القائمة الرئيسة

في فلسفة الصوم

في فلسفة الصوم

يمثّل الصوم الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة الرئيسة، وقد اختصه الله عزّ وجل بخصوصية تامة جدًّا، فقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه أنه قال: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”. وتتضح هذه الخصوصية التي أتحدث عنها تحديدًا في قوله تعالى: “فإنه لي”؛ إذ يتضح من ذلك انفراد ربّ العزة سبحانه بهذه العبادة – إن جاز التعبير – دونما سائر العبادات الأخرى… ويقيني أن هذا التعبير الإلهي… (لي) لهو خير دليل على ما تتصف به تلك العبادة من قدسية خاصة، وسريّة تامة، وإخلاص كامل مع الخالق عز وجل، فهي بمثابة عبادة سرية خاصة جدًّا بين العبد وربه؛ إذ يتحقق فيها كمال العبودية ونقاء الباطن قبل الظاهر. تلك الأمور التي تختلف من فرد لآخر، بل تختلف في الفرد الواحد من حالة إيمانية إلى حالة إيمانية أخرى. إذ من المعروف أن الإيمان يزيد وينقص بنص حديث النبي (ص) أو كما قال… فنجد أن درجات الإخلاص ومراتب التقوى تختلف بين الأفراد باختلاف الهمم والعزائم. فهي مسائل نسبية إلى حد بعيد؛ إذ ترتبط هذه الأمور بشكل مباشر بالقدرة على ضبط النفس البشرية وقوة الإرادة الإنسانية، وإخلاص النية والصدق مع رب البرية، بل وتتضح في أبهى صورها …

     ومن هذا تتضح قيمة المسؤولية تلك التي قال عنها المفكر المصري الكبير أحمد بهاء الدين حين سئل عن مرادف للعظمة بأنها المسؤولية، بحيث يكون الفرد المسلم هو الوحيد الذي يعلو أو يهبط في مدارج الطريق إلى الله بناءً على مدى استشعاره بضرورة الالتزام، ومراقبة الله تعالى على تحقيق التقوى -تلك التي تمثل الهدف الأول من الصيام-  مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 21). والسعي الجاد إلى بلوغ أقصى درجاتها، بحيث يكون الفرد، أو بالأحرى الفرد وحده هو القادر على صناعة هذا القرار، وهو الملزم لنفسه به بسلطة داخلية باطنية روحية بعيدًا عن أي سلطة أخرى خارجية مادية سعيًا منه إلى تحقيق أقصى درجات العبودية، ورغبة منه في الوصول إلى صيام خصوص الخصوص، على حد تعبير الصوفية، فقد جاء في بعض أقوالهم: “أنا صائم بالله فإذا ذكر غير الله أفطرت”.. فيا لها من تقوى، ويا لها من تنزية لرب البرية وتحقيق لقدسية التقوى الروحية، والمحبة الإلهية وإخلاص العبودية.

بحيث يكون الصيام بمثابة تدريب روحي ونفسي للمسلم لأجل القدرة على اتخاذ القرار، وتقوية الإرادة، وإعمال الحسم لأجل التحرر من أسر الدنيويات، والسعي إلى ترك الملذات ونبذ الشهوات امتثالًا لأوامر الله عز وجل، وارتقاءً بالنفس البشرية من حضيض البهيمية المادية إلى منتهى القمم الروحانية تعظيمًا للشعائر الدينية، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾. (سورة الحج، الآية 32). مستعينًا بالله وعاقدًا النية على الصدق مع رب البرية.

ويقيني أنه على قدر إخلاصه وسعيه لذلك تأتيه -لا محالة – معونة الله عز وجل وتثبيته له.

 قال الشاعر:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم.

 ومما لا شك فيه أن الإرادة هنا تلعب دورًا كبيرًا  تلك التي أطلق عليها علماء النفس “المارد النائم في الإنسان” والتي تمثل هنا مرتبة أعلى من مرتبة الذكاء والعلم وسائر المهارات الشخصية الأخرى؛ إذ تتحقق بفضلها أقصى معاني الانتصار على النفس لأجل الله ولا شيء سواه.

ويقيني أن هذا قليل من كثير من فوائد الصوم في الارتقاء بالنفس وتقوية الإرادة، وضبط الذات، وإعلاء الهمم والعزائم، ناهيك عن فوائد الصوم على المستوى الصحي والنفسي والاجتماعي، وما أثبته الطب الحديث من فوائد لا تعد ولا تحصى للصوم.

فهنيئًا للصائمين، وهنيئًا للقائمين، وهنيئًا للمسلمين بهذا الشهر العظيم، وهنيئًا لمن سلك طريق الطاعات وتحرّى الحرمات سعيًا إلى نوال رضا رب العباد.

 اللهمّ أعنا على الصيام والقيام وتقبّل منا صالح الأعمال …كل عام والأمة الإسلامية في خير وسلام … والسلام ختام.

الأستاذة الدكتورة نادية البرماوى

الأستاذة الدكتورة نادية البرماوى

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية....مصر



المقالات المرتبطة

الأيديولوجية الصهيونية والديانة اليهودية

كانت المعركة الحقيقية التي خاضتها الصهيونية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الميلادي الماضي، هي التغلب على الرفض اليهودي لها، وأن تُقنع القوى الاستعمارية بأنها تبوأت موقع القيادة ليهود العالم.

عزاء الإمام الحسين (ع) بصورة سياسية محضة

إنّ إقامة مجالس العزاء هي إحدى الثقافات التاريخيّة للشيعة، وأهل البيت هم أوّل مَنْ أقام العزاء على الإمام الحسين (ع)، وقد أوصُوا الشيعة مؤكِّدين على إقامة هذه المجالس

النبي الأكرم رافعة بناء القيم الحضارية والإنسانية

تقوم الثقافة الحضارية في عالم اليوم، على إعادة إحياء مبحث القيم، كرافعة إنسانية لكل معالم الوفرة العلمية…

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<