الإدارة العقائدية للصبر عند الإمام جعفر الصادق (ع)

قراءة تحليلية في ضوء فكر السيد الخامنئي (دام ظله)
في عالم تموج به الأزمات وتتصارع فيه العواصف الذهنية والفكرية والاجتماعية، يظهر الصبر كقيمة محورية ليس فقط كفضيلة أخلاقية، بل كعنصر إداري عميق يتطلب تخطيطًا استراتيجيًّا، إدارة، واستراتيجية بعيدة المدى. ولعل الإمام جعفر الصادق (ع)، سادس أئمة أهل البيت (ع)، قد مثّل أنموذجًا عمليًّا للإدارة العقائدية للصبر، ليس من منطلق الانفعال، بل وفق هندسة دقيقة للواقع وتحليل دقيق للفرص، في إطار رؤية تربوية عقائدية تهدف إلى حفظ الدين وإعداد الأرضية المناسبة للنهضة الكبرى على خطى جده أمير المؤمنين. ومن هنا، تكتسب قراءة فكر السيد علي الخامنئي (دام ظله) أهمية بالغة، إذ يقدّم لنا مفاتيحًا لفهم أبعاد تلك الإدارة الصادقية العظيمة.
إن من يراجع سيرة الإمام الصادق (ع) يدرك أنه لم يكن شخصية منفعلة أمام الظلم، كما لم يكن منطويًا أو منعزلًا عن الأحداث، بل كان في خضمها. كان يعيش صبرًا واعيًا، متقنًا في إدارة المواقف، حيث يقول الكليني في الكافي: “كان الصادق (ع) يمر على مضايق الحياة كمن يحمل سراجًا في ظلمة حالكة”. (الكافي، ج1، ص 32). لقد فهم الإمام أن الصبر ليس خنوعًا، بل هو ترتيب للقوى وإعداد للزمن، وهي رؤية تقاطع فيها الفعل الإداري مع العقيدة.
يحدّد السيد علي الخامنئي (دام ظله) أن الصبر في المفهوم الإسلامي ليس حالة جامدة، بل هو مشروع بحد ذاته، يقول: “إن الصبر عند الإمام المعصوم هو فعل إداري من طراز رفيع، لا مجرد تَحمّل سلبي”. (السيد علي الخامنئي، الولاية الإلهية، ص 89). هذا التصور يُدخلنا إلى جوهر تجربة الإمام الصادق (ع)، حيث مارس إدارة الصبر كخطوة استراتيجية تستهدف حفظ الدين وتأسيس أجيال المستقبل، حتى صارت تلك الإدارة إرثًا عظيمًا وصل إلى باقي الأجيال.
عاش الإمام الصادق (ع) في فترة انتقالية بين ضعف الأمويين وصعود العباسيين، تلك المرحلة التي وصفها الشيخ المفيد بقوله: “مرحلة فتنة عظيمة كان فيها السلاح للمنتصر لا للأحق”. (الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص 180). كان الصبر حينها ضرورة استراتيجية، فالإمام أدرك أن أي تحرك عسكري أو مواجهة مباشرة ستكون نهايته القضاء على الشيعة الناشئين، الذين كانوا في طور بناء الهوية.
هنا تظهر الإدارة العقائدية للصبر بأجلى صورها مقترنة بالدهاء السياسي، حيث بناء الإنسان الداخلي بدلًا من المواجهة المسلحة الفورية. فقد ركّز الإمام على تعليم العقيدة، نشر العلم، وتثبيت مبادئ التشيع. وبلغت مدرسته العلمية ذروتها، حتى أحصى ابن حجر العسقلاني أكثر من أربعة آلاف تلميذ للإمام. (ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج2، ص 104). هذه الإدارة الزمنية للطاقات البشرية كانت مظهرًا ناصعًا للصبر كأداة للإدارة والبناء.
يؤكد السيد الخامنئي على أن الصبر العقائدي يعني تحويل الاختناق إلى فرصة جديدة، وتحويل القمع إلى مدرسة متكاملة. ففي إحدى محاضراته يقول: “الصبر عند الإمام الصادق (ع) كان توجيهًا للواقع ليصبّ في صالح الأمة الإسلامية لا في مصلحة أعدائها”. (محاضرة، سلسلة دروس الأخلاق، 2004م). ومن هذا المنظور، تصبح ممارسات الإمام بمثابة فن إداري يُضاهي أرقى أساليب الإدارة المعاصرة التي تتحدث عن “إدارة الأزمات”، و”تحويل التهديدات إلى فرص”.
ومن أبرز معالم الإدارة الصادقية للصبر اعتماد مبدأ توزيع الأدوار، وهو ما نحاول أن نعلّمه اليوم للمجتمعات، حيث لكل فرد دوره ومكانته التي يمكن أن يقدم من خلالها كل ما هو مفيد، وهو ما يُعرف في الإدارة الحديثة بمفهوم “العمل الشبكي”. لم يعتمد الإمام على نفسه فقط، بل أسّس شبكة معقدة من الوكلاء والمبلغين في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي. وكان يرسل الرسائل والتعليمات بدقة متناهية، حيث يشير الطبرسي في الاحتجاج إلى أن الإمام “كان يرسل وكلائه مع رموز دقيقة لتجنب كشفهم”. (الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص 80).
يستند السيد الخامنئي إلى هذا النموذج حين يضع مبدأ “التخطيط الشبكي للأمة الإسلامية” كأحد أعمدة الدولة الإسلامية الحديثة، مبينًا أن “الإمام الصادق أسس العمل التنظيمي لا الفوضوي، وصبره كان جزءًا من هذا التخطيط الهادئ”. (الولاية الإلهية، ص 93).
أما عن إدارة المشاعر، فقد كان الإمام معلّمًا فذًّا. لم يترك الشيعة فريسة للألم أو الانتقام الأعمى، بل دعاهم إلى التعقل والتروي، قائلًا: “كونوا زينًا لنا ولا تكونوا شينًا علينا”. (الكافي، ج2، ص 77). وهذه العبارة العظيمة تكشف جوهر إدارة الصبر: تحويل الألم إلى فرصة للسمو الأخلاقي والاجتماعي، لا مجرد تبرير للعنف أو الفوضى.
ويرى السيد الخامنئي أن هذا النوع من إدارة المشاعر يمثّل “أرقى درجات التربية السياسية”، حيث يُربّى الفرد ليكون عنصرًا بنّاءً في مشروع طويل الأمد، لا مجرد ردة فعل آنية مبنية على مشاعر وقتية زائلة”. (محاضرة في لقاء طلابي، 2018م).
من جهة أخرى، لم يكن الإمام الصادق (ع) صابرًا بدون تحرك فكري، بل أسس لمنظومة فكرية متكاملة، مزج فيها العقيدة بالعلم، والفقه بالواقع، محوّلًا الصبر إلى عملية معرفية تضخّ في جسد الأمة طاقات مستمرة. وهذا ما يؤكّد عليه الدكتور محمد باقر الصدر حين يقول: “الصبر الصادقي كان منصبًّا في عملية بناء الشخصية المؤمنة على قواعد علمية دقيقة”. (محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، ص 111).
في هذا السياق، تأتي فلسفة السيد الخامنئي لتعزيز هذه الرؤية وتعضيدها وتبسيطها للمجتمع، حيث يؤكد أن “التقدم العلمي للأمة الإسلامية اليوم هو جزء من إرث إدارة الصبر التي دشنها الإمام جعفر الصادق (ع)”. (خطاب الذكرى السنوية لانتصار الثورة، 2019م).
كما أن الإمام (ع) مارس إدارة المخاطر، وهي من أرقى نظريات الإدارة الحديثة، إذ كان يختار مواقف محددة يتحدث فيها بوضوح، ويحاذر في مواقف أخرى. لم يكن السكون عنده ضعفًا، بل حسابًا دقيقًا للنتائج. وكان يقول لأصحابه: “اعملوا في السر، وادعوا في العلن”. (بحار الأنوار، ج47، ص 58).
هذا المنهج ينسجم تمامًا مع رؤية السيد الخامنئي حول “التقية الثورية”، حيث يوضح أن التقية ليست نفاقًا، بل أداة ذكية لحماية المشروع الكبير حتى تحين ساعة الإعلان الكامل. (السيد علي الخامنئي، دروس في فكر الثورة الإسلامية، ص 145).
إن كل ملاحظة في حياة الإمام الصادق (ع) تكشف عن مدرسة إدارية متكاملة للصبر: الصبر التخطيطي، الصبر الشبكي، الصبر المعرفي، الصبر الانفعالي، والصبر السياسي. وهو ما يجعل من سيرته مرجعًا هامًّا لأي إدارة عقائدية تسعى للبقاء والنمو تحت وطأة الضغوط.
ولعل أجمل ما نختم به هو ما قاله السيد الخامنئي: “لو أردنا أن نبني أمة تقود العالم بالحق، فعلينا أن نتعلم كيف ندير الصبر كما أداره الإمام جعفر بن محمد الصادق”. (خطاب بمناسبة أسبوع الوحدة الإسلامية، 2020م).
هكذا، يتضح أن الإدارة العقائدية للصبر التي مارسها الإمام الصادق (ع) ليست مجرد حالة فردية، بل مشروعًا حضاريًا، يتكامل مع النظريات الإدارية المعاصرة، وينبع في روحه من الإيمان العميق بسنن الله في الكون والتاريخ.
إنها إدارة من طراز فريد، لا تُشبه إلا ذاتها.
المقالات المرتبطة
مطالعة في كتاب الإسلاموقراطية: السلفية وامتحان الديمقراطية
يُبرز الكاتب موقف الإخوان المسلمين (مسثنيًا سيد قطب من القراءة)، فبالرغم من غياب الديمقراطية في حياة التنظيم الداخلية إلا أنه انخرط في الواقع السياسي وارتضى الديمقراطية شكلًا ومسارًا للوصول إلى السلطة.
مالك يوم الدين ومَلِكِ يومِ الدين
تعتبر القراءات القرآنية جزءًا أصيلًا من التنوع اللغوي في النص القرآني، وهي تعكس دلالات متعدّدة تثري المعنى دون أن تؤدي إلى تناقض
قراءة في ضوابط التأويل وأبعادها المنهجية
تتناول هذه الدراسة إشكالية ضبط تأويل النصوص القرآنية في العصر الحاضر.