القائمة الرئيسة

الصوم روح الدين وريحانة الدنيا

الصوم روح الدين وريحانة الدنيا

التقديم

يعتقد البعض من المتدينين الخاطئين أن الصوم في حد ذاته مشقة وعبء على الصائم؛ وأن المسلم يصوم بالعادة السنوية.

ومن جانب آخر يعتقد اللادينيين أن شعيرة الصوم لا داعي لها.

وكلا الفريقين على خطأ الوهم غير الواعي؛ ونحن نكتب عن الصوم ليس من أجل تصحيح المفاهيم عن الصوم؛ ولكن من أجل إيضاح حقيقة الصوم الرباني؛ ومعنى الصوم الذي نراه روح الدين وريحانة الدنيا، وأسرار الصوم.

تعريف الصوم.                                                           

 الصوم في اللغة، كما ورد في معجم (مختار الصحاح، باب الصاد، ص 178) من نسخة كمبيوتر  لدي؛ هو الإمساك عن أي فعل أو قول كان… ويمكن تعريفه شرعًا بأنه: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية وإخلاص العمل.

 وشرعًا: الإمساك عن المُفَطّر على وجه مخصوص من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والوجه المخصوص يقصد به اجتماع الشروط والأركان التي يجب مراعاتها حتى يعتبر الصوم صحيحًا، وانتفاء الأمور التي تمنع من الصيام.

حكم صوم شهر رمضان.

إن صوم شهر رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع، معلوم من الدين بالضرورة، وهو أحد أركان الإسلام قال تعالى في سورة البقرة، الآية 183: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، واتفق الأئمة من أهل البيت (ع) وأهل السنة، على أن صوم شهر رمضان واجب على كل مسلم، بالغ، عاقل، طاهر من حيض أو نفاس، مقيم، قادر على الصوم.

روح الدين.. الحكمة من مشروعية الصوم.

يقول العلامة محمد فريد وجدي في كتابه (كنز العلوم، طبعة البابي الحلبي/القاهرة، 1960، ص 175): “للصيام حكم كثيرة، وأولى تلك الحكم هو البيان وأثره على الإنسان في رياضة النفس ليمكن بواسطته وبواسطة الصلاة تحويل القوى الأدبية العظيمة القدر في الإنسان إلى ما ينقله من حضيض الحيوانية إلى أرقى درجات السمو الروحاني، وثمرته في تخليصه من سلطان المادة، وقد ثبت علميًّا أن تجرد الإنسان لاتباع شهواته المادية، وإغفاله لمميزاته الروحانية يجر عليه وعلى بني نوعه أكبر الجرائر”.

ويكون الصوم نوعًا من التربية النورانية؛ يتعلم خلالها المسلم الصبر والتطهر ويتعود على الإحسان والرد على المسيء بالصبر الجميل؛ كما يتعود الصلاة بخشوع والعطف على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وإشاعة التقوى بين من يعرف ومن لا يعرف.

ويقول الشيخ على الجرجاوي في كتابه (أنوار التنزيل وأسرار التأويل، نسخة مكتبة نور الإلكترونية، ص 250): “من أفضل التكاليف الشرعية صيام شهر رمضان، هذه العبادة التي تمثل رياضة للنفس، وتهذيب  للطبع، وتربية للبدن، وتزكية للعقول، وسموًّا بالأرواح”.

فضل الصوم للإنسان.. ريحانة الدنيا.

لعبادة الصيام فضلها كركن من أركان الإسلام، وعبادة من أهم العبادات، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: “كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به”، (متفق عليه، وفي البخاري، ص 256).

وقال (ص): “والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك… وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”. (رواه البخاري ومسلم، نسخ كمبيوترية، البخاري/250).

وأيضًا في كتب أهل البيت (ع)؛ مثل ما ورد في (وسائل الشيعة للحر العاملي، ج10، ص 404): فكل العبادات يمكن أن تكون فيها شيء من الظهور؛ خاصة الصوم.

فضائل وبركات شهر رمضان.

اختص الله هذا الشهر الكريم بكثير من الفضائل والخيرات والبركات منها:

  1. بفريضة الصيام فيه.

الصيام ركن من أركان الإسلام، واختار الله تعالى أفضل الأوقات ليكون محلًّا لأداء هذه العبادة الشريفة والركن الأساس، وهو شهر رمضان، إذ اختصه الله عز وجلَّ بعظيم الفضائل الكونية والربانية، فأكثر فيه من الغفران، ومحو السيئات، ومضاعفة الحسنات… وأفاض فيه على الصائمين نعيم الرضوان والنفحات فكان سيد الشهور لقوله (ص): “سَيَّدُ الشّهُور رمضان”. (سنن ابن ماجه، المكتبة الشاملة،  موقع القاهرة، بتصرف).

  1. نزول القرآن فيه.

فقد ارتبط شهر رمضان بنزول القرآن الكريم فيه في ليلة القدر، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (سورة البقرة، الآية 185).

يقول ابن عباس: “إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة، جملة واحدة، ثم أرسل على مواقع النجوم رسلًا في الشهور والأيام”.

لقد ارتبط الصوم بالقرآن الكريم والنبي الأكرم (ص)، ففي شهر رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ والألف ليلة هي أفضل العبادات؛ تخدم المسلم عندما يقاوم الاستغلال والاستكبار.

  1. شهر الانتصارات.

في 17 شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة انتصر المسلمون بقيادة النبي (ص) في موقعة بدر، وفي 10 شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة فتح المسلمون مكة المكرمة؛ أيضًا بقيادة النبي (ص)؛ فالصوم روح المقاومة والنصر والاستشهاد في سبيل الحق لتظهر الحقيقة.

وقد انتصر المسلمون كثيرًا في شرق البلاد وغربها في شهر الصوم؛ مثل ما انتصروا في موقعتي حطين والمنصورة ضد الصليبيين، وموقعة عين جالوت ضد التتار؛ كما انتصرت المقاومة الإسلامية مرارًا على أعدائها.

كل هذا يؤكد أن الصوم عبادة دينية دنيوية.. روح للدين وريحانة للدنيا.

الأسرار الروحية والمادية الصوم.

طبيعة التشريع الإسلامي كما جاء في (مجلة دعوة الحق الصادرة عن وزارة الأوقاف الإسلامية المصرية، العدد 57 لسنة  2022)، أنه لا يدعو لعمل إلا لما فيه مصلحة عائدة علينا، ولا يحذر من شيء إلا لمضرة لاحقة بنا.

أطردت هذه الخاصية في مسائل التشريع الإسلامي، وتناثرت إزاء قضايا العبادات والمعاملات، والأحوال الشخصية، والجنايات.

ولا شك أن الغاية من تشريع شعيرة الصوم؛ وهو أنه قد فرض الصيام من أجل تربية نفس المؤمن على الاستقامة في شهر رمضان، وتدريبه على هذه الخصلة الكريمة بعد شهر رمضان، وتمرينه عليها في حياته كلها، وأحواله جميعها، حتى يكون في حياته الخاصة إنسانًا كاملًا، وفي المجتمع الإنساني عضوًا نافعًا.

أن الغاية من صيام شهر رمضان تربية المسلم على التقوى، وتعويده المواظبة عليها.

وقد وضح هذه الحكمة غير واحد من فقهاء التشريع الإسلامي، فقال الفخر الرازي في (تفسيره، ج1/483): “إن الصوم يورث التقوى، لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى”.

 كذلك يشرح به البيضاوي في (تفسيره، ج5/225، باب الصوم حديث “من لم يدع قول الزور والعمل به صوم له”)، ويقول: “ليس المقصود من شريعة الصوم نفي الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة، للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول”.

ولمكان هذه الغاية السامية من الصيام، يتوجه الرسول (ص) إلى الصائم فيرشده إلى الابتعاد عن المخالفات أثناء صومه، وينصحه في هذه الكلمات النبوية الغالية: (الصيام جنة، فإذا كان أحدهم صائمًا فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين). (رواه البخاري، ج6/250).

ولنفس الغاية يعظم الرسول (ص) أن يتعمد الصائم مخالفة، أو يرتكب إثمًا، ويندّد بمن ينحرف عن هذه الجادة في النصيحة التالية: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). (رواه البخاري، 6/262).

فهذا الحديث يؤكد الحكمة المتوخاة من صيام شهر رمضان، ويعلن أنها لا تعدو تزكية نفس المؤمن وتطهيرها بالتقوى، وقد بالغ ابن حزم في تقرير هذه الحكمة؛ فقال: يبطل الصيام كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلًا أو قولًا.

وتوجد حكمة أخرى في الصوم: وهي تعويد المؤمن الصبر على المشاق، وتوطيد نفسه على الصمود أمام المكاره، فإن في الصوم الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات والمخالفات، والصائم الذي يعود نفسه الصبر على هذه الأشياء خليق بأن يتدرب على الصبر في شهر رمضان وفي غير شهر رمضان، وجدير بأن يعتاد هذا الخلق الذي هو أكبر عدة الإنسان للتغلب على مصاعب دينه ودنياه.

ويوجد سر يكمن في هذه الشعيرة وهو إذكاء شعور الصائم الموسر بواجبه نحو إخوانه الفقراء الذين يعيشون في شبه صيام دائم، فتتعطف نفسه عليهم، وتنطلق يده بالإحسان إليهم، حتى يعتاد العطف على المحتاجين، ويألف الإحسان إليهم، وقد جاء التلميح لهذه الحكمة في الحديث الشريف الذي يسمى شهر رمضان: (شهر المواساة). (مسند الإمام أحمد، مكتبة نور، 8/425).

ومن التطبيقات العملية لهذه الخصلة أن الرسول (ص) كان في شهر رمضان يضرب الرقم القياسي للجود الذي يفوق على جوده في غيره من الشهور.

كما أن تشريع زكاة الفطر تطبيق مثالي لهذه الحكمة.

يضاف لهذا: التطبيقات الأخرى التي كان الرسول (ص) يدعو لها بواسطة الترغيب في إفطار الصائمين. وكذلك ترويض المؤمن على خصلة الشكر؛ فإن في الصوم شكرًا للمنعم الأعظم على نعمة الصحة كما يشير لهذا حديث (لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم). (ابن هشام، السيرة النبوية، دار الريان للنشر بالقاهرة، 1987، ج3/211).

ويضاف إلى هذه الأسرار الروحية سر مادي، وهو ما ينطوي عليه الصيام من فوائد صحية عديدة؛ فقد قال النبي (ص): على وجوب الاعتدال في كل شيء، ونهى عن صوم الدهر، وعن الوصال في الصيام، واستحب السحور وتأخيره، وتعجيل الفطر، قال (ص) لمن نهاه عن كثرة الصيام والقيام: (إن لبدنك عليك حقًّا). (الحديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ متقاربة، وهذا لفظ الترمذي وقد صححه الألباني في صحيح الترمذي. يقول: فأنا أهنئكم بشهر سيغفر الله لكم فيه).

ومما يخفف ضرر الصوم عند المسلمين: أنه يباح لهم ليلًا ما يحرم عليهم نهارًا، فلذلك كان الضرر الناشئ عن الضعف في أثناء النهار قليلًا أو معدومًا، وبجانبه نفع يفوق هذا الضرر.

ونذكر بعد هذا أن هناك حديثًا جاء مرسلًا عن الرسول (ص) يشير لفائدة الصيام الصحية، وقال صوموا تصحوا؛ لأن المعدة بيت الداء، كما يقول الأطباء وكما كثر الكلام عن فوائد الصوم البدنية.

هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأعظم…



المقالات المرتبطة

الأدبيات الدينية

اهتمت الأدبيات الدينية التي تلت عهد التنوير بنزع الموضوعات المفصلية، في ركائز المبحث الديني؛ من مثل الإيمان؛ عن علاقتها بالمضمون الديني المحوري “لله”، أو “العقائديات المقرَّرة”

دلالة الرؤية الكونيّة التوحيدية

ليس بذي بال أن نبحث عن أول انطلاق مصطلح ما، إلا بمقدار ما يفيدنا هذا البحث في تحديد المعنى المقصود من المصطلح.

لذا، فإن الرؤية الكونيّة وإن كان التعبير عنها أول ما جاء في أدبيات الفلسفة الألمانية، إلا أن المراد الذي تحمله بما يعنيه من إحساس بالعالم ومعرفته العميقة

مراحل التواجد السلفي | الوهابي في مصر من النشأة إلى السقوط

إذا كنا نريد عدم عودة الوهابية والوهابيين، فلا بد أن تتخذ الدولة المصرية خطوات سريعة وقوية وجادة لملء تلك الفراغات، وضرورة تطوير المناهج التعليمية ووسائل الإعلام في اتجاه التنوير، عوضًا عن المناهج الموجودة حاليًا والتي تُخرج أجيالًا مقتنعة بفكرة الخلافة الإسلامية.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<