أستاذ الأساتيذ..

رحلة المرجع الديني أبو القاسم الخوئي بين جلال الفقه ودهشة العقل
في إحدى زوايا و(عگود) النجف القديمة، وتحديدًا في دهاليز الحوزة العلمية النجفية، جلس شاب نحيل الجسد ناعم البُنية، غزير الفكر شديد النباهة، غارق في شروح المكاسب، لا يعرف أن مصيره سيخطّ على صفحات الفقه أثرًا لا يمحى، وسيُلقب ذات يوم بـ”أستاذ الأساتيذ”؛ ذاك هو أبو القاسم الخوئي، (مَرجعُ المَراجع)، كما أحب أن أسميه، الرجل الذي لم يكن مجرد مرجع ديني، بل كان موسوعة حيّة تمشي على الأرض، تذيب صخور التقليد بوهج الاجتهاد، وتبني مدارس فكرية تخرّج منها عظماء العصر الحديث في الحوزة.
ولد أبو القاسم بن علي أكبر الخوئي سنة 1317 هـ (1899م) في خوي بإيران، ثم هاجر في ريعان شبابه إلى النجف الأشرف، مركز العلوم الإسلامية الشيعية في العالم. هناك، بين جدران مدرسة الشيخ الأنصاري، بدأ نجمُه يصعد أو يسطع بهدوء. تتلمذ على يد فحول العلماء أمثال الشيخ النائيني المعلم الأول (النجفي، رجال الفكر والدين، ص 233)، ثم سرعان ما صار مقصدًا لطلاب العلم من كل فج عميق.
لكن ما الذي جعله يُلقّب بـ”أستاذ الأساتيذ”؟ إنها طريقته الخاصة في التعليم. لم يكن يقدّم المعلومة جاهزة لطلابه، بل كان يدفع تلامذته إلى تمزيق المتون، وإعادة بناء المسائل من جذورها، ودليل هذا أن أبرز مراجع الشيعة هم من طلبته. كان يردّد في درسه “العقل ميزان الاجتهاد، وليس النقل وحده”، وهي عبارة أرعبت التقليديين وألهبت حماسة المجتهدين. وقد نقل آية الله محمد باقر الصدر أنه “لم ير مثيلًا له في دقة التحليل وقوة المنهج”. (الهاشمي، تطور الفكر الأصولي، ص 114).
ألّف الخوئي أكثر من 40 مؤلفًا علميًّا، أبرزها كتابه الموسوعي “معجم رجال الحديث” الذي يعدّ أول محاولة جادة لتنظيم علم الرجال بطريقة موضوعية، وهو ما عدّه الدكتور محسن الأمين “ثورة علمية على الركود المنهجي”. (الأمين، أعلام الشيعة، ج 10، ص 324). كذلك يُعدّ كتابه “البيان في تفسير القرآن” من أبرز المحاولات الشيعية المعاصرة في تفسير القرآن بروح علمية عقلانية، مع تمسك رصين بمدرسة أهل البيت. (الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 7).
الدراما الحقيقة في حياة الخوئي لم تكن في كتبه، بل في مواقفه. فعندما تفجّرت الأوضاع في العراق في انتفاضة شعبان عام 1991، رفض أن يُستغل اسمه سياسيًّا رغم الضغوط الهائلة. وقف كالطود الراسخ، مدافعًا عن استقلال المرجعية عن كل تيار سياسي، في وقت كان الانتماء فريضة مفروضة.
لم يكن أبا القاسم الخوئي مرجعًا فحسب، بل كان صانع مرجعيات في النجف وقم. فقد تخرج على يديه جيل كامل من كبار العلماء، من أبرزهم السيد علي السيستاني، الذي خلفه في زعامة الحوزة، وآية الله السيد محمد تقي المدرسي، وغيرهم ممن صاروا هم أنفسهم مراجع يُرجع إليهم. (السبحاني، رواد المدرسة الأصولية، ص 190).
توفي السيد الخوئي عام 1992م، لكن وفاته لم تطوِ صفحته، بل فتحت صفحات كثيرة جديدة في عالم الفكر الشيعي. لا يزال تلامذته ينهلون من مدرسته، ويستشهدون بآرائه في الأصول والرجال والتفسير، ولا تزال آثاره محفورة في جدران الحوزة العلمية في النجف الأشرف. لم يكن الخوئي فقيهًا فقط، بل كان مشروعًا حضاريًّا كاملًا، جمع بين التراث والمعاصرة، بين السكينة العقلية وعنفوان التجديد.
وقد وصفه المفكر الدكتور حسن الصفار بأنه: “فقيه بحجم أمة، تجاوز حدود الفتوى إلى صناعة العقل الفقهي الجديد”. (الصفار، المذهب والاجتهاد، ص 211).
وفي الختام، حين نتأمل مسيرة هذا “الأستاذ”، لا نرى مجرد رجل من رجال الدين، بل نرى معلّمًا للفكر، ومهندسًا لمنهج الحوزة، وناقدًا بصمت، ومُجدِّدًا دون إعلان. إنه أبو القاسم الخوئي، الذي كتب اسمه في سجلّ الكبار بمدادٍ من الفقه، والعقل، والمروءة.
المراجع:
- أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، النجف: مطبعة الآداب، 1974.
2 . أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث، النجف: مؤسسة الإمام الخوئي، 1983.
3 . الشيخ محمد حسين النجفي، رجال الفكر والدين، قم: دار الحديث، 2001، ص 233.
4 . محسن الأمين، أعلام الشيعة، بيروت: دار التعارف، ج10، ص 324.
5 . حسن الصفار، المذهب والاجتهاد، بيروت: دار المحجة البيضاء، 2007، ص 211.
6 . جعفر السبُحاني، رواد المدرسة الأصولية، قم: مؤسسة الإمام الصادق، 1996، ص 190.
7 . علي الهاشمي، تطور الفكر الأصولي عند الشيعة، بيروت: دار الأضواء، 1992، ص 114.
المقالات المرتبطة
الحب في الله
إن عنوان “الحب في الله – عز وجل – والبغض في الله – عز وجل –” عنوان واسع في تراث أهل البيت عليهم السلام، وكذلك القرآن الكريم، يطرح موضوع الحب في الله عز وجل
تلخيص كتاب روائع المناجاة – شرح المناجاة الشعبانيّة ومناجاة المريدين
لعلّ هذا الكتاب يكون زادًا أخرويًّا ومعينًا للسالكين على درب الحبيب، ورافدًا للمؤمنين في حركتهم في قوس الصعود من عالم الناسوت إلى عالم الملكوت، يشربون من كأس محبّة الله ولطفه، يشربون ولا يتروون.
هل حَكَم المعري مدينة المعرّة؟
يقف الإنسان حائرًا في كثير من الأحيان ليسائل نفسه، هل كلّ ما يُقال أو قيل يحتاج إلى مراجعة في المجال