ثمة قواسم مشتركة انتهت إليها مقاربات الباحثين المشاركين في كتاب “الشيعة في لبنان من التهميش إلى المشاركة الفاعلة” (صادر عن دار المعارف الحكمية لمجموعة باحثين ـ 413 صفحة). وتتجلى بتأكيدهم على الحس الخفي المقاوم لدى شيعة لبنان بمواجهة أي ظلم أو احتلال (نماذج عنها في الكتاب)، وانتماء وطني وعروبي وإسلامي معًا، إيجابيات انتصار الثورة الإسلامية في إيران كرافعة لهم، وأهمية وحدة الطائفة الممثلة بـ”أمل” و”حزب الله” في توكيد الحضور الذي لن ولا يمكن السماح بعودته إلى التهميش.
ثمة ملاحظة لا تعفي حصرية الكتاب بالمضمون الذي عالجه، ومنها عدم مشاركة باحثين من غير طوائف للكتابة عن شيعة لبنان، فماذا لو أن باحثين من عائلات شيعية الأصل اضطرتها الظروف إلى الانتقال إلى المذهب الماروني، تحديدًا، شاركت في الكتابة عن روحية هذه التجربة؟ أو أن باحثين آخرين تشاركوا الكتابة عن التهميش والحرمان والعمل المقاوم الذي تقاسموه والشيعة في الوطن؟
ثمة أمر آخر يطرح سؤال العبء المادي والمعنوي على عبارة “المشاركة الفاعلة” والتي تضع المسؤولين في الطائفة الشيعية تحت مجهر المراقبة والمحاسبة.
ولمزيد من الحثّ على النقاش منعًا لتهمة الشيعة بالانعزال (لا سيما في هذه الظروف الملتبسة) نسأل عن معنى إلحاح الذاكرة في الإفصاح عن المكابدة والتحقير والفقر، فهل الواقع المعيشي لأبناء الأرياف من المذاهب الإسلامية الأخرى ومن المسيحيين أيضًا كانوا أفضل حالة لدى نزوحهم إلى المدن؟ فهل الإفصاح لتطهير الذاكرة، أم لاستثارة العصبية التي تحمي وحدة أبناء الطائفة؟
والكتاب إذ يتصدى لاهتمام مراكز الأبحاث الأكاديمية والاستراتيجية التي عملت على نقل صورة عن الشيعة وفقًا لما تراه دوائر طبخ القرار السياسي في البلدان المعنية (المقدمة)، فهو في هذه النقطة يقع في مهمة تصحيح الوعي الذاتي للطائفة بأقلام أبنائها من النخب بعيدًا عن تصورات الآخرين، أو الرأي الآخر، مما قد يفهم منه إشهار الشك المسبق بالنيات، ويتيح للآخرين الشك في موضوعية أبحاث الكتاب المشار إليه.
بدءًا من كسروان – جبيل تاريخيًّا وقبل الحكم العثماني، يبدأ البحث بتاريخ الشيعة في لبنان وسيطرتهم على مناطق في بلاد الشام (دولة “بنو عمار”، الفاطميون، والبويهيون والحمدانيون)، وتعرّضهم للتهجير القسري باتجاه البقاع وجنوب لبنان بعد الحملات العسكرية المملوكية المتعددة ضدهم، ثم صراعهم مع الإمارتين الشهابية والمعنية، وسيطرة العشائر الحمادية، وفتنة 1860، “والثمن الذي دفعه الشيعة يومها بسبب الصراع الدرزي – الماروني”، إلى أن أخذ دور الشيعة بالأفول مع إعلان دولة لبنان الكبير، فتفاوت الموقف الشيعي بين تأييد للفرنسيين من شيعة جبل لبنان، ومطالب للالتحاق بسوريا من شيعة جبل عامل (مؤتمر وادي الحجير1920)، ليتشاركوا لاحقًا في دولة الاستقلال من خلال رئاسة المجلس النيابي، وانخراط شبابهم في الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990 تاريخ انتهائها وإقرار اتفاقية الطائف، وما عكسته هاتان المحطتان من تغيرات لدى شباب الطائفة وموقعها في النظام السياسي اللبناني (بدء المشاركة الفعلية في الكيان).
نشير هنا إلى خاصية ميّزت شيعة بعلبك – الهرمل هي شهادتهم ومشاركتهم على انطلاقة إطارين تنظيميين سياسيين وعسكريين وهما حركة “أمل” على يد الإمام المغيب السيد موسى الصدر (العام 1974 في بعلبك ويرأسها الرئيس نبيه بري حاليًّا)، ونشوء “حزب الله” على أرض بعلبك، فيُنقل عن كتاب مسعود أسداللهي “إسلاميون في مجتمع تعددي” أن الحكومة الإيرانية بواسطة سفيرها في دمشق، وقوات الحرس الثوري المتمركزة في بعلبك أتاحت المجال لتشكيل لجنة صارت لاحقًا حزب الله، وبسماح الرئيس حافظ الأسد أثناء معارك خلده في الـ82 لأول مرة لوحدة من وحدات “الحرس الثوري الإيراني”، ويبلغ تعدادها ثمانمئة عنصر للانتقال من مقرها في الزبداني إلى بعلبك…
يُضاهي تركيز الباحثين على مكانة الشيعة تاريخيًّا في الحضور والسيطرة، تركيزهم على حضورهم المقاوم في مراحل تاريخية، فهم واجهوا الغزو الصليبي، والتتار، وثاروا في كسروان فانتهى وجودهم، وبدأت الهجرة المارونية إليها، إلى الأذى الذي لحق بهم تحت السيطرة العثمانية خاصة عند اشتداد الصراع الصفوي – العثماني، والنكبة التي حلّت بهم على يد الجزّار، فهاجر علماؤهم إلى إيران والهند والعراق، ومقاومتهم لحملة إبراهيم باشا المصري، وللاستعمار الفرنسي، وطلبهم الوحدة مع سوريا بقيادة فيصل الأول باعتباره هاشمي النسب، ومشاركتهم في ثورة سوريا الكبرى مع سلطان باشا الأطرش، ومساندتهم لثورة 1936 في فلسطين بقيادة عز الدين القسام، ومع “جيش الإنقاذ” في فلسطين العام 48، وتنفيذهم إضرابًا عامًا ضد سلخ لواء الإسكندرون.. ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية بعد هزيمة العام 67 كان لشباب الجنوب دور بارز في الانضمام إليها وتقديم الشهداء والدعم، إلى مقاومتهم اجتياحي الـ78 والـ 82، إلى صعود المقاومة التي أخرجت العدو الإسرائيلي العام 2000 وهزمته العام 2006.
في قراءات التجربة المعاصرة يبرز دور ومشروع الإمام موسى الصدر في توحيد جسد الطائفة، وتأثيرات الثورة الإسلامية في إيران على الوعي الشيعي لهوية الطائفة، خاصة في ظل دور ملتبس لحضور الدولة في حماية جنوب لبنان الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، فانحصرت التجربة الحزبية والتي شهدت حضورًا تاريخيًّا منذ عشرينيات القرن الماضي بالانتساب إلى الأحزاب، وتأسيس رشيد بيضون منظمة الطلائع سنة 23 ودورها في الحراك الاجتماعي للشيعة (دراسة نزيهة صالح الجامعية عن المدارس الخيرية في لبنان: العاملية نموذجًا)، ومنافسة أحمد الأسعد له بتأسيسه “منظمة النهضة”، وبعدها في أحزاب اليسار، ضمن تنظيمي حركة المحرومين “أمل”، و”حزب الله” متوجَين بدخولهما البرلمان تحت شعار: وحدة الطائفة وحماية المقاومة كهدفين مصيريين.
ليس جديدًا تعريف طوائف لبنان “بذاتهم وعن ذاتهم”، ولكن ما هو الأثر الوطني الجامع الذي أفضت إليه هذه الثقافة؟ ألا يجعلنا نختم بسؤال مبرر تفرضه صـورة الوضع القائم والقاتم، حيث إن جمهور كل طائفة يتابع أخبار ووسائل إعلام طائفته: كيف ستكتمل الصورة في غياب طوائف وقوى عانت وقاومت عن أبحاث الكتاب المشار إليه؟
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
