دراسة في شخصية العقيلة زينب وأبي الفضل العباس (ع)

تُعدّ العصمة من المفاهيم المركزية في العقيدة الإمامية، إذ تتصل بجوهر التصور الإسلامي عن القيادة الدينية والروحية، وعن دور الأئمة وأولياء الله في حفظ الشريعة وصيانة الرسالة من الانحراف. وإذا كان الاعتقاد بالعصمة ركنًا أساسيًّا في فهم مقام النبي والأئمة الاثني عشر (ع)، فإن البحث في دوائر العصمة خارج هذا النطاق يفتح أفقًا واسعًا لفهم مكانة بعض الشخصيات الاستثنائية من أهل البيت، ممن لم تُدرج ضمن الأئمة المعصومين، لكنهم تميزوا بمستوى من الطهارة والعناية الإلهية جعلهم أقرب إلى مفهوم “العصمة الصغرى”.

وتأتي شخصيتا العقيلة زينب بنت علي (ع) وأبي الفضل العباس بن علي (ع) في مقدمة هذه النماذج. فقد مثّل كلاهما تجلّيًا عمليًّا للعصمة، من حيث الثبات على الحق، والالتزام الكامل بطاعة الإمام المعصوم، وتجسيد القيم الإسلامية في أصعب الظروف. فهما لم يكونا مجرد شخصيتين تاريخيتين، بل رمزين خالدين في الوجدان الشيعي والإسلامي.

الفصل الأول: مفهوم العصمة في العقيدة الإمامية.

  1. التعريف اللغوي والاصطلاحي.

العصمة في اللغة مأخوذة من مادة “عصم”؛ أي المنع والحفظ. يقال: “عصم فلان فلانًا”؛ أي منعه وحماه. (ابن منظور، لسان العرب، ج12، ص405).

أما في الاصطلاح العقائدي، فالعصمة تعني لطفًا من الله يوجب على المكلَّف اختيار الطاعة واجتناب المعصية مع القدرة على الفعل والترك، بحيث لا يقع منه الذنب ولا السهو ولا الخطأ في تبليغ الدين. (الطوسي، الاقتصاد، ص197).

  1. أدلة العصمة.

القرآن الكريم: مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ…﴾ (سورة الأحزاب، الآية 33). وقد فسّرت الإمامية هذه الآية بأنها نص في عصمة أهل البيت (ع). (المجلسي، بحار الأنوار، ج35، ص210).

السنة النبوية: حديث الثقلين: “إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي”. (الكليني، الكافي، ج1، ص294).

الدليل العقلي: يقتضي العقل ضرورة عصمة المبلّغ عن الله، لئلا يُحتمل في تبليغه الكذب أو الخطأ. (المفيد، أوائل المقالات، ص38).

  1. أنواع العصمة.

العصمة الكبرى: التي تختص بالأنبياء والأئمة (ع).

العصمة الصغرى: التي تتعلق بأولياء الله من أهل البيت، أو بعض الشخصيات الخاصة، بحيث لا تصل إلى مستوى العصمة التشريعية المطلقة، لكنها تمثل صفاءً روحيًّا يمنع من مخالفة الله عمدًا. (المفيد، أوائل المقالات، ص38).

الفصل الثاني: العصمة وتجلّياتها في شخصية العقيلة زينب (ع).

  1. موقعها العلمي والروحي.

العقيلة زينب (ع) نشأت في بيت العصمة والنبوة، فتربّت في مدرسة علي وفاطمة والحسن والحسين (ع). وقد وصفها الإمام السجاد (ع) بقوله: “أنتِ بحمد الله عالمة غير معلَّمة، فهمة غير مفهَّمة”. (الحر العاملي، أمل الآمل، ج2، ص213). وهذا النص شاهد على مقامها العلمي الذي يقترب من العصمة.

  1. دورها الرسالي بعد كربلاء.

بعد واقعة الطف، كانت زينب (ع) الصوت المدوّي الذي نقل المأساة إلى الأمة. تعدّ خطبها في الكوفة والشام نصوصًا عقائدية وسياسية بالغة الدقة، تعكس شجاعةً لا تصدر إلا عن نفس مؤيَّدة. (المقرم، مقتل الحسين، ص357).

3.مدى شمول العصمة لها.

ذهب بعض العلماء إلى أن زينب (ع) لم تكن معصومة بالمعنى المصطلح، لكنها بلغت مقام العصمة الصغرى، أي العصمة العملية الناشئة من صفاء الطينة وكمال الطاعة. (الخوئي، معجم رجال الحديث، ج24، ص239).

الفصل الثالث: العصمة وتجلياتها في شخصية أبي الفضل العباس (ع).

  1. مقامه عند أهل البيت.

قال الإمام زين العابدين (ع): “رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة”. (الطبرسي، إعلام الورى، ج1، ص460). هذا النص يدل على عظمة مقامه وقربه من العصمة.

  1. صفاته القيادية والإيمانية.

كان أبي الفضل العباس (ع) صاحب بصيرة نافذة، وطاعة مطلقة للإمام الحسين (ع). لم يسجل التاريخ له أي زلة أو تردّد. وقد لقبه الحسين بـ”قمر بني هاشم”؛ لما جمع من نور الباطن وظاهر الجمال. (المجلسي، بحار الأنوار، ج44، ص390).

  1. منزلة الطاعة والعصمة الصغرى.

بلغ العباس (ع) مقام “العبد المطيع” الذي لا يخالف أمر إمامه المعصوم. وهذا هو جوهر العصمة العملية. علماء الإمامية كالشيخ محمد حسين المظفر اعتبروا العباس في عداد أولياء الله الذين يصدق عليهم معنى العصمة الصغرى. (المظفر، بطل العلقمي، ج1، ص22).

الفصل الرابع: المقارنة بين زينب والعباس في التجلي العملي للعصمة.

الجامع المشترك: كلاهما جسّد الطاعة المطلقة للإمام الحسين (ع)، وحمل أعباء الرسالة في ظروف استثنائية.

الخصوصية الزينبية: تمثلت في الخطاب الرسالي والسياسي بعد الواقعة، حيث أصبحت الناطقة الرسمية باسم نهضة الحسين. (المقرم، مقتل الحسين، ص360).

الخصوصية العباسية: ظهرت في ميدان الجهاد، حيث كان ذراع الحسين في القتال، ورمز الوفاء في نصرة أهل البيت. (المجلسي، بحار الأنوار، ج44، ص392).

كلاهما إذن مثالان على أن العصمة ليست مجرد مفهوم نظري، بل يمكن أن تتجلى عمليًّا في سلوكيات بعض أولياء الله المقرّبين.

من خلال هذا البحث تبيّن لنا:

أن العصمة مفهوم عقائدي محوري عند الإمامية، يقوم على الدليل النقلي والعقلي. وأن دائرة العصمة لا تنحصر بالأنبياء والأئمة، بل هناك نوع من العصمة العملية (الصغرى) يمكن أن يتحقق في أولياء الله. إن العقيلة زينب (ع) جسّدت العصمة في مقام العلم والثبات والخطاب الرسالي. وأبا الفضل العباس (ع) جسد العصمة في مقام الطاعة المطلقة والإيثار والفداء.

فالمقارنة بينهما تكشف عن وحدة الهدف الرسالي، رغم اختلاف مجالات التجلي، الكلمة عند زينب، والسيف عند العباس. وهكذا يتأكد أن دراسة العصمة من خلال هذه الشخصيات تعمق فهمنا لمقام أهل البيت (ع)، وتبرز كيف أن الطهارة الإلهية قد تنعكس في وجوه متعددة ضمن مشروع السماء.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.