الصيام حكمة إلهية وفلسفة حياة

مقدمة
“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، يكشف هذا الحديث الشريف هدف المبشرين والمنذرين الإلهيين الكلي المجتمعي الذي هو إتمام مكارم الأخلاق، ويتجلّى هذا الهدف على باقي الأهداف، ويسمو بمحوره المجتمعي الذي تصب فيه كل أهداف الرسالة المحمدية الممتدة من بداية الخلق ومبعث النبي آدم (ع)، مرورًا بإتمام الرسالة الإلهية بالإسلام المحمدي الأصيل، وصولًا لإقامة دولة العدل المهدوية النموذج الكامل للأخلاق الإنسانية المجتمعية.
وحين لم تخلُ مرحلة تاريخية اجتماعية من تبشير، دعوة، هداية، إنذار، رسالة، بأنماط تتماشى والظروف المرحلية لكل مرحلة، تتعزز المحورية الإلهية في الهداية لإعداد مجتمع بشري أخلاقي بمسالك متعددة.
الصيام استراتيجية مجتمعية.
نلحظ في كلام الأمير (ع) في نهج البلاغة ربطه بين الصيام والابتلاءات (بالفتن والمحن)، والإخلاص لله، “وَالصِّيَامُ ابْتِلاءٌ لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ” (نهج البلاغة، الحكمة 252). فقد ربط مفاعيل الابتلاءات والفتن لارتقاء النفس البشرية إلى مرتبة الإخلاص لله، كما في أكثر من موقع في الآيات القرآنية بقوله تعالى في بداية سورة العنكبوت التي هي من السور الوارد ذكر استحباب قراءتها في ليالي القدر: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ، وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾، ويقول في (سورة البقرة، الآية 214): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
بالتدبر في هذه الآيات القرآنية، يتبين لنا سنة إلهية في أهمية الفتن والابتلاءات كمسلك هداية لتقوية قوى النفس البشرية في طريق تهذيب السلوك الإنساني الذي هو غاية الدين وهدفه، ليضيف الأمير (ع) ربط الصوم بالإخلاص لله ليدل إلى مسلك الصوم في تهذيب النفس، كفريضة اعتيادية، حيث يأتي على تجاوز هدفية الصيام الغاية المادية الصحية “صوموا تصحوا”، والجزاء الأخروي، “الصوم لي وأنا أجزي به”، إلى أثر الصوم في تدريب النفس لبلوغ الكمالات التي تبدأ بالإخلاص لله، إلى جانب الآثار النفسية للصيام المندوب في الامتناع عن الملذات المباحة اختياريًّا، بهدف التقرّب إلى الله الذي يمثّل زهدًا مستمرًّا يتجاوز الفرض الديني، ويهيء النفس الإنسانية للإحسان الذي هو بذل دون مقابل يصل فيه الإنسان إلى مرتبة الإيثار بالنفس والمال والولد والروح في سبيل الحق وأهله. فنفس الصوم بصورتيه الواجب والمندوب ابتلاء يحضر ويعد النفس الإنسانية والمجتمعية لتجاوز الفتن والمحن الكبرى.
الصوم في معانيه الأساسية هو “الكف”؛ ما يعني كف الإنسان عن فعل أمر أو سلوك اعتاد على فعله، فهو عملية نفسية اجتماعية يقوم بها الإنسان باختياره نتيجة قناعاته وإيمانه بالنتائج الحسنة لهذا الالتزام، وامتثالًا لطلب فريضة الصيام.
والصائم في شهر رمضان وغيره في صيام القضاء أو المندوب، قد يتدبر للحظات ودقائق في هدفية الصوم، الفردية والمجتمعية، لماذا أمنع نفسي من المباحات لساعات طويلة ومحددة بأوقات وأيام معدودة وكأننا أمام استراتيجية معدّة بحكمة وعناية إلهية من خالق النفس البشرية والعارفة بقدراتها؟
أودع الرحمن بلطفه سلطة ذاتية عقلية اختيارية للبشر خصهم بها دون باقي المخلوقات تشريفًا وتكريمًا لهذا الإنسان الذي أعده ليكون خليفة الله وصورته على الأرض.
وأمر الله تعالى بالصيام الذي هو أحد الاستراتيجيات المجتمعية لاختبار صدق الإنسان في طاعته لله، وهو بذاته وسيلة لتطهير القلب والنفس من الرياء والتعلق بالدنيا، بالتواضع، وضبط الشهوات، والتخلص من الذنوب، وتقوية الإرادة، مما يجعله أداة فعالة لتهذيب النفس والتحلّي بمكارم الأخلاق، التي تصل بالنفس الإنسانية للوصول إلى مداركها من الإخلاص لله تعالى، فكيف يمكن للصوم أن يضبط النفس ويهذبها؟
الصيام تزكية النفس.
يقول الإمام علي (ع): “الصِّيَامُ وَالزَّكَاةُ تَسْتَنْزِفَانِ الْمَالَ، وَتَذْهَبَانِ بِالْآثَامِ“. (نهج البلاغة، الحكمة 136).
أثناء الصيام يكف الإنسان ويحجم عن تناول المفطرات من المباحات فضلًا عن ترك المحرّمات باختياره، بعد اعتياده على تناولها لأوقات طويلة، قد لازمته منذ ولادته، وبفعل الصيام يقوم بعملية كف نفسه لوقت محدد، طيلة النهار، بمعنى آخر يتسلط على نفسه فيمنعها ويتحكم بها، بالإمساك عن المفطرات، فيتحكم بذلك بميوله وشهواتها بما يلتزم بها عقله من قناعات عن مصالحه، أو التزام بفريضة واجبة، بالتالي الصيام من الشواهد المنطقية على قدرة الإنسان على ضبط سلوكه وانفعالاته، وهو ما يسمّى بعملية مجاهدة النفس.
والله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، ما يعني بأننا قادرون على الصيام كما أننا قادرون على مجاهدة أنفسنا، وما نحتاجه هو الإيمان الصادق والإخلاص. في هذا السياق يوضح الأمير (ع) استراتيجية الصيام بأنها وسيلة لمحو الذنوب، فهو يطهّر النفس ويزكيها من الأخلاق السيئة، ليصل بها إلى تزكيتها من الشوائب ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ (سورة الشمس، الآية 9)، هذه التزكية تبدأ بتقوية الإرادة والعزيمة، وتتعزز باستمرارها إلى ما بعد الشهر الكريم، وهذا التعزيز وجهة من سعة وكرم شهر رمضان المبارك؛ إذ إن استمرار استراتيجية ضبط النفس بالصيام لأيام معدودة “ثلاثون يومًا” تسمح لهذه العملية بأن تصبح ملكة عند الإنسان، فلا يحتاج إلى جهد كبير في تعزيزها والاستمرار بها، وتصبح النفس جاهزة للتغيير باتجاه أحسن الأحوال “اللهمّ غير حالنا إلى أحسن حال”، لتصل بصاحبها إلى وعد الله بالهداية الكاملة.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. (سورة العنكبوت، الآية 69)، أدوات التوكيد في هذه الآية تدل إلى السبيل الذي سينقذهم من الضلالة إلى الهداية. وباستكمال تدبرنا في الآيات القرآنية المختصة بشهر رمضان، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾. (سورة البقرة، الآية 185). نلحظ الصيام أحد هذه السبل التي تحرك فينا قدرة المجاهدة بأنفسنا، قدرة الوقوف في مواجهة الشيطان الذي يسعى لأن يسقطنا بإغوائه.
وشهر رمضان هو شهر الرحمة والمغفرة والدعاء، نلحظ فيه خصوصية الأدعية الملازمة لأعمال الصوم في شهر رمضان المبارك، ليستكمل بهذه الأدعية إعداد النفس لتهذيبه، بدءًا من العلاقة بين الفرد وإلهه، مرورًا بنواتج الأدعية الجماعية الليلية والنهارية المندوبة في هذا الشهر الفضيل، فضلًا عن الأدعية والأعمال المخصوصة في ليالي القدر والإحياءات الجماعية، حيث اجتماع القلوب سواسية في حضرة الرحمة الإلهية.
ونجد في معاني ومفردات الأدعية الملازمة لأعمال الصيام، ما يدعم الصيام الروحي والنفسي باستراتيجية تقوم على معادلة بركنين: الأول: اعتراف الشخص بالجريرة والخطأ، والثاني: ولا تقنطوا من رحمة الله؛ أي القناعة باستحقاق المغفرة. فنفسيًّا يمثل الاعتراف بالخطأ المفتاح الأساسي لاستحقاق المغفرة من الله تعالى، ويليه الندم على ما فات من الذنوب، لتصل النفس الإنسانية إلى أرقى مظاهر الإيمان والصدق في العلاقة مع الله.
ويكون الاعتراف بالذنب والجريرة علامة على صفاء القلب، وتواضع النفس، فيتعزّز بوعي الإنسان بذاته، مما يساعده على تخفيف الضغوط النفسية والشعور الدائم بالذنب، ويقويِّ العلاقة بينه وبين ربِّه، شرط أن يكون اعترافًا صادقًا، وندمًا أكيدًا وأن تكون التوبة منه نَصوحًا، وللصيام أثر يحفر عميقًا في التواضع والشعور بالفقراء: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّار”[1].
يقول الإمام علي (ع) في حكمة الصيام: “وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذًا فَتَمْرِينًا لِإِخْلَاصِ الْإِرَادَةِ” [2]. علينا أن ندرك أننا في حالة الصوم، في كل لحظة نجاهد هذه النفس من ارتكاب المحرمات، ما يعني أننا بالصوم نحدث قدرة جديدة إضافية، تتراكم في أنفسنا لنقوى بهذه القدرة على غلبة الشيطان الذي يعمل دائمًا على إسقاطنا في شباكه، وإذلالنا، وهو من أهم الأهداف التي علينا إدراكها من نواتج الصوم، وجهاد النفس هذا لا يدرك إلا بالمراقبة واليقظة الدائمة والمتابعة والملاحظة، وسنجد عواقب أعمالنا في الدنيا والآخرة.
صيام الجوارح والجوانح.
يقدم الإمام علي بن أبي طالب (ع) في نهج البلاغة رؤية عميقة للصيام، صيام الجوانج والجوارج، تتجاوز الامتناع عن الطعام والشراب، قال (ع): “صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام”. (نهج البلاغة). فهو ترويض النفس على الصبر والاعتدال، والتقليل من التعلق بالدنيا وتقوية الإرادة، حيث يرتبط الصيام بتزكية النفس وضبط الفكر والإرادة.
ففي صيام الجوانح، “إن صمت فليصم سمعك وبصرك وفؤادك عن الحرام”. وفي صيام الجوانح، الامتناع عن التفكير في الآثام والشهوات المحرمة، وهو درجة أعمق من الصيام، حيث لا يقتصر على الجوارح، بل يمتد إلى الجوارح حيث القلب والعقل. فتزكية النفس من الشهوات والأهواء، وتنقية الفكر من الأوهام، التي تصنعها الوساوس السلبية والانشغال بالدنيا، ترتقي بالروح إلى مستوى من الصفاء والتقوى القلبية بالإكثار من ذكر الله للوصول بهذه القلوب إلى الاطمئنان ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (سورة الرعد، الآية 28).
صحيح بأن الصيام فرض علينا لمدة شهر في السنة، إلا أن حجيته علينا قائمة على مدار العام، بل في الأعوام اللاحقة، فبامتثالنا لفريضة الصيام أثبتنا قدرتنا على مجاهدة النفس، وبتخيلنا عن استثمار نواتج الصيام في مجاهدة النفس بعد انقضاء شهر رمضان، والعودة بالنفس إلى سلوكياتها القديمة، فكرًا وقولًا وعملًا، نقع في الغفلة والضلال ونعجز عن الاستثمار الإيجابي للفرص الإلهية التي تقود الفرد والمجتمع إلى مصافي المجتمعات المنتظرة والممهدة لدولة القائم من آل محمد أرواحنا لمقدمه الفداء. ومن الخسران الشديد أن ينقضي شهر رمضان دون أن نشعر بهذه القدرة على التحكم برغباتنا وقدراتنا.
هذه القدرة تولد الإرادة والعزيمة اللذين هما مرتكزي الثبات على الحق في الدنيا، والثبات في اجتياز الصراط في الآخرة. وهذه الإرادات الفردية بعزيمة واجتماع القلوب الثابتة تتحول إلى مجتمع أسطوري في مواجهة الاستكبار العالمي مهما بلغ من الاستبداد بتوحشه وهيمنته، إرادة الشعوب المتوكلة على الله ستهزم جبروتهم.
[1] نهج البلاغة، الحكمة 136.
[2] نهج البلاغة، الخطبة 110.
المقالات المرتبطة
الوعي الزائف في المادّيّة
تقبل الأطروحة المادّيّة بواقعيّة النظام السببيّ بعد أن تشترط حصر كلّ علّة بالعلل المادّيّة.
الإمام المهدي حقيقة أم خيال
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على النبيّ المصطفى، وآله الحنفاء، وخلفائه الاثني عشر الشرفاء، وجمعنا الله تعالى بخاتمهم الخلف الهادي المهدي، أبي القاسم محمّد بن الحسن العسكري، إمام الزمان والرشاد، وحجّة الله على العباد، وبعد.
كيف انحرفت الحداثة عن مسارها الحقيقي وتحولت إلى عكسها؟
بعد أن أصبحت “الحداثة” مسلمةً ومعيارًا تقاس على قواعدها الأمم بتطورها وتخلفها،