القائمة الرئيسة

رجاءُ الفقيه ونبضُ الفلسفة الفقهية

رجاءُ الفقيه ونبضُ الفلسفة الفقهية

قراءة درامية في فكر الإمام الخميني (قده) 

في زحام العالم الذي تطغى عليه أصوات الماديات، يتوارى الرجاء بين دهاليز الألم، وينكفئ الفقه في عيون بعض الناس على صورة قوانين جامدة، لا تنبض بالروح ولا تتوشح بأمل. ولكن، وسط هذا الركام، ينهض صوتٌ استثنائي، كأنه صدى الروح في جسد الأمة، صوت الإمام الخميني (قده)، الذي أعاد للفقيه وجهه الحقيقي، لا كقاضٍ متجمد، بل كمرشد روحي يحمل الرجاء في قلب الفقه، ويجعل من الفلسفة الفقهية سلّمًا تصاعديًّا نحو الله، لا قيدًا يثقله.

هذا المقال رحلة في عمق هذا الفكر، حيث تمتزج الدراما بحكمة الفقه، ويطل الرجاء من بين سطور القوانين ليقول: الفقه ليس حدودًا فقط، بل هو أملٌ للعبور.

الفقه روحًا لا هيكلًا.

يُعرّف الإمام الخميني الفقه، لا كمجموعة من الأحكام الفروعية فحسب، بل كنظام متكامل لرعاية الإنسان في دنياه وأخراه. يرى أن الفقيه يجب أن يكون ناطقًا باسم الروح الإسلامية، لا مجرّد ناقلٍ لكتب الفتاوى. يقول في كتابه الاجتهاد والتقليد: “إن الفقه الإسلامي، لو جُرِّد عن بُعده الروحي والسياسي، لصار هيكلًا ميتًا لا يُغني من جوع، ولا يهدي في ظلمة”. (الإمام الخميني، الاجتهاد والتقليد، ص35).

الدراما هنا ليست محض زخرف لغوي، بل انعكاس لحالة واقعية: فقهٌ حيّ يُغذّي الأرواح، وفقهٌ ميت يُثقل النفوس. وبين هذا وذاك، يقف الإمام الخميني حاملًا راية إحياء الفقه بروحه الفلسفية والرجائية.

الفلسفة الفقهية، جوهرٌ يتجاوز الفروع.

حين يتحدث الإمام الخميني عن الفلسفة الفقهية، فهو لا يستعرض كلمات مجردة، بل يضع إصبعه على جرح الأمة: انفصال الفقه عن الحياة. في كتابه الحكومة الإسلامية، يتناول بجرأة فلسفة الأحكام، ويشير إلى أن “كل حكم شرعي هو تجلٍّ من تجلّيات الرحمة الإلهية، ولا يُمكن فهمه خارج سياق غايته الإنسانية والروحية”. (الحكومة الإسلامية، ص50).

هنا نرى الفقيه الفيلسوف، لا كعالم كلامي، بل كقائد فكري يرسم فلسفة وراء كل حكم: لماذا الصلاة؟ لماذا الحدود؟ لماذا الجهاد؟ كلها ليست مجرد أوامر، بل رسائل محبة، إن فُهمت من الداخل.

الرجاء في فقه الإمام: نور في نفق الضياع:

وفي قلب هذه الفلسفة ينبض الرجاء، ليس كحالة نفسية فحسب، بل كمبدأ فقهي وفلسفي. الرجاء في نظر الإمام هو بوابة النجاة للمذنب، ومحرّك التوبة، ووقود الاستقامة. يقول في كتابه الأربعون حديثًا: “الرجاء الحقيقي لا يعني الاطمئنان الكاذب، بل هو حركة داخلية تضع العبد على سكة العودة إلى الله، دون أن تغرقه في الأمن من مكر الله”. (الأربعون حديثًا، ص128).

هنا تشتد الدراما الروحية: الإنسان بين الخوف والرجاء، على حد سكين، إما أن يهوي إلى درك الغرور، أو يصعد سلّم الطاعة برجاء صادق.

من فقه الحدود إلى حدود الرحمة.

لعلّ من أبرز مواطن التجلّي في فكر الإمام هو إدخاله بُعد الرجاء في أقسى الأحكام: الحدود. ففي رأيه، إقامة الحد ليست انتقامًا، بل تطهيرًا. ويؤكد في تعليقاته على تحرير الوسيلة أن “الحد يُدرأ بالشبهة، لأن الله يحب أن يعفو، ويحب أن يفتح باب الرجاء حتى في أشد المواطن”. (تحرير الوسيلة، ج2، ص457).

هذه ليست فتوى فقهية فقط، بل رؤية وجودية: حتى المذنب، عند الإمام، هو محل للعناية الإلهية، ما دام لم يُقفل باب الرجاء في قلبه.

الدراما في ساحة الفتوى، رجاء يتحدى الجمود.

من يتأمل فتاوى الإمام الخميني في قضايا النساء، أو السياسة، أو العلاقات الاجتماعية، يُدرك أن الرجل لم يكن مجرد ناقلٍ للأقوال، بل كان يزرع الرجاء في جسد الأمة. فتواه بجواز إقامة صلاة الجمعة في ظل الدولة الإسلامية، رغم الخلاف الفقهي، لم تكن مجرد رأي، بل رسالة رجاء تقول: “الدين قادر على الحياة، لا في الكتب فقط، بل في الواقع”.

وفي توصيته لطلبة العلوم الدينية يقول: “إياكم أن تجعلوا من الفقه جدارًا بينكم وبين الناس، بل اجعلوه جسرًا يوصلهم إلى الله”. (وصية الإمام الخميني، ص23). وهذه دعوة واضحة إلى أن تكون الفتوى مبنية على فلسفة رجاء لا قيد تقنين.

الرجاء في السلوك السياسي، فقيه الثورة لا يخاف.

من أكثر تجليات الرجاء في فكر الإمام هو موقفه السياسي الجريء، حين واجه أعتى طغاة العصر بشعار “لا شرقية ولا غربية، جمهورية إسلامية”. لم يكن هذا الشعار سياسيًّا فقط، بل فقهًا رجائيًّا، يثق بأن الله سينصر عباده ولو بعد حين.

في وصيته السياسية، يقول: “إنني أُوصيكم أيها الأعزاء، أن لا تيأسوا من نصر الله، فإن الرجاء في الله هو ذخيرة القلوب المؤمنة”. (الوصية السياسية، الإمام الخميني، ص11). هذه الكلمات ليست مجرد موعظة، بل فلسفة مقاومة قائمة على الرجاء كقيمة وجودية.

الموت في فكر الإمام، رجاء اللقاء لا رهبة النهاية.

حتى الموت لم يخلُ من الرجاء في فلسفة الإمام. ففي لحظاته الأخيرة، وكلماته المسجلة، كان يُردد: “إننا نرجو الله، لا لأننا أهل للعمل، بل لأننا نعرف أنه أهل للعفو”. (وصايا الإمام الخميني، نقلًا عن صحيفة نور، ج21، ص42). هذه العبارة تختصر كل الدراما التي أراد أن يغرسها في قلب كل مسلم: العمل مطلوب، نعم، لكن الرجاء هو الذي يهب الروح للعمل.

خاتمة درامية بفلسفة نبوية.

الفكر الفقهي عند الإمام الخميني هو امتداد لنفس محمدي، لا يرى في الفقه جمودًا، بل مرونة، ولا في الحدود قسوة، بل رحمة، ولا في السياسة كيدًا، بل إصلاحًا، ولا في الموت فناءً، بل لقاءً. وفي كل هذا، الرجاء هو النبض الذي يجعل القلب الإسلامي حيًّا.

لقد بنى الإمام فلسفة فقهية تتجاوز ظاهر الأحكام إلى روحها، وتجاوز صرامة التشريع إلى رحمة التأويل، وجعل من الفقيه إنسانًا يُعلّم الرجاء، لا الخوف فقط، ويُوقظ في الأمة حبّ الله، لا مجرد رهبة العقاب.

وهكذا، حين نقف أمام فكر الإمام الخميني (قده)، فإننا لا نقرأ فقهًا فحسب، بل نحيا دراما روحية، عنوانها الأسمى: “رجاء العارفين، وفلسفة العاشقين”.



المقالات المرتبطة

علم الوجود عند الملّا صدرا

المصطلح الأول كلمة «الوجود» في الفلسفة الإسلامية. مفهوم «الوجود» أمر ذهني يقف على الجهة المعاكسة لمفهوم «العدم».

قراءة في كتاب زاد اللّقاء

أولًا: الكتاب في سطور اسم الكتاب: زاد اللقاء. الكاتب: الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي. جمع وتدوين: أسد الله طوسي. ترجمة:

الروح الصوفية في النظريات الجمالية العربية الإسلامية

يحاول الباحث في هذه الدراسة تحديد الرؤى الأساسية التي يحملها المتصوفة المسلمون إزاء الجمال وبلورة هذه الرؤى على نحو نظريات واتجاهات

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<