الوهم الجائح (في خطبة الحوراء عليها السلام)

الوهم الجائح (في خطبة الحوراء عليها السلام)

لا نريد أن يفهموننا، ولا نريد أن نفهمهم..

والمسألة هنا، تكمن في إرادة الفهم، وإرادة الفهم ليست بالأمر الهيّن الذي يمكن للإنسان أن ينعم بالرخاء عند مواجهته، لأنها نتاج تكوين ثقافي يعيشه الإنسان وينشأ عليه، ويتنفس من داخله، ولا يعود يميّز الأمور حقها من باطلها إلا من خلاله. وقد يقع في الوهم من حيث لا يحتسب، فما هو هذا الإطار الذي يحبس إرادة الفهم لدينا في اتجاه محدّد، ويعمي القلوب والصدور عن رؤية الأشياء كما هي؟ وهل هو إلا التطبّع الذي يخضع له الإنسان عند نشأته وما إن يمسك بخيوطه الأولى حتى يتدحرج خلفه في مسار تسلسلي درامي يؤدي به الى الحضيض، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا؟ وكيف يمكن الإمساك بمسلسل التبريرات الخادعة التي يوطن الإنسان نفسه عليها شيئًا فشيئًا حتى تهلكه وترديه في نهاية المطاف؟ وأي شقاء يعيشه الإنسان وهو في ظل من الشعور بالتمكّن والتحكّم والسيطرة والإمساك بمفاتيح الأمور عندما يكون بعيدًا عن الله والشعور بخشيته؟

وهل هو إلا الحال التي نجد عليها حكّام هذا الزمان الأشقياء والذين اتخذوا من يزيد اللعين نموذجًا ومثالًا يُحتذى؟

ففي لحظة ما، يسود الشعور لدى أراذل البشر أنهم ومن خلال أفعالهم الشنيعة قد أمسكوا بأسباب الأحداث، واستقامت لهم الدنيا من خلال التطبيع والتودّد إلى أمثالهم من أراذل البشر، والتحريض على أنبلهم، وإصدار الأحكام الجائرة بحقهم، ويحسبون بذلك أنهم قد بلغوا منتهى الأمر، واستقامت لهم الدنيا ولم يعد باستطاعة أحد أن ينال منهم نيلًا.. شيئًا واحدًا فقط أفلت من شبكة حساباتهم – إن وجد أصلًا – وهو احتساب القدرة الإلهية، وهل بعد ذلك الوهم وخداع النفس من خداع!.

هذه اللحظة الحرجة بحسب ظاهرهم، لا يمكن لهم فهمها من زاوية أخرى، الزاوية التي تتعلّق بأنبل البشر، ما سر هذا الهدوء الذي نلمحه في محيّا سماحة السيد حسن نصر الله في هذه اللحظة التي يحسبونها حرجة؟

كأنهم لم يتصفحوا كلمة الحوراء زينب وهي تخاطب فرعون عصرها بقولها: أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده! فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا!

إنه لظنٌ خادع وسرابٌ قاتل أن يحسبوا أنهم أخذوا بأقطار الأرض وآفاق السماء، ويحسبون أن الدنيا مستوسقة لهم والأمور متسقة.. يا لشقاء الإنسان وهو يخوض تجربته الوحيدة على الأرض بعيدًا عن الله. 

وفي الواقع يشار هنا إلى نمط مختلف من الحياة التي ينشأ عليها أنبل البشر، وهو النمط الذي يستحضر الله في كل تفاصيل الحياة، لأن الله حاضر فعلًا، وأعدى أعداء الحقيقة الغفلة التي تنتاب أولئك الأشقياء، ومنشأ هذا الخداع يظهر بوضوح في آيات من القرآن الكريم التي ساقتها الحوراء عليها السلام في تقريعها ليزيد:

أنَسِيتَ قول الله تعالى: ﴿ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين﴾؟!

هذا الحسبان هو من ذلك الخداع القاتل الذي يهلك أتباعه، وفي المقابل يطبع هدوءًا عميقًا لدى أتباع الحق.

﴿ولا تَحسَبنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون﴾.

وتكمن خطورة هذا الخداع في أنه يورد صاحبه المهالك من خلال حمله على ارتكاب العجب من الفظائع، فالحق بيّن، والباطل بيّن، ولا تجدي مع ذلك التبريرات المخدرة: ألا فالعَجَب كلّ العجب.. لقتلِ حزبِ الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء!

في لحظة ما، لا بدّ أن ننطق بالحق ونكشف للآخر ما هو عليه من مسار وهمي خادع، ما أكثر العبر وأقل الاعتبار، ومع ذلك لا بدّ من إقامة الحجة عسى أن تتنبّه الفطرة المطمورة تحت طبقات النسيان ولو للحظة ما: ﴿ثُمّ كانَ عاقبةَ الذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بآياتِ اللهِ وكانُوا بها يَستهزِئُون﴾.

وحين ينجلي الحق، وتنقطع الذرائع الواهية، لا بدّ أن يتحمّل كل فرد مسؤوليته أمام الله تعالى: يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين!

قال اللعين بعد أن استمع الخطبة: يا صيحةً.. تُحمَدُ مِن صَوائحِ ما أهونَ الموتَ علَى النوائحِ!

فهل يعي لُعَنَاء العصر ما هم عليه من شقاء وسوء عاقبة بسبب أفعالهم فيرتدعوا!


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الإرادةالإنسان

المقالات المرتبطة

سيّدة الكساء

فالمناسبة إذن، هي فرحة بولادة السيدة الزهراء (ع)، وفرحة بأن يقول الله تعالى بأنّه اختصّهم كأهل البيت، وأبلغنا بأنّهم الأسوة التي يمكن أن نقتدي بها لنصل إلى مدارج الكمال التي من حقّنا الوصول إليها، فهي إذن، محفّز للعلوّ والارتقاء.

قراءة في كتاب  “معرفى ونقد منابع عاشورا”

بَحثُ هذا الكتاب يدور حول مصادر واقعة الطف، حيث إن الكاتب “سيد عبد الله حسيني” قام بعملية مقارنة بين النصوص وقيّمها

التاريخ المنسي في أعماق الإنسان

إذا استطاعَ الإنسانُ اكتشافَ إنسانيته في الوجود والمجتمع واللغة، فَسَوْفَ يُسيطر على المشاعر الداخلية التي تتأجَّج في أعماقه، ويتحكَّم بالعناصر الخارجية التي تُحيط به وتضغط عليه.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<