمني بإزاء الخطر، الذي يتهدد الوجود الإسرائيلي برمته.
إن الصورة الإجمالية لتحولات الصراع العربي- الإسرائيلي، على ما فيها من غلبة ظاهرة لإسرائيل، تنطوي على عوامل تفاؤل لا مناص من الأخذ بها وتفعيلها وترشيدها عن طريق تصفية آثار الاحتلال، الذي يملأ الفضاء العربي على كل المستويات. وهذا يقتضي إعادة تشكيل ثقافة العداء التاريخي للكيان الصهيوني، وإعادة الاعتبار لمفهوم الوحدة في مجال عمل الحكومات والمجتمعات على السواء، ووقف العوامل المؤسسة للعنف والحروب الأهلية في مجتمعاتنا، وإنشاء الحياة السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية على أرض التسامح والاعتراف المتبادل بين أحيازها وقواها وأحزابها وتنظيماتها السياسية والمدنية. إن ذاك النحو هو الذي سيطلق حرية الممانعة والمقاومة بأشكالهما كافة، وهو الذي سيمنح الأمة الثقة بأن من الممكن تحويل الهزيمة إلى نصر، وسيجعل من مقولة التطبيع مجرد خرافة، ومن أطروحة الاحتلال أمرًا زائلًا.
كان يقال: لكي تتوازنوا في لحظة الصدام، ضعوا تفاؤل الإرادة مقابل تشاؤم العقل. ذلك أيضًا حتى لا تبلغ الهزيمة بكم مداها الأخير. الآن يمكن الكلام على مقالة ثقافية هي في طور التأسيس: “إن تفاؤل الإرادة هي عين تفاؤل العقل لو هما قاما معًا…”.
لو عاينّا حرب لبنان الأخيرة، بوصفها “حرب المعنى”، لظهر لنا كيف انقلبت مفاهيم كبرى فتحوّلت إلى الضفة المعاكسة لأطروحة الغلبة الإسرائيلية.
لكن تحويل السؤال حول نهاية الأطروحة الإسرائيلية إلى قضية ثقافية ومعرفية وفكرية هي المبتدأ والخبر بلا أدنى ريب.
المقالات المرتبطة
الروحانية وعلم النفس(8)*
كان البحث عن معنى للحياة بعيدًا عن الدين وبمعزل عن الروح هو أزمة العلمانية الكبرى خلال قرونها الثلاثة الأخيرة، فسعت لملء الفراغ بالأشياء المادية
مصطلحات عرفانية | الجزء 14
لبطون: التجلي بمقام البطون من الأوصاف القدسية، وهو متأخر عن البطون الذي في حضرة الحقيقة الغيبية الأحدية. (مصباح الهداية، خميني، الصفحة 10).
– الباطن: التجلي بمقام الباطن من الأسماء الإلهية والربوبية