البوطي: مقولات في السّلم والحرب والحكم والمعارضة

البوطي: مقولات في السّلم والحرب والحكم والمعارضة

 تحميل البحث

يُعتبر محمّد سعيد رمضان البوطي (1929-2013) الكرديّ الأصل، من أشهر علماء سوريا ودعاتها. هاجر مع والده مُلّا رمضان (1888-1990) إلى دمشق عام 1933 ميلاديّ من قريته جيلكا التابعة لجزيرة ابن عمر المعروفة بجزيرة بوطان والتي تقع على ضفاف نهر دجلة عند نقطة التلاقي بين حدود سوريا والعراق وتركيا، إثر هيمنة العلمانيّة الأتاتوركيّة على أنقاض الدولة العثمانيّة، فسكن في حيّ الأكراد (ركن الدين) على سفح جبل قاسيون. التحق بمدرسة ابتدائيّة في منطقة ساروجة في دمشق، لكن لوالده مُلّا رمضان الدور الأكبر في تلقينه دروس العقيدة والسيرة والنحو والصرف في سنّ مبكرة. وتلقّى البوطي الابن العلوم في معهد التوجيه الإسلاميّ لدى الشيخ حسن حبنكة الميدانيّ (1908-1978)، في جامع منجك في حيّ الجزماتيّة في الميدان لفترة ستّ سنوات أي حتّى العام 1953 ميلاديّ. وفي عام 1954، سافر إلى القاهرة حيث حصل على شهادة الإجازة في الشريعة من جامعة الأزهر عام 1955، ثمّ حاز على دبلوم التربية من كلّيّة اللغة العربيّة في الجامعة ذاتها عام 1956 ميلاديّ. ودرّس مادّة التربية الإسلاميّة في حمص عام 1958، قبل أن يعيَّن مُعيدًا في كلّيّة الشريعة، جامعة دمشق عام 1960. نال درجة الدكتوراه من كلّيّة القانون والشريعة بجامعة الأزهر عام 1965، في أصول الشريعة الإسلاميّة عن أطروحته “ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلاميّة” برتبة ممتاز مع التوصية بطباعتها على نفقة الجامعة وتبادلها مع الجامعات الأخرى. ترقّى أكاديميًّا حتّى أصبح عميدًا لكلّيّة الشريعة في جامعة دمشق عام 1977، ثمّ رئيسًا لقسم العقيدة والأديان، وبقي محاضرًا متعاقدًا بعد تقاعده عام 1993 وإلى حين وفاته[1].

هو صوفيّ النزعة، لكنّه رفض كوالده شطحات المتصوّفة، متحفّظ عن السياسة وأهلها بنصيحة من والده لكنّه بعد وفاة الملّا رمضان انخرط في الشأن العامّ عبر تصدّيه للإسلاميّين المعارضين وتبريره لشرعيّة الحاكم. وعُرف قبل ذاك وبعده، بجدالاته الطويلة مع التيّار السلفيّ، لا سيّما أبرز رموزه في سوريا الشيخ المحدِّث ناصر الدِّين الألباني (1914-1999)، وبردوده الحادّة على آراء حزب التحرير ومؤسّسه القاضي تقيّ الدين النبهاني (1914-1977). وجاء كتابه الجهاد في الإسلام كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ عام 1993 ليضمّ زبدة آرائه المناهِضة للتيّارات الإسلاميّة عامّةً والجهاديّة منها خاصّةً، بينما يغلب الطابع الدعويّ على مؤلّفاته الكثيرة، ويظهر ميله إلى علوم الآلة والمنطق خاصّةً – وقد تلقّاها عن والده مُلّا رمضان – في جدالاته المتنوّعة مع الإسلاميّين والعلمانيّين، وتُعتبر أطروحته الأصوليّة ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلاميّة من أجود ما كتبه.

لقد اشتُهر البوطي لسنوات طويلة بمعاركه الكلاميّة مع الإسلاميّين والعلمانيّين على حدّ سواء، فانتقدهم بشدّة وردّوا عليه بالقسوة ذاتها[2]، ورغم أنّه منسوب إلى التقليد الفقهيّ المحافظ إلّا أنّه خرج بآراء مغايرة لمذهبه الشافعيّ في حالات معيّنة لا سيّما في أبواب الجهاد، محاولًا الترجيح بين آراء المذاهب السنّيّة المختلفة، مجتهدًا في تطبيق الأصول على الفروع، فأخطأ وأصاب كما هو حال كلّ مجتهد.

أمّا موقعه من النظام الحاكم وموقفه منه فكان ما جلب عليه الانتقادات من مريديه وخصومه على السواء، فهو صار مقرّبًا من الرئيس الراحل حافظ الأسد لا سيّما في العشريّة الأخيرة من حياته، واستمرّ ذلك بتفاوت مع نجله الرئيس بشّار الأسد. ومع انطلاق الحراك الشعبيّ من درعا في آذار 2011، لينتشر في كلّ أنحاء سوريا، تشبّث بمواقفه ذاتها من المعارضة السياسيّة عامّةً ومن الجماعات الإسلاميّة خاصّةً، مع تنزيل الأحكام الفقهيّة على الحوادث طِبقًا لقراءته النمطيّة للواقع السياسيّ، والتي هي متطابقة مع ما يراه النظام، خلافًا لعلماء آخرين آثروا الصمت أو الانخراط في سلك المعارضة، إلى أن قضى اغتيالًا في مسجد الإيمان في دمشق في 21 آذار 2013.

اخترتُ كتابه الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟ ليكون المصدر الرئيسيّ لهذا البحث، مع الاستفادة من كتابات أخرى للبوطي ومن خُطبه التي تؤرّخ مواقفه الأخيرة من الحراك الشعبيّ في سوريا، وذلك لما يحويه الكتاب المذكور وسواه من استنتاجات ومقايسات ومصطلحات مثيرة للجدل، وهي بمجملها قمينة بتظهير العقل السياسيّ للبوطي، إن صحّ التعبير، وهي كفيلة استطرادًا بفهم مواقف البوطي بشكل أفضل، عبر استدعاء اجتهاداته الفكريّة، حتّى وإن كان يؤكّد بأنّ ما في الكتاب موضوع البحث ليس اجتهادًا شخصيًّا، وأنّه كان متبِّعًا في المسائل المثارة لا مبتعدًا عن جمهور الفقهاء، على حدّ قوله، وهو ما سنحاول البرهنة على خلافه في هذه المقاربة المشفوعة بمقارنات لا غنًى عنها سواءً مع آراء سابقة له، أو مع تقريرات من سبقه من علماء بارزين تناولوا موضوع الجهاد تفصيلًا، حتّى ليبدو فعلًا أنّ البوطي متبّع حقًّا لكن في حدود معيّنة، بينما تبدو اجتهاداته غير متوافقة عمومًا مع ما يراه جمهور الفقهاء، فضلًا عن أنّ آراءه في الموضوع نفسه يعتريها التناقض والاضطراب.

ويفترض البحث أنّ البوطي، مع تمكّنه في العلوم الإسلاميّة المختلفة وتخصّصه في أصول الفقه تحديدًا، والتزامه بالمنهج الفقهيّ التقليديّ، إلّا أنّه، وفي أبواب الجهاد خاصّةً، خالف جمهور الفقهاء من حيث يؤكّد أنّه لا يخرج عن آرائهم، متابِعًا الدكتور وهبة الزحيلي فيما ذهب إليه في أطروحته آثار الحرب في الفقه الإسلاميّ، دراسة مقارنة[3] دون أن يذكره في كتابه الإشكاليّ الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟، فجاءت آراؤه متناقضةً مع ما ذكره قبلًا في كتابه فقه السيرة[4]، وجاريةً في الاتّجاه نفسه الذي ذهب إليه الزحيلي تأييدًا لفكرة أنّ الجهاد لا يكون إلا ردًّا على عدوان قائم على دار الإسلام، وبأبعد ممّا ذهب إليه الزحيلي نفسه، بحيث اقترب أكثر من تقييد الجهاد بشروط الواقع السياسيّ الراهن وظروفه. ولم يكتفِ بذلك، بل انطلق ممّا سبق ليتعامل مع الحاكم المستبدّ المعاصر وكأنّه الحاكم المسلم العادل المستوفي لشرائط البيعة والمستحقّ الطاعة من الرعيّة، فيصبح الجهاد القتاليّ بعهدة هذا الحاكم، ويصبح الخارجون عليه محاربين عملاء وليسوا بغاة متأوّلين.

أمّا المنهج الذي اتّبعناه في هذا البحث، فهو تفكيك النصّ وكشف مفارقاته الداخليّة من جهة، وعقد المقارنة فيما بين آراء البوطي والزحيلي من جهة أخرى في المسائل المطروحة، مع العودة إلى آراء المذاهب الأربعة في كتبها المعتمَدة.

وينقسم البحث إلى أربعة مطالب نتناول فيها مفهوم الجهاد لدى البوطي ومشروعيّته وعلّته ومدى انطباق مفهوم الجهاد شرعًا على أفعال الجماعات الإسلاميّة المعاصرة، وموقفه من الحكم والمعارضة، وذلك حسب ما فهمه البوطي من نصوص فقهاء المذاهب الأربعة، مرجّحًا بينها، ومجتهدًا فيها، مع التدقيق في معاني تلك النصوص ومقاصد أصحابها بحسب سياقات اللفظ والمعنى، حيث نميّز فيها بين آراء البوطي خاصّةً وبينها وآراء الزحيلي، ومدى انطباقهما أو انطباق رأي البوطي تحديدًا مع ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.

 

[1]  انظر، نبذة عن حياة العلّامة الإمام الشهيد محمّد سعيد رمضان البوطي، موقع نسيم الشام،

www.naseemalsham.com

[2] انظر، كتاب الشيخ ناصر الدِّين الألباني، دفاع عن الحديث النبويّ والسيرة في الردّ على جهالات الدكتور البوطي في كتابه فقه السيرة (دمشق: مؤسّسة ومكتبة الخافقين 1397 هجريّ/ 1977 ميلاديّ)، وكتاب الدكتور عبد الرزاق عيد، سدنة هياكل الوهم نقد العقل الفقهيّ (البوطي نموذجًا) (بيروت: دار الطليعة، الطبعة 1، 2003).

[3] توجد قرائن عدّة على تأثّر البوطي بالزحيلي في كتابه الصادر لأوّل مرّة عام 1963 ميلاديّ وفي مواضع مختلفة، حتّى إنّه يوافقه في مسائل رجّحها الزحيلي بعد استعراض مختلف الآراء والأدلّة، ومن أبرزها الانطلاق من كون الحرابة علّة شرعيّة لجهاد الكفّار مع جعلها مرادفة للعدوان لإثبات أنّ لا مبادأة بالجهاد لنشر الإسلام رغم اتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة على خلاف ذلك، حيث إنّ الحرابة كوصف أعمّ من العدوان المادّيّ، كما سيأتي تفصيله في موضعه. ثمّ إنّ البوطي، وفقًا لرأيه الأوّل في فقه السيرة، ينتقد كلّ مَن يقول بدفاعيّة الجهاد لا هجوميّته، ومنهم الزحيلي ضمنًا، ثم يعود ليتقارب مع الزحيلي في كتابه الجهاد في الإسلام دون أن يتطابق معه، وهو ما سنشير إليه تباعًا. 

[4] صدرت الطبعة الأولى من كتابه فقه السيرة عام 1972، فيما صدر كتابه الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه عام 1993، والطبعة التي بين يديّ البحث من فقه السيرة هي الطبعة العاشرة وصدرت عام 1991، بحيث يظهر رأيان متناقضان في الكتابين المذكورين في مسألة الجهاد، وأحدهما ينسخ الآخر، لكنّ البوطي لا يصرّح بتراجعه عن الرأي الأوّل، ولا إمكانيّة للجمع بين الرأيين إلا بتعسّف.



تعليق واحد

أكتب تعليقًا

أكتب تعليقًا

<