القائمة الرئيسة

الصوم زكاة للنفس وتهذيب للقلوب

الصوم زكاة للنفس وتهذيب للقلوب

إن للصوم في شهر رمضان المبارك آثاره العظيمة على النفس والروح والقلب والجسد، ولأهميته أفرد الباري له شهرًا من أشهر السنة، لعل علة ذلك أن يبتعد الإنسان عن كل ملذات الدنيا، ويلجأ إلى خالقه ونفسه خالية من مشاغل الحياة وشجونها، فتتزكى من كل ما يدنسها، ويرتقي بروح صافية وقلب طاهر من كل الشوائب التي تغزوه في بقية الأشهر، ولعله أيضًا، من محبة الباري بعباده خصص لهم هذا الشهر ليتقربوا منه أكثر، وليكون فرصة لهم للتوبة والعودة إليه، ولجذبهم وإنقاذهم من الفتن والمحرمات التي تحوم حولهم بشكل دائم ومستمر، وليكونوا أقرب إلى الناس وخاصة الفقراء منهم والمحتاجين، فيقفوا على حوائجهم ويمدون لهم يد العون والمساعدة في هذا الشهر الفضيل، ويحس الغني بألم الجوع والعطش تمامًا كالفقير، فيتساوى الناس في هذا الشهر. فالفائز هو من يغتنم هذه الفرصة الربانية الكريمة التي أعطانا إياها الباري تعالى وأكرمنا بها دونًا عن سائر الأمم التي سبقتنا. يقول الباري تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 183). يقول الإمام الصادق (ع) في هذا الصدد: “إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا، فقلت له: فقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ…﴾؟! قال: إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل الله به هذه الأمة، وجعل صيامه فرضًا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أمته”[1]. وبهذا السياق أيضًا، يذكر الإمام زين العابدين (ع) في دعاء وداع شهر رمضان: “ثم آثرتنا به على ساير الأمم، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل، فصمنا بأمرك نهاره، وقمنا بعونك ليله”[2]. ليتبين لنا، بأن الصوم خاصية إلهية تكريمية للنبي محمد وأمته دون سائر أمم الأنبياء.

ومن وجوب الصوم على النبي محمد (ص) وأمته ننتقل لننهل من معين فضل شهر رمضان علينا، ومن فضل الصوم على أمة الإسلام، فشهر رمضان هو شهر الله، ميّزه الله بهذه الميزة دون سائر الأشهر، فعن الإمام الصادق (ع): “إن الله تبارك وتعالى يقول: الصوم لي وأنا أجزي عليه”. وفي موضع آخر يقول الإمام الصادق (ع): “قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم هو له، غير الصيام هو لي وأنا أجزي به”[3].

فكم حري بنا أن نشعر بالسعادة لأنه في شهر رمضان المبارك نكون في ضيافة الله المباشرة، وفي رعايته وعنايته وتحت كنف ألطافه الرحمانية التي نتلمسها بكل نفس نتنفسه، وبكل عمل نقوم به.

وفي تدرجنا من وجوب الصوم إلى فضله، نأتي إلى الحكمة منه، ولماذا فرض الله الصوم على عباده؟

لم يفرض الله سبحانه وتعالى على ابن آدم شيء إلا وفيه حكمة له، وفي الخير الكثير لشخصه سواء على المستوى المادي أو المعنوي. أما الحكمة من وجوب الصوم فلها مصاديق كثيرة، أبرزها:

  1. المساواة بين الغني والفقير.

يأخذنا الصوم في رحلة وجدانية عابقة بالمشاعر والأحاسيس مع الغير، فيتساوى الغني بعطشه وجوعه مع الفقير.

  • جاء عن الإمام الصادق (ع): “أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع، فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئًا قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم، ليرق على الضعيف ويرحم الجائع”[4].
  1. تثبيت الإخلاص.

من الأمور التي يسعى إليها الإنسان في حياته هو أن يكون مخلصًا، سواء في علاقته العبادية مع الله، أو في عمله، أو في علاقته مع الناس، أو في مواجهته لغرائزه وشهواته، لذا، كان الصوم هو تثبيت الإخلاص في نفوسنا ليكون ديدن حياتنا قائم عليه فنثبت في مواجهة رياح الغرائز والأهواء، فعن السيدة الزهراء (ع) في علة فرض الصوم: “فرض الله الصيام تثبيتًا للإخلاص”[5]. وعن الإمام علي (ع): “فرض الله الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق”.

  1. إماتة نزعات النفس؛ وتوجيه نزعة ارتباطها نحو الباري عز وجل فقط، فالصوم يهذب هذه النفس، ويعمل على تسكين القلب بإماتة أي تعلق له بالدنيا، ويفتح له طريق الوصول إلى الباري تعالى، فعن الإمام الباقر(ع):”الصيام والحج تسكين القلوب”[6].
  2. الصوم حراسة ربانية للعباد: إن محبة الله عز وجل لعباده لا حد لها، من أجل ذلك يعطيهم مفاتيح النجاة من شرور النفس والدنيا، ومن هذه المفاتيح الصوم، فمن خلال الصوم تخشع الأبصار، وتذل النفوس، وتخضع القلوب، كما قال أمير البيان الإمام علي (ع): “وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكينًا لأطرافهم، وتخشيعًا لأبصارهم، وتذليلًا لنفوسهم، وتخفيضًا (تخضيعًا) لقلوبهم”[7].
  3. الصوم جنة المؤمن من النار: إن كان ولا بدّ للإنسان أن يعيش في جنة تقيه من نار جهنم، فعليه الصيام في شهر رمضان، حيث إن الصوم هو الجنة؛ طبعًا، أن يكون الصوم ليس فقط عن الطعام والشراب، بل الصوم عن كل ما حرّمه الله، بأن تكون النفس صائمة، والقلب صائم، والعين صائمة، والبطن صائمة، والأذن، واليد واللسان، وكل جوارح الإنسان، فعن رسول الله (ص): “عليك بالصوم، فإنه جنة من النار، وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع فافعل”.[8] وعن الإمام الصادق (ع): “الصوم جنة من النار”[9].
  4. الصوم زكاة الأبدان: حث الله تعالى عباده على الزكاة لما فيها من خير ومنفعة لهم على المستوى الدنيوي والأخروي. يقول الباري تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. وقد وردت كلمة زكاة في القرآن أكثر من مرة. وهي تعنى لغةً البركة والنماء، والطهارة والصلاح ومنه قولهم رجل زكّي النفس؛ أي صالح. واصطلاحًا:زكاة المال: هي ضريبة مالية مفروضة على الغلات والأنعام والنقدين، ويجب إخراجها مع تحقق شرائط تذكر في محلها[10]. بهذا المعنى، هي ليست فقط أمرًا ماديًّا، بل هي أمر معنوي أيضًا يتعلق بالنفس وتزكيتها وطهارتها وصفائها. فأمر الزكاة لا يتعلق فقط بالأمور المادية، فكما إن الإنسان يزكّي ماله، فأيضًا فتح الله بابًا لتزكية بدنه، فكان الصوم هو هذا الباب، وبهذا الصدد يقول الرسول الأكرم (ص): “لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام”[11]. وفي مورد آخر يقول الإمام الكاظم (ع): لكل شيء زكاة وزكاة الجسد صيام النوافل”[12]. فالصيام من هذا المنطلق، هو زكاة للأبدان ليساعدها على الترقي في مدارج الكمال والعروج إلى الباري تعالى.

7 . صيام القلب والنفس: كما أن للأبدان صوم، كذلك للقلوب والنفوس صيامها، لكن صوم القلوب يكون عن الآثام والشرور، وصوم النفس يكون بالابتعاد عن المحرمات، ولجم الحواس عن كل ما يخدش رقيها الإيماني، ففي هذا الصدد يقول الإمام علي (ع): “صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام”. وعنه (ع): “صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفًا من العقاب ورغبة في الثواب والأجر، صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب من جميع أسباب الشر”[13].

فوائد الصوم على صحة الإنسان.

 لا يخفى على أحد أثر الصوم وفوائده على جسم الإنسان؛ على قلبه وجهازه الهضمي، والأمراض المزمنة، وأوعيته الدموية وغيرها من الأمور، وقد اختصر رسولنا الأكرم (ص) كل هذه الأمور بكلمتين، حيث قال (ص): “صوموا تصحوا”[14]. وجاء عن الإمام علي (ع): “الصيام أحد الصحتين”[15].

فضل الصائم.

وكما للصوم فضائل كذلك خص الله سبحانه وتعالى الصائم بفضائل جمة، وهذا من حب الله لنا ورحمته علينا وعطفه علينا، وفي ذلك دعوة ترغيبية للإنسان على الصوم، وعدم ترك هذه الفريضة الإلهية التي فيها من الخير الكثير ما يعجز الإنسان عن درك معانيه وفهم حقيقته. فاستبشر أيها المسلم الصائم بقول رسول الله (ص): “نوم الصائم عبادة، ونفسه تسبيح”، والبشرى أيضًا من الإمام علي (ع): “نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف، إن للصائم عند إفطاره دعوة لا ترد”. كذلك الإمام الصادق يعطيك بشارة عن صومك: “نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله متقبل، ودعاؤه مستجاب”. وأعظم البشائر ما ورد عن نبينا الأكرم (ص): “إن للجنة بابًا يدعى الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون “، وفي خبر: فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب”[16].

 وآخر الكلام، إن الصوم معراج قلب العبد المؤمن نحو ربه، فيفتح له كنوزًا من الحكمة والمعرفة، كما جاء في حديث المعراج عن الرسول الأكرم (ص): قال: يا رب وما ميراث الصوم؟ قال: الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسر أم بيسر”[17].

هذه هي فضائل الصوم، وأهميته، للإنسان المؤمن، فمن صام وكان مزكيًّا لنفسه مهذبًا قلبه، صائنًا جوارحه، فإن الله تعالى ينعم عليه من فيوضاته الربانية ما لا يخطر على بال أحد، ويشعر بهذه الفيوضات في حياته الدنيا قبل الآخرة، لما لهذه الفريضة من أجر وثواب عظيم عند الباري سبحانه وتعالى.

وعزيز على الصائم المؤمن الذي فهم كنه صومه، وحقيقة معانيه، أن ينتهي شهر رمضان، فهو ضيف عزيز وكريم يمر على حياتنا كنسمة من الهواء العليل الذي ينعش قلوبنا وأرواحنا بمعارف ومعاني جليلة وعظيمة، وألطاف إلهية جميلة، فلا بدّ لنا وقبل أن نطوي صفحات هذه المقال، من السلام على هذا الشهر الفضيل كما سلم عليه إمامنا زين العابدين (ع) في دعائه بوداع شهر الله حيث يقول:

السلامُ عليك يا شهرَ اللهِ الأكبر، ويا عيدَ أوليائهِ. السلام عليك يا أكرمَ مصحوبٍ مِن الأوقات، ويا خيرَ شهرٍ في الأيّام والساعات.

السلام عليك مِن شهرٍ قَرُبتْ فيه الآمال، ونُشِرتْ فيه الأعمال.

السلام عليك مِن قرينٍ جلّ قَدْرُه موجوداً، وأفجَعَ فَقْدُه مفقوداً، ومَرْجُوّاً آلمَ فراقُه.

السلام عليك مِن أليفٍ آنسَ مُقْبِلاً فَسَرّ، وأوحشَ منقضياً فمضّ.

السلام عليك مِن مجاورٍ رقّتْ فيه القلوب، وقلّتْ فيه الذنوب.

السلام عليك مِن ناصرٍ أعان على الشيطان، وصاحبٍ سَهّل سُبُلَ الإحسان.

السلام عليك ما أكثرَ عُتقاءَ اللهِ فيك، وما أسعدَ مَن رعى حرمتَك بك.

السلام عليك ما أمحاك للذنوب، وأسْترَك لأنواعِ العُيوب…

السلام عليك كما وَفَدْتَ علينا بالبركات، وغسَلْتَ عنّا دنَسَ الخطيئات…

السلام عليك كم مِن سوءٍ صُرِف بك عنّا، وكم مِن خيرٍ أُفيض بك علينا..[18].

 

[1] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء2، الصفحة 1684.

[2]  المصدر نفسه، الصفحة 1684.

[3]  المصدر نفسه، الصفحة 1684.

[4]العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 93، الصفحة 371.

[5]  ميزان الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 1685.

[6]  المصدر نفسه، الصفحة 1685.

[7]  خطب الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، الجزء 2، الصفحة 149.

[8]  ميزان الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 1685.

[9]  المصدر نفسه، الصفحة 1685.

[10] https://www.almaany.com/

[11] بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 93، الصفحة 257.

[12] ميزان الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 1685.

[13]  ميزان الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 1687.

[14]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 93، الصفحة 255.

[15]  ميزان الحكمة، مصدر سابق، الصفحة 1686.

[16]  المصدر نفسه، الصفحة 1686.

[17]  بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء 74، الصفحة 27.

[18] الإمام زين العابدين (ع)،  الصحيفة السجّادية المباركة، الدعاء 45


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
زكاة للنفستهذيب للقلوبالصومشهر رمضانالصيام

المقالات المرتبطة

الإسلام وثلاثي: المقاومة، الإرهاب، السياسة

لا يمكن الحديث عن إسلام سياسي، وآخر عبادي. فالإسلام منظومة مترابطة من الاهتمام بالشأن الفردي والسياسي العام في حياة الإنسان والمجتمع.

مراكمة الانتصار: تعدد الجبهات والعدو واحد

عجلة التاريخ تسير بسرعة، وتعتمد في صناعة أحداثها على تفاعل المحيط المُكوّن من الإنسان وتدافعاته الفردية والاجتماعية الناشئة من الظروف المعاصرة له.

المواطنة الرحمانية طريق العارف الواصل إلى مدينة الله

ينظر بحثنا في الكيفية التي ينبغي ان تُقارب فيها المواطنة الرحمانية من أجل أن يستوي نظام العيش

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<