النظرة الكونية والنموذج المعرفي
بعد أن رأينا أهمية النظرة الكونية في الحلقة الماضية ودورها في تفسير الظواهر الاجتماعية، نتطرّق اليوم إلى النموذج المعرفيّ ونأخذ “توماس كون” كمثال في كتابه “بنية الثورات العلمية“، حيث اعتبره: “مجموعة متآلفة منسـجمة من المعتـقدات والقيم والنظريات والقوانين والأدوات والتكتيكات والتطبيقات، يشـترك فيها أعضاء مجتمع علمي معين. وتمثل تقليدًا بحثيًّا كبيرًا، أو طريقة في التفكير والممارسة، ومرشدًا أو دليلًا يقود البـاحثين في حقل معرفي ما”[1]. هذا الكلام يشير بشكل واضح إلى وجود نماذج معرفية خاصة في كلّ علم من العلوم، لا بدّ من العودة إليها والاستفادة منها، وهو لا يشكّل عنصرًا بحثيًّا، إنّما يكتفي بالدور الإرشادي. وهذا النموذج ينظر إلى العلوم، ويحاول أن يفسّر مساراتها وتأثيراتها، التي قد تكون ضيقة في حدود حقول معرفية معينة، وقد تكون واسعة مثل التحوّلات التي جرت من فيزياء أرسطو إلى فيزياء نيوتن، ثم أينشتاين بعد ذلك، أو التحول من نظام مركزية الأرض لبطليموس إلى فلك كوبرنيكوس.
وهذا يشي بأنّ النموذج المعرفيّ نمط من التفكير، يسود في عصر معين، ويمتلك قوة تفسيرية، إذا استنفذ الفرضيات التي يشتغل عليها، انتهى، وحلّ مكانه نموذج آخر قادر على التفسير والتأثير، كما يشير هذا التفسير للنموذج إلى وجود مفهوم النفعية المرتبط بالنتائج التي يحققها، وهو ما يؤدّي إلى القطيعة مع مفهوم اليقين، بالتالي، يصبح التحوّل المعرفي أصلًا بانيًا لرؤية الإنسان للعالم. وهنا تكون نقطة الافتراق بين النظرة الكونية والنموذج المعرفيّ.
فالحدود التي رسمها “كون” للنموذج المعرفي لا تتعدّى الكلام عن منهجيات في فهم الصناعات والعلوم مهما كانت قدرتها التفسيرية، بالتالي فهي لا تستطيع أن تفسّر ما هو إنسانيّ شامل، لأنّها تنظر إلى الإنسان بشكل جزئي، وبشكل مرتبط بالتحولات التي تحصل في عالم المادة، فكلّ تحوّل في البنية المعرفية، سيجد انعكاسه على مستوى فهم الوجود الإنسانيّ فالنموذج: “صورة عقلية مجردة ونمط تصوري للحقيقة، وهو نتيجة تجريد وتركيب، إذ يقوم العقل بجمع بعض السمات من الواقع فيستبعد بعضها ويبقي بعضها الآخر، ثم يقوم بترتيبها بحسب أهميتها ويركبها”[2]. بينما الرؤية الكونية تنظر إلى الموضوع انطلاقًا من أنّ كلّ تصور هو نتيجة رؤية ما وجودية للعالم، تأخذ بعين الاعتبار هدفية الوجود الإنسانيّ.
وما ورد يؤشر إلى افتراق جذري، يترتب عليه نتائج خطيرة، ترتبط بالإنسان والمعرفة، ويذهب الشيخ مرتضى مطهري للقول: “إن أيَّ أسلوب وأية فلسفة في الحياة لا بدّ أن يكونا مبنيين – شئنا ذلك أم أبينا – على لون خاص من الاعتقاد والنظر والتقييم للوجود، وعلى لون معين من التفسير والتحليل. ويوجد لكلّ مبدأ انطباع محدّد وطراز للتفكير معين في الكون والوجود، ويعتبر هذا أساسًا وخلفية فكرية لذلك المبدأ. ويصطلح عادة على هذا الأساس وتلك الخلفية باسم الرؤية الكونية. ويعتمد كل واحد من الأديان والشرائع والمباديء والفلسفات الاجتماعية على رؤية كونية معينة. إن كلّ الأهداف التي يعلنها مبدأ ما ويدعو الناس إلى الحرص عليها، وكلّ الأساليب التي يعينها، وكلّ الواجبات والمحرمات التي ينشئها، وكلّ المسؤوليات التي يوجدها، ليست إلّا نتائج لازمة وضرورية للرؤية الكونية التي تشكّل القاعدة الأساسية له”[3].
وإن كان الطرفان يتفقان على البعد التصوري للرؤية الكونية والنموذج المعرفيّ، إلا أنّهما يختلفان بالغايات، وهو ما سينعكس على النتائج، فما تكلم عنه “كون” لا يتعدّى كونه فهمًا للحقل، والنموذج المعرفيّ أكثر عمقًا، لأنّه يطال المباني التي تتحكّم بالحقل، وهذا ما يفترض إعادة تكوين فهم جديد للنموذج، يأخذ بعين الاعتبار الرؤية الكلية المتمثّلة بالحقل المعرفيّ، فالنموذج يتحدّث عن الطارىء التي وصلت إليه الصناعات والتي لا بدّ من أن يُعاد تثميرها في التفسير، لكن ليست كأصل شارح، إنّما كأدوات منهجية تساهم في تجديد الفهم.
[1] Thomas Kuhn, THE STRUCTRE OF SCIENTIFIC REVOLUTIONE, Editionmm.Chicqgo 1970, p174-210:Editionmm.Chicqgo
[2] عبد الوهاب المسيري، إشكالية التحيز/ رؤية معرفية ودعوة للإجتهاد، (فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996)، الجزء 1، الصفحة 16.
[3] مرتضى مطهري، الرؤية الكونية التوحيدية، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، (طهران: معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي، 1989)، الصفحة 8.
المقالات المرتبطة
مفهوم الحياد السياسيّ
يفيد مصطلح الحَياد، لغويًّا، دلالة الميل والانحراف وترك الجادة الصحيحة والفرار وحماية النفس من الرماة، لأنّ الكلمة في أصل الوضع اسم فعل أمر قياسيّ
فلاسفةٌ مَنْسِيون الشيخ عبد الكريم الزنجاني
عُرف عن الأمم شدة تعلقها برجالاتها وأفذاذها، وقد تبالغ أحيانًا في تكريمهم إلى درجة تفوق المستوى الطبيعي للتكريم والمستوى الواقعي لهم!
الحقيقة وطرائق المعرفة في التراث الفلسفي
يدور البحث حول الخطوط العامة لطرائق المعرفة – في نطاق الفلسفة الإسلاميّة وما سبقها – وبيان مدى إسهامها في الكشف