غياب الإلهيات عن الثقافة

غياب الإلهيات عن الثقافة
تراجعت، في الآونة الأخيرة، عند كثر من المهتمين بالدراسات الدينية، المباحث العقائدية المعمّقة أو ما يُصطلح عليه بالإلهيات، وصار الشغل الشاغل عندهم ما له علاقة بمباحث السياسة والاجتماع، وقضايا ترتبط بشؤون الحياة العامة. كما صارت مرجعيات القراءة والمراجعة أسماء شخصيات فكرية، وإن كانت تُحتسب من حيث العناوين على الإسلاميات، إلّا أنها تنتهج مناهج حداثوية في البحث والنقد والأحكام.
وهذا الأمر يعكس استنتاجات منها:
1- أن المزاج الثقافي صار يستبعد الاهتمام بمباحث الفلسفة والعقائديات المعمّقة، وهو استبعاد انعكس خارج الإطار الديني، على الجامعات ومراكز الأبحاث.
2- إن الناس لم تعد تهتم بالأمور النظرية البحتة، بمقدار اهتمامها بما يقرب من الأمور العملية التي قد تنتج مصلحة مباشرة أو ثقافة مباشرة وراهنة.
3- انعكاس أفول الأيديولوجيات الذي كان يحفِّز على النقاشات التأصيلية للعقائد والرؤى. وبزوغ مرحلة من اعتماد التجربة والفاعلية النشطة كمعيار للصواب والخطأ. الأمر الذي استدعى أن تكتسي المباحث ألوانًا وأطيافًا من الاهتمامات الحركية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك.
4- انتقال الحراك الإسلامي من مرحلة الإسلام المذهبي، إلى مرحلة الإسلام العملي، بحيث إن قدرة الإسلام وقيوميته صارت تتكئ على مدى نجاحه في نظام الهداية، وَنَظْم الحياة العامة للناس والمجتمع والدولة. وهو ما يفرض استفراغ الوسع في إنتاج نظريات من الواقع، وإن على أصول اجتهادية – نصية وعقلية. بعد أن كان طرح المسلمين يعتمد على سرد الأصول المذهبية والنظرية للإسلام، والعمل على بثها في مجالات الحياة العامة وشؤون المجتمع ومشاكله.
5- لكن هنا لا بدَّ لنا من الاعتراف بغياب أسماء الشخصيات الفكرية التي تمثل مرجعيات الأطروحة الإسلامية. برغم التوالد الباهر والدائم والمتطور لمؤسسات العمل البحثي، وهي مؤسسات لم تكن موجودة البتة في المرحلة السابقة لنشوء وقيام الدولة الإسلامية – الإيرانية. وهذا ما بعثر القراءات المنتظمة عند الشباب القارئ منه والباحث.
لكن برغم كل هذه الاستنتاجات، لا بدَّ من القول: إن الفكر الإسلامي ما لم يُعمِّق وبشكل داعم نظرته وقراءاته وبحثه في مجال الإلهيات المعمَّقة، وبطريقة تلحظ كل تطور في مسار الفكر أو المزاج الثقافي، فلن يستطيع تقديم الإضافات الجديدة، المبنية على التأصيل والابتكار لأن المعالجة الإسلامية للمستجد من شؤون الحياة، لا يمكنها أن تخضع للراهن كما لا يمكنها أن تتجنبه. فهي في الوقت الذي تنظر للراهن كموضوع للمعالجة، فإن المنطلق والغاية والمنهج، بل ومنطق المعالجة يجب أن يستند للنص وللتراث البحثي، العقائدي، الأخلاقي، والفقهي.
ولا غنى لنا اليوم عن الاستغراق في تعميق مداركنا البحثية العميقة من أجل إنتاج علوم ومعارف ترشِّد الواقع العملي والمسلك الذهني والثقافي لأجيالنا الحالية.
 

الشيخ شفيق جرادي

الشيخ شفيق جرادي

الاسم: الشيخ شفيق جرادي (لبنان) - خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت.  تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.



المقالات المرتبطة

أساس الليبرالية الأخلاقي

هذه الورقة لا تنتمي إلى حقل السياسة أو فلسفتها، وإنما تنتمي إلى حقل فلسفة الأخلاق. ولا تنقد الليبرالية كممارسة سياسة،

الشهيد الحاج قاسم سليماني: أيّ معنى لمسار الشهيد؟

إنّ الشهادة ترقّي في الوجود وليست خاتمة للوجود، لهذا كان الشهيد حيًّا ما بقي الليل والنّهار، وعنوان خلود ما طلعت الشمس وهبّ النسيم.

الإيمان والإنسان: مقاربة قرآنيّة

يسطّر القرآن حركة الاندفاعة الإيمانيّة نحو عالم الغيب، ويرى من مقتضياتها توافر الإنسان على المدارك الملائمة لمعرفة الغيب والإيمان به

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<