كلام في الروحانيّة (4)[1]
إنّ منظار العقل السلیم حادّ وقوي، وبمجرّد أن نضعه أمام أعیینا ونتوجّه إلى أعماق أنفسنا فإنّنا سنطلّع على مشاهد لم نعتد علیها ونحن مستغرقون في رغباتتا وحاجاتنا المادیة.
إنّ العقل أطلعنا على مشهد جدید، وذلك عندما نظر إلى ما هو مشترك بین الناس، وحین طلب منا أن نخرج من الاستغراق في أنفسنا قلیلًا… وإذ بجمیع البشر یتحرّكون ویندفعون للوصول إلى شيء مشترك، هو لذة الوصول إلى الكمال، والتي يختلف مفهومها وتعريفها بين البشر قد یسمیها البعض السعادة، وآخرون قد یسمونها الحیاة الطیبة أو البقاء أو الخلود! وهذا ما یسمّى بالروحانیّة، أو الحاجة إلى إشباع هذه المسمیات كل بحسب معتقده وفلسفته.
ولكنّ العجیب أیضًا أنّ هذا المطلب كان ولا یزال في كل الحضارات والقومیات والفلسفات، وعلى مدى التاریخ وراء كلّ هذه الاندفاعات والأعمال والإنجازات الكثیرة المتشعّبة والمتنوّعة والتي انبثق منها طقوس وعلوم غریبة.
وأثناء هذا التأمّل العقلي یرسل إلینا المنظار إشارة ثابتة بأنه اكتشف وجودًا دائمًا لمجموعة من المیول التي كانت الدافع الأساسي لیتحرّك منها الجمیع نحو ذاك الهدف، فحتى لو اختلف الناس في كل شيء، إلا أنّهم لم یختلفوا في وجود هذه المیول المشتركة.
یتعجّب العقل من هذا التكثّر للوهلة الأولى! لا بدّ أن یكون هناك عوامل خارج إرادة الناس واختیارهم، وقد أوجد فیهم هذا الأمر المشترك، فلماذا لا یتّفق الناس جمیعًا مع كل هذا التنوّع والعدد الهائل، على أن یخترعوا أمرًا مشتركًا فیما بینهم ویختلقوه؟
وحیث إنّ العقل لا یعرف الهزل، عرف: أنّ حكمة الله المطلقة لم تدع لغیره حكمة في مقابله.
الذي أراده الله تعالى للإنسان الأصلي، المشهد الحقیقي للوجود الإنساني في نشوئه وغایته، والحكمة من خلقه. وهذا السالك لطریق الآخرة بالآداب المعنویة، ناظر بقلبه إلى جمال المحبوب مستعینًا به على خرق حجب النفس الطاغوتیة، متوسلًا بآل بیت محمد الآطهار (ص) للعروج إلى كمال الروحانیّة لخرق حجاب الإنیّة، والسير في قدم العبوديّة.
شبهة أنّ الروحانيّة إكرام للذات الفردية وتحديد التجانس والوحدة في العالم
إنّ الوجود حقيقة لا يقبل التقسيم، ولا يخضع لتطوّر الفكر وتجاذباته، وإنّ حقيقة الوجود ليست خاضعة للتجريب ولا تدخل في متاهات التيه.
لن يُغلق باب التفكّر أمام إمكانيّة الوصول للمعرفة الحقيقية طالما أنّ المرجعية هي الموجد المدرك، وهو الذي يعرّفنا الوجود والعالم، وتوصيف الواقع، وبالتالي الحقيقة، ولكن تمّ ستر هذه المرجعيّة بسيل من الذاتيّة الفردانيّة.
المعادلة الماديّة تقوم على أنّ الروحانيّة المعرفيّة الذاتيّة الفرديّة هي الوجود الحقيقي للفرد، ومحور حياته، وقد استند المادّيون إلى معارف نسبيّة غير حقيقيّة، وغير ثابتة تحت شعار المادّية والواقعيّة والروحانيّة، للابتعاد عن الحقيقة والحق جل وعلا.
إنّ انتظام جزئيّات الكون تعكس حكمة الصانع، إذا تأملنا في المخلوقات فنرى جزئيات الكثرات، تدل على غاية قصديّة واعية كامنة خلفها، وبعض الإشارات تؤكّد على اتصال النظم الكونيّة تدل على قدرة الصانع وخلقه لنظام متعدّد من الكثرات والتنوّع والتعدّدية الهائلة في الموجودات. إلا أنّ هذا الشتات يوصل لحقيقة واحدة:
موجد حكيم مدبّر، وهذا يعني افتراض وجود خالق ملازم دومًا للأحديّة والوحدة والبساطة والقدم والإطلاق واللاتناهي، والكمال والتحرّر من الماهية والتعريف المنطقي (بالجنس والفصل).
إنّ إدراك الوجود یتناقض مع تصوّر العبث. إنّ رؤیة الكائنات والنفس على أنها آیات ومظاهر للذي أوجدها ینسجم مع الوحدانیّة للحق تعالى، ویقدم لنا الحقیقة الشاملة التي تنقسم إلى خالق وتجلّیاته.
إنّ هذا الانسحام والتناغم نراه في تحقّق الاتصال الإدراكي مع الأشیاء. إن كانت ماهیّة الشىء غیر محدّدة لغایة معیّنة، وغیر مقتصرة على نطاق محدود فهي مطلقة، وإن كانت محدّدة فذاك لغرض وهدف.
إنّ إدراك معنى ودلالات الوجود وحقیقته تؤدي إلى الوصول إلى البساطة والوحدة، فالمنظومة الكونیّة الكلیّة ترتبط مع الكثرات في نظام واحد كلي وبسیط، لكل شيء في العالم مكان فیه وهو ذو منبع واحد فرض على كل الأشیاء انتظامها الكوني، هذه الوحدة والبساطة هي التي تنظم إدراك الواقع الموحّد والبسیط والمتجانس تحت ظل القیمومیّة الوحدانيّة.
[1] ملف من إعداد طالبات في معهد المعارف الحكمية، وبإشراف الدكتور أحمد ماجد، وهو عبارة عن سلسلة مقالات ستنشر على موقع المعهد، وسنترك ذكر المصادر التي استخدمتها الطالبات إلى نهاية السلسلة.
المقالات المرتبطة
خدمة الناس والرحمانية الإيمانية- بث مباشر
الحلقة الأولى من برنامج #موعظة_وآية مع سماحة الشيخ شفيق جرادي الذي سيرافقكم عند 2 ظهرًا طيلة أيّام شهر رمضان المبارك
التأويليّة الإسلاميّة وسؤال المعنى
يتمّ تناول النصّ من خلال ما يثيره من معانٍ تنسبق منه إلى ذهن القارئ، ويتجلّى المعنى وفق مستوياتٍ متفاوتةٍ تساهم فيها المفردة اللغويّة إلى جانب تركيب الجملة والسياق الكلّي
معيارية العدالة في البناء الحضاري الاجتماعي والانساني
تقوم فكرة معيارية العدالة على مرتكزات ثلاث:
أولها: تحديد معنى القيم كالعدالة، وكيف يمكن، ومتى يمكن اعتبارها معيارية؟ ثم الانشغال بترابط مجال القيم الإسلامية بالعدالة، وعلى أي أساس اعتبرناها معيارية في البناء الحضاري، بعد تأكيد معياريتها في البناء المجتمعي