المقاومة المعرفيّة

أوليفييه هودي[1] (olivier houdé)
ترجمة د. عفيف عثمان [2]
بفضل التقدم في علم النفس التجريبي والتطور في تصوير الدماغ، اكتشف أوليفييه هودي أن هناك منطقة في دماغ الطفل قادرة على تثبيط الحدس السريع للغاية.
إنها إشارة “التوقف” التي يرسلها الدماغ، والتي تجبرنا على التفكير قبل اتخاذ القرار. ومع ذلك، فإن المدارس لديها وجهة نظر سلبية في ما يتعلق بالتثبيط الذي يعد على الرغم من ذلك مفتاح الذكاء. ولذلك، فإن هذه القدرة على التحكم المثبط ليست مدربة بشكل كافٍ لدى الأطفال، وهو ما يفسر عدم المنطقية التي تستمر لدى البالغين، مثل التمسك غير المعقول بالأخبار الكاذبة على سبيل المثل.
لذا، من الضروري أن نتعلم كيف نقاوم!
هنا تعريب لتمهيد كتاب “تعلم المقاومة، لمحاربة التحيّزات المعرفية”[3]، ولقسم من الفصل الأول الذي يحمل عنوان “المقاومة المعرفيّة” (من ص 5 إلى ص 12).
التمهيد.
لا يوجد شيء أكثر متعة من مشاهدة طفل يتساءل. وفي هذه “اللحظة الإدراكية”، لدينا الانطباع بأنه يكتشف العالم وإمكانيات دماغه، وهو بالتالي متعطش للثقافة والتفاعل بين الأشخاص. إنه يتعلم!
ولكن كيف يتعلم بالضبط؟ ماذا يحدث نفسيًّا في تلك اللحظة التي تسبق الإجابة الصحيحة أو حتى الخطأ؟ اليوم أصبح السؤال الحقيقي هو سؤال العلم! بقدر أهمية فهم كيفية عمل الكون؛ لأن التعليم والتصميم التربوي للتعلم في المدرسة يعتمدان عليه، في عالم أصبحت فيه المعلومات والمهارات المعرفية مهيّمنة في شكل متزايد.
ولهذا السبب، ومنذ عمل عالم النفس السويسري الشهير جان بياجيه[4] (Jean Piaget) (1896-1980) في القرن العشرين المنصرم، أصبحت العلوم المعرفية الحالية مهتمة بشكل متزايد بأساليب التفكير لدى الأطفال، وحتى الرضع، وإبداعهم. كما حال العلماء، لدى الأطفال “وظيفة” اكتشاف الواقع ودقائقه. إنهم يمتلكون ومضات فكرية، ولكنهم يمتلكون أيضًا تحيّزات معرفية تقودهم في شكل منهجي إلى الخطأ، يجب عليهم أن يتعلموا مقاومته! إن مراقبة كيفية تعلم الطفل باستخدام أسلوب تجريبي هو مثابة ممارسة فلسفية، أو بالأحرى، ممارسة علم النفس، بطريقة علمية، وأيضًا ممارسة التربية (البداغوجيا).
في مواجهة “خراف بانورج”[5] (moutons de Panurge) التي انتقدها رابليه ذات مرة. سواء كان الأمر يتعلق بالحركات المتسرعة للغاية للخلايا العصبية في دماغ كل شخص أثناء التعلم المعرفي، أو التأثيرات الاجتماعية الخارجية، يتعين علينا أن نتعلم مقاومة التفكير التلقائي عندما يكون تبسيطيًّا وخطيرًا، بما في ذلك عند البالغين. فالروح النقدية هي التي يتوجب على الشباب تنميتها وصقلها في المدرسة.
نشاط الدماغ.
مع التقدم السريع في علوم الكمبيوتر والعلوم الإدراكية وتصوير الدماغ، يمكننا الآن إنتاج صور رقمية ثلاثية الأبعاد على أجهزة الكمبيوتر مرتبطة بنشاط الخلايا العصبية في أي نقطة في دماغ شخص بالغ أو طفل. وفي شكل أكثر دقة، فإن ما نقوم بقياسه باستخدام هذه التقنيات هو نشاط شبكات الدماغ، التي تتكون كل منها من ملايين الخلايا العصبية.
داخل رؤوسنا، وخلف جمجمتنا، تشكل هذه الشبكات الأساس لجميع ردود أفعالنا، وجميع سلوكياتنا، وتوجهها.
لقد عرفنا هذا الأمر منذ ما يقرب من ألفي عام مع نظرية مركزية الدماغ عند أفلاطون، ولكن لا شيء سمح لنا، حتى وقت قريب جدًّا، بمراقبة هذه الشبكات العصبية أثناء عملها على نحو مباشر! لم يتمكن العلماء من تصور الدماغ البشري في الجسم الحي، أي في حالة حقيقية من التكيف البيولوجي، إلا منذ نهاية القرن العشرين الفائت، أي منذ ما يقرب من عشرين سنة تقريبًا: الدماغ الذي يتعلم القراءة والحساب وما إلى ذلك.
من جميع الجهات، الدماغ نشط… ولكن، حصل تحول دراماتيكي للأحداث، من بين المجموعة من النتائج الجديدة اكتشفنا أيضًا أنه من أجل التفكير الجيد، يتعين عليك أحيانًا تثبيط عقلك! وفي صورة أكثر دقة، يجب على الدماغ أن يطلق آلية تحكم معرفية تمنعه جزئيًّا من القيام بعمله.
التثبيط والتكيف.
تتم ملاحظة هذه العملية الرائعة من التكيّف، أي التراجع خطوة إلى الوراء، عندما يتعين على الدماغ أن يتعلم مقاومة استجاباته السريعة والاندفاعية وأخطائه المعرفية.
على سبيل المثل، لاختبار سلامة تفكير الطفل، أخبره أن أ) الفيلة تأكل التبن، ب) أكلة التبن ليست ثقيلة. ثم اسأله هل هذا يعني أن ج) الفيلة ثقيلة؟ غالبًا ما يجيب أطفال المدارس الابتدائية (6-12 عامًا) بـ “نعم”، على الرغم من عدم وجود ما يسمح لدماغهم بهذا الاستنتاج منطقيًّا من مقدمات القياس المنطقي، أي من الجملتين الأوليين (أ و ب). وقد تبين أن صعوبة هذا النوع من مهام الاستدلال، أثناء عملية النمو، تكمن في القدرة على تثبيط المحتوى الدلالي للاستنتاج (شبكات الدماغ التي تسمّى “المعرفة الدلالية”، أو “المعرفة العامة”)، أي هنا الاعتقاد القوي لدى الأطفال حول وزن الفيلة، ومن هنا جاءت ردود أفعالهم السريعة والخاطئة.
في الواقع، هناك ثلاثة أنظمة في الدماغ: الأول سريع وتلقائي وبديهي (النظام 1). والآخر هو أكثر بطئًا ومنطقيًّا ويتفكر أكثر (النظام 2). وثمة نظام ثالث، يعتمد في أواليته على قشرة الفص الجبهي[6] (le cortex préfrontal)، ما يسمح بالتحكيم، على أساس كل حالة على حدة، بين النظامين الأولين. هذا النظام 3 هو الذي يضمن تثبيط العمليات الفكرية التلقائية (تلك الخاصة بالنظام 1: على سبيل المثال، “الأفيال ثقيلة”)، عندما يتم تطبيق المنطق يغدو (النظام 2) ضروري. يتطور عند الأطفال، النظامان الأولان بالتوازي، لأن لديهم بالفعل قدرات منطقية، لكن النظام الثالث وقدرته المثبطة يصلان لاحقًا. هذا الدماغ المسمّى “تنفيذي” يعتمد على نضوج قشرة الفص الجبهي.
وهناك مثل آخر في مجال الرياضيات يسمح لنا بفهم عمومية هذه الظاهرة. هذه هي مهمة حفظ الأعداد التي اخترعها جان بياجيه. عندما يواجه الطفل صفين بهما نفس عدد القطع (6 و6، على سبيل المثل)، ولكن بأطوال مختلفة (بعد تباعد القطع في أحد الصفين)، فإنه حتى سن السابعة يعتبر الطفل أن “هناك المزيد (من القطع) حيث يكون أطول”.
كان بياجيه يعتقد أن الطفل غير منطقي، وأنه خاضع لسيطرة نظامه الأول. ومع ذلك، تكمن الصعوبة هنا في تعلم كيفية كبح الاستدلال “الطول يساوي العدد”، على الرغم من أن الطفل قادر بالفعل على العد.
الاستدلالات والخوارزميات الدقيقة.
في الدماغ، تعتبر الاستراتيجية الاستكشافية (الاستدلال)، استراتيجية سريعة جدًّا وفاعلة للغاية – وبالتالي فهي اقتصادية بالنسبة للطفل- التي تعمل في شكل جيد للغاية، في كثير من الأحيان، ولكن ليس دائمًا، بخلاف الخوارزمية الدقيقة، هي استراتيجية أبطأ وأكثر تفكيرًا، ولكنها تؤدّي دائمًا إلى الحل الصحيح (القياس المنطقي، العد، إلخ). على سبيل المثل، على رفوف السوبر ماركت، بشكل عام، صحيح أن الطول والعدد يختلفان معًا (متغيران): عندما نواجه صفين من المنتجات من النوع نفسه، فإن الصف الأطول يحتوي أيضًا على أكبر عدد من المنتجات. يكتشف دماغ الطفل هذا النوع من الانتظام البصري والمكاني في وقت مبكر جدًّا. “الطول يساوي العدد”، وهو بالتالي استدلال ذو طبيعة إدراكية. في المثل السابق، كانت عبارة “الفيلة ثقيلة” عبارة عن استدلال ذو طبيعة دلالية، أي المعرفة المعتادة (عن الحيوانات في هذه الحالة) المخزنة في الذاكرة.
إن تحديد هذه الظواهر المتمثلة في المقاومة المعرفية للدماغ من خلال تثبيط الاستجابات البديهية والتلقائية (الاستدلالات على النظام 1) مهم أيضًا لفهم الصعوبات في المدرسة الابتدائية. على سبيل المثل، نحن نعلم أن الأطفال في الفصل الدراسي غالبًا ما يتعثرون في عبارات لفظية مثل: “لدى لويز(Louise) 25 كرة زجاجية. لديها 5 كرات زجاجية أكثر من ليو(Léo). كم كرة زجاجية لدى ليو؟”. غالبًا ما يفشل الطفل في كبح جماح الاستدلال الضمني والسريع جدًّا، “هناك كلمة زائد، لذا أضيف (25 + 5 = 30) لتفعيل خوارزمية الطرح (25 − 5 = 20)”. فلا حاجة إذن إلى تكرار قواعد الجمع والطرح عليه أكثر مما هو ضروري (الموجودة عنده بالفعل في شكل عملية عقلية سريعة). في هذه الحالة، يتعين علينا أن نمارس كبح جماح الآلية (التلقائية) المرتبطة بكلمة “المزيد”! الكبح من أجل التفكير الجيد.
هناك الكثير من الأمثلة التي تمت دراستها راهنًا في مختبرنا لعلم النفس التجريبي لنمو الطفل والتعليم في جامعة السوربون، والتي تكشف تدريجيًّا عن كيفية عمل مثل هذه الآوالية من “المقاومة المعرفية”، وهذا هو موضوع هذا الكتاب.
هنا، العدو داخلي: إنه الدافع، آلية الفكر، مثل “الأفيال ثقيلة”، “الطول يساوي العدد”، “هناك كلمة زائد، لذلك أضيف”، وما إلى ذلك، وهي قواعد منظمة بشكل جيد للغاية في دماغنا – جاهزة في المقدمة – وجاهزة للانقضاض، في أي لحظة، من خلال رد الفعل المعرفي. إنه جيش حقيقي من الخلايا العصبية للقتال! وبالتالي فإن المقاومة تتجه نحو الذات. وكما كتب، الروائي الفرنسي، جان دورميسون (Jean d’Ormesson) ببراعة: “التفكير هو الرفض، هو قول لا، هو التفكير (…) ضد الذات”.
[1] أوليفييه هوديه، من مواليد 28 حزيران/ يونيو 1963 في بروكسل، مدرّس وباحث وعالم نفس فرنسي بلجيكي. أستاذ علم النفس النمو في جامعة باريس، كان مديرًا للمعهد الجامعي الفرنسي من عام 2018 إلى عام 2023.
[2] باحث وأكاديمي لبناني.
[3] olivier houdé, apprendre à resister, pour l’école, contre la terreur (Paris, Éditions Le Pommier. 2017). Premiere Edition en 2014. Et le 3 edition, apprendre à resister, pour combattre les biais cognitifs (Paris, Ed. Flammarion. 2022). 144 P.
[4] هو عالم نفس سويسري، ولد في تاريخ 9 آب/ أغسطس من عام 1896م في نوشاتيل سويسرا، وقد كان أول من أجرى دراسة منهجية لاكتساب الفهم لدى الأطفال، وقد اعتقد كثير من الناس أن بياجيه كان الشخصية الرئيسية في علم نفس النمو خلال القرن العشرين، تعتبر نظريته في التطور المعرفي، نظرية شاملة عن طبيعة الذكاء البشري وتطوره. تعرف نظرية بياجيه بشكل رئيسي كنظرية مراحل تطورية، وتتعامل النظرية مع طبيعة المعرفة بحدّ ذاتها، وكيف يتقدم البشر تدريجيًّا في اكتسابها وبنائها واستخدامها. وقد اعتقد أن مرحلة الطفولة لها دور حيوي وفاعل في تنمية الشخص.
[5] يشير تعبير “خراف بانورج” إلى التابع: الشخص الذي يقلد من دون سؤال، والذي يتبع غريزيًّا ما تفعله الأغلبية ويمتزج بالحركة الجمعية من دون ممارسة عقله النقدي أو حتى إظهار الذكاء الذي قد يتوقعه المرء من شخص.
[6] قشرة الفص الجبهي (Prefrontal cortex)، يمثل الجزء الأعلى من الجهاز العصبي المركزي، وفي هذا الجزء تحدث أعلى أشكال الفكر والعاطفة وإدراك الذات والبيئة الاجتماعية
المقالات المرتبطة
العنف بين الأسرة والتعليم
يعتبر العنف من الظواهر الخطرة على استقرار المجتمعات وأمنها، وهو سلوك عملي ينتج عن الفكر المتطرف. وللتطرف أسباب كثيرة، حيث ذهب البعض للتنشئة الأسرية
الإيمان والإنسان: مقاربة قرآنيّة
يسطّر القرآن حركة الاندفاعة الإيمانيّة نحو عالم الغيب، ويرى من مقتضياتها توافر الإنسان على المدارك الملائمة لمعرفة الغيب والإيمان به
القيم فى الفلسفة الفينومينولوجية
اعتمدت الفلسفة الفينومينولوجية على مفاهيم أساسية مثل الماهية والتجربة الظاهرية، والخيال الظاهري، والتأمل الظاهري، والرد الظاهري، وقصديّة الوعي، واستعانت بهذه المفاهيم فى تفسيرها لظاهرة القيم فى المجتمع الإنسانى،