الأبعاد الروحية والاجتماعية للصيام وأثرها في تهذيب النفس

مقدمة
يُعتبر الصوم في الإسلام أكثر من مجرد امتناع عن الطعام والشراب؛ فهو ممارسة شاملة تهدف إلى تزكية النفس وتنمية الأخلاق الحميدة، ويُعد جهادًا حقيقيًّا للنفس على كافة الأصعدة. من خلال هذه العبادة، يُمنح الفرد فرصةً للتحكم في شهواته والتخلي عن المظاهر الدنيوية، مما يُفضي إلى تنمية القدرات الروحية والتحلي بالتقوى. يستند هذا البحث إلى مجموعة من المصادر الشرعية والأدبية، بما في ذلك القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، إضافةً إلى آراء العلماء والمفكرين الذين تناولوا موضوع الصوم كوسيلة لتهذيب النفس. يُسلّط المقال الضوء على الأبعاد النفسية والاجتماعية للصوم، مع التركيز على تأثيره في بناء شخصية متزنة قادرة على مواجهة التحديات والصعاب بصبر وثبات. في ضوء ذلك، يُعد الصوم أداة للتجديد الذاتي وتحقيق التوازن بين الحياة المادية والروحية، مما يسهم في تحقيق الكمال الأخلاقي والتنشئة الروحية.
أولًا: البعد الروحي والفكري للصوم.
الصوم عبادة سامية تهدف إلى تهذيب الروح وتطهير القلب، وهو وسيلة فعالة للتقرب إلى الله وتعزيز التقوى. فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1]. تشير هذه الآية إلى أن الصوم ليس مجرد فرض تعبدي، بل هو وسيلة لتحقيق التقوى، أي: الخوف من الله والالتزام بأوامره والابتعاد عن نواهيه. فالصوم يُعلّم الإنسان الصبر والانضباط، ويُساعده على مجاهدة شهواته.
وقال ابن رجب الحنبلي: “الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فإذا كان له جنة من المعاصي، كان له في الآخرة جنة من النار، ومن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جنة في الآخرة من النار”[2].
ويشير ابن القيم إلى أن “للصيام تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحِمْيتها عن التخليط الجالب لها الموادَّ الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغِ الموادِّ الرديئة المانعة لها من صحَّتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحَّتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العونِ على التَّقوى”[3].
وقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: “الصوم جُنّة”[4]؛ أي إنه بمثابة درع واقٍ يحمي الإنسان من المعاصي والذنوب، كما أنه وسيلة لتطهير النفس وتزكيتها.
إضافةً إلى ذلك، يُعزز الصوم شعور الإنسان بالامتنان لما أنعم الله عليه من رزق، إذ يختبر الصائم الجوع والعطش، فيشعر بمعاناة الفقراء والمحتاجين، مما ينمي بداخله مشاعر الرحمة والتواضع. وهكذا، يجمع الصوم بين البعد الروحي الذي يُقرب العبد من ربه، والبعد الأخلاقي الذي يرسّخ القيم الإنسانية النبيلة.
ثانيًا: تهذيب النفس خلال الصوم.
يُعَدُّ الصوم أحد العبادات التي تُربي النفس وتهذب الأخلاق، إذ يمنح الإنسان فرصةً للتأمل في نِعَم الله تعالى والشعور بمعاناة الآخرين. فالله يختبر عباده بفترةٍ زمنيةٍ محددة يمتنعون فيها عن الطعام والشراب، ليس فقط كتكليفٍ شرعي، بل كوسيلةٍ لتزكية النفس وكبح جماح الشهوات. فالصيام لا يقتصر على الامتناع عن شهوتي البطن والفرج، بل يشمل التحكم في المشاعر والانفعالات مثل التهور، والغرور، والأنانية، والغضب، مما يساهم في تحقيق التوازن النفسي والسمو الروحي.
ومن هنا، فإن جهاد النفس خلال الصيام يتجلى في القدرة على ضبط الغرائز والانفعالات، مما يُعين الصائم على التحلي بالحلم والتواضع، والابتعاد عن الأذى والظلم. وقد حذر النبي (ص) من الصوم الذي يخلو من هذه القيم، فقال: “مَن لم يدع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ، حتى يكون الصائم صادقًا في عبادته، مستفيدًا من روحانية فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابه”[5]. وهذا يؤكد أن الصيام المقبول ليس مجرد جوعٍ وعطش، بل هو مجاهدةٌ للنفس، وتحقيقٌ للسمو الأخلاقي، وتطهيرٌ للقلب من الآفات في تحسين سلوكه وتعاملاته مع الآخرين[6].
يُسهم الصوم في تعزيز الإيمان وتقوية الإرادة والعزيمة، حيث جُبل الإنسان على حب الشهوات والانغماس في الملذات، مما يجعل الصيام جهادًا مستمرًّا للنفس في مواجهة هذه النزعات الفطرية. ومن خلال الامتناع عن الشهوات، يدخل الصائم في حالة روحانية سامية، فيقترب من ربه بقلب خاشع، مستشعرًا عظم نعمه عليه. فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو وسيلة لترسيخ الإخلاص لله وتعميق الشعور بالامتنان لنعم لا تُحصى، وأهمها نعمة الصحة، التي قد يغفل الإنسان عن قيمتها حينما يتمتع بها، ولكنه يدرك أهميتها عندما يفقدها.
ومن خلال تجربة الامتناع عن الطعام والشراب، يستشعر الصائم معاناة الفقراء والمحتاجين، مما يعزز في نفسه الشعور بالتضامن الإنساني ويدفعه إلى شكر الله على ما أنعم به عليه. وهكذا، يغرس الصوم في القلب يقينًا بأن الله هو المتصرف في شؤون الإنسان، القادر على المنح والمنع، مما يرسخ التوكل عليه ويعزز الصلة الروحية بين العبد وخالقه[7].
ثالثًا: الصوم كوسيلة للارتقاء بالأخلاق.
إن للصيام تأثيرًا عميقًا في تهذيب الأخلاق وتعزيز السلوكيات الإيجابية، حيث يلزم المسلم بالتحلي بالصبر وكظم الغيظ، والابتعاد عن مظاهر الغضب والانفعال كما ذكرنا سابقًا. ويؤكد النبي (ص) على هذا البعد الأخلاقي للصيام بقوله: “إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو شاتمَهُ، فليقلْ: إنِّي صائمٌ”[8]. وهذا التوجيه النبوي يعكس الأثر التربوي للصيام في ضبط النفس والسمو بالخلق.
وتزداد أهمية هذا الانضباط السلوكي لدى المرضى المصابين بداء السكري غير المعتمد على الأنسولين، حيث إن التوتر والانفعال يؤديان إلى ارتفاع مستويات السكر في الدم نتيجة إفراز هرمونات التوتر مثل “الكاتيكولامين”. ومن هنا، فإن اعتماد الصيام كأسلوب لتهدئة الأعصاب وتقليل التوتر يسهم في تحسين استجابة الجسم لمستويات السكر، مما يعزز الفوائد الصحية للصيام إلى جانب قيمته الروحية. ومع ذلك، يُنصح المرضى المصابون بالسكري المعتمد على الأنسولين بتجنب الصيام، نظرًا لحساسية توازن الأنسولين لديهم. وهكذا، يتجلى الصيام ليس فقط كعبادة روحانية، بل كوسيلة فعالة لتهذيب النفس، وتقويم السلوك، وتحقيق التوازن النفسي والجسدي، مما يعكس تكامل القيم الأخلاقية والصحية التي يُرسخها الصيام في حياة المسلم[9].
كما أن الصيام يُعلِّم الإنسان التحكم في شهواته ورغباته، مما يجعله أكثر قدرة على مقاومة الإغراءات الدنيوية، ويُرسِّخ في نفسه الشعور بالمسؤولية اتجاه الآخرين. وهذا ما يفسر الربط بين الصيام والإحسان، حيث يدفع الإنسان للتفكر في معاناة الفقراء والمحتاجين، مما يُنمِّي لديه مشاعر الرحمة والتكافل الاجتماعي. وهكذا، يتجلى الصيام ليس فقط كعبادة روحانية، بل كوسيلة فعالة لتهذيب النفس، وتقويم السلوك، وتحقيق التوازن النفسي والجسدي، مما يعكس تكامل القيم الأخلاقية والصحية التي يُرسِّخها الصيام في حياة المسلم.
رابعًا: الجانب النفسي والاجتماعي للصوم.
يُعَدّ الصيام تجربة فريدة تُسهم في تهذيب النفس وتعزيز التفاعل الاجتماعي، حيث لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل يمتد ليشمل ضبط السلوكيات وكبح الشهوات وتنمية القدرة على التحكم في الذات. فالصائم يُدرَّب خلال هذا الشهر على كبح رغباته الفطرية، مما يرسِّخ لديه فضيلة الصبر، ويعزز شعوره بمعاناة الفقراء والمحتاجين، الأمر الذي يُوطّد قيم التكافل الاجتماعي.
وفي هذا السياق، يشير الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين إلى أهمية الامتناع عن بعض المباحات في تقوية الإرادة وتهذيب النفس، قائلًا: “فإنّ النّفسَ إذا لم تُمنَع بعض المباحات طَمِعَت في المحظورات”[10]. وهذا يؤكد أن ضبط النفس من خلال الامتناع عن المباحات خلال الصيام يُعزز قدرة الإنسان على مقاومة المغريات، ويمنعه من الانجراف وراء المحرمات، مما يؤدي إلى تنمية الإرادة وتحقيق الاتزان النفسي.
حيث يمثل الصوم تجربة جماعية تعزز الروابط الاجتماعية، إذ يجتمع المسلمون في مختلف أنحاء العالم على أداء هذه العبادة في وقت واحد، مما يرسخ مفهوم وحدة الصف الإسلامي. فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو وسيلة لخلق مشاعر الانسجام والتلاحم بين المسلمين، حيث يوحدهم في توقيت الإفطار والسحور، ويجمعهم في صلاة التراويح والعيد، مما يعزز روح التضامن ويقوي شعورهم بالانتماء إلى أمة واحدة، قادرة على مواجهة التحديات بروح التعاون والتآخي[11].
كما أن الصيام يسهم في ترسيخ قيم التكافل الاجتماعي، حيث يجعل المسلم أكثر إدراكًا لمعاناة الفقراء والمحتاجين، فيشعر بجوعهم وحرمانهم، مما يدفعه إلى الإحسان والتصدق استجابةً لقيم الرحمة والمواساة التي يدعو إليها الإسلام. وقد جسد النبي (ص) هذا البعد الإنساني في قوله: “مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهِمْ وتراحُمِهِمْ وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَرِ والحمّى” [12]. وهكذا، يسهم الصيام في تقوية الروابط الاجتماعية، ويحول المجتمع الإسلامي إلى كيان متماسك تسوده قيم العطاء والتراحم، فيصبح أكثر قدرة على تحقيق التكافل والتعاون في مواجهة التحديات المختلفة.
الخاتمة
يمكن القول: إن الصوم في الإسلام يتجاوز كونه عبادة روتينية ليصبح منهج حياة متكامل يهدف إلى جهاد النفس وتهذيب الأخلاق. فقد تناول المقال الأبعاد الروحية والفكرية للصوم باعتباره وسيلة للتقرب إلى الله وتحقيق التقوى، كما أكد القرآن الكريم والأحاديث النبوية على ضرورة تطهير القلب وكبح جماح الشهوات لتحقيق الانضباط الذاتي. وفي الجانب النفسي والاجتماعي، يُبرز الصوم دوره في تعزيز الوحدة بين أفراد الصف الإسلامي وتوطيد روابط الأخوة والتكافل الاجتماعي، مما يُساعد على مواجهة التحديات الحياتية بروح من التعاون والتراحم. كما أظهرت آراء العلماء والمفكرين مثل ابن القيم وأبي حامد الغزالي أن الصوم يُعتبر وسيلة فعالة لإعادة توازن النفس، إذ يساهم في تقليل الميل إلى الإغراءات الدنيوية وتعزيز شعور المسؤولية اتجاه الآخرين. بناءً على ذلك، يمكن اعتبار الصوم ركيزة أساسية في بناء شخصية متوازنة تجمع بين البعد الروحي والعملي، مما يسهم في تحقيق التكامل الأخلاقي والصحي للفرد والمجتمع على حد سواء.
المصادر:
[1] سورة البقرة، الآية 183.
[2] ابن رجب الحنبلي البغدادي، جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، تحقيق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1424 هـ/2004 م)، الجزء الثاني، الصفحة 804.
[3] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد (المجلد الثاني)، تحقيق: محمد عزير شمس، (الرياض: دار عطاءات العلم، الطبعة الثالثة، 1440 هـ/2019 م)، الصفحة 35.
[4] راجع ما أخرجه البخاري في كتاب الصوم: باب فضل الصوم 4/ 83، ومسلم في كتاب الصيام: باب فضل الصيام 2/ 806، 807 كلاهما من حديث أبي هريرة.
[5] راجع: الصوم والانتصار على النفس، موقع الأزهر الشريف الإلكتروني، 12 يونيو 2018، https://zt.ms/aMDW.
[6] راجع: “رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوع”، موقع إسلام ويب، 20 فبراير 2025، https://zt.ms/Q7KW
[7] راجع: “الصوم والمسارعة إلى الخيرات”، موقع الأزهر الإلكتروني، 27 مايو 2018، https://zt.ms/rJsV
[8] البخاري، 4/ 83، ومسلم، 2/806، 807.
[9] راجع: محمود فتوح محمد سعدات، “الآثار الأخلاقية للصوم”، موقع (الألوكة)، 23 يونيو 2016، https://zt.ms/jCSW.
[10] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء 3، موقع (المكتبة الشاملة)، 67-68، https://zt.ms/nNK9.
[11] راجع: محمد الشرمان، “البعد الاجتماعي لصوم رمضان”، دار الإفتاء العام، الأردن، 13 مارس 2024، https://zt.ms/ltSh.
[12] البخاري، صحيح البخاري، حديث رقم 6011، ومسلم، صحيح مسلم، حديث رقم 2586، واللفظ لمسلم، موقع الدرر السنية، https://zt.ms/nMpE.
* ليسانس شريعة وقانون، وماجستير في الشريعة والقانون.
المقالات المرتبطة
الفكر العربي الحديث والمعاصر | المنهج ومميزاته عند محمد أركون
منهج محمد أركون تعدد المصادر المعرفية والمؤثرات الفكرية، طبعت المنهج الأركوني بطابعها الخاص، ولعلّ هذا ما يجعله يعتمد التعددية
إرجاع العلم الحصولي إلى العلم الحضوري من وجهة نظر العلامة الطباطبائي
جرت عادة الفلسفة الإسلامية بشكل واضح وبارز على تقسيم العلم إلى حضوري وحصولي، وتقسيم العلم الحصولي إلى تصوّر وتصديق، وتقسيم التصوّر الكلّي إلى: ماهوي، وفلسفي، ومنطقي، على المنوال نفسه.
ميتافيزيقا الموت
أفردت الفلسفة الإسلامية، حيزًا واسعًا ما بين مباحثها وموضوعاتها، للموت والحياة ما بعد الموت، والمعاد والنشأة الأخرى.