بين الغدير وكربلاء….وغاية الرضا
وقفَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله آخذًا بيد علي عليه السلام يوم الغدير، ذاك اليوم الشديد الحر والذي بلغ من الخطر ما بلغ من إرجاع الحجيج الذين تجاوزوا حد غدير خم، ومن إشهاد الناس أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، في جو من الحزن بأنه قد نودي برحيل الإنسان الأكمل صلى الله عليه وآله.
في هذه اللحظات بالذات، ينبئ الله تعالى المسلمين طرًا على لسان خير الخلق صلى الله عليه وآله أنه قد رضي لهم الإسلام دينًا.
ولقد اقترن الرضا الإلهي هذا برفع يد المرتضى عليه السلام، وإعلانه الولي الأكمل والنموذج المرضي عنه عند الله تعالى للإنسان الكامل الإسلامي. رضي الله تعالى بالإسلام دينًا وطريقًا للناس، وقدّم رسولُ الله صلى الله عليه وآله حجةً لهذا الرضا، فكان المرتضى.
في مشهد آخر، في كربلاء، في خضم الصخب الذي يعج به معسكر الحسين عليه السلام، وفي بلوغ المصائب حناجر الدهر يرمق الحسين عليه السلام السماء بنظرة قائلًا: “أرضيت يا رب؟ خذ حتى ترضى”.
فما علاقة ﴿رضيت لكم الإسلام دينًا﴾ بعلي (المرتضى) عليه السلام؟ وما علاقة كربلاء برضا الله تعالى؟
-
الرضا.
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[1].
في هذه الآية المحورية حيث تبيّن السلوك إلى الله تعالى هناك إشاراتٌ مفتاحية لفهم محورية الرضا في سلوك الإنسان وفي النظام الرباني، وهذه الآية مشتملة على عدة مفاهيم لا بدّ من كشف النقاب عما تحكي عنه قرآنيًا:
-
النفس المطمئنة.
-
الرجوع إلى الله.
-
الرضا.
-
الارتضاء.
أما النفس المطمئنة فهي تلك النفس التي وصلت إلى مستوى التحقّق بالصفات والأخلاق الإلهية بنحو الاستظلال – لا الاستقلال؛ أي أن حقيقة سلوك النفس الإنسانية يكون من خلال التفاعل الإيجابي مع صفات الله تعالى التي تظهر له في أحوال وأهوال يومياته من الرزق والرحمة واللطف والبلاء والشدة والرخاء وغيرها، فيسعى الإنسان للتعامل مع كل هذه الأحوال من منطلق تحكيم أسماء الله تعالى في حياته، فيتصل بالغفار عند ذنبه، وبالقدير عند ضعفه وهوانه، وبالستّار عند فضيحته وانكشاف سوء سريرته، وبالعليم عند سعيه العلمي لرفع جهله، وهكذا تتخلق هذه النفس بأخلاق الله تعالى كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “تخلقوا بأخلاق الله“.
فاتصال الإنسان بنبع الغفارية يجعله متحقّقًا بكمال الغفارية، واتصاله بنبع الرحمة يجعله من مظاهر الرحمة وهكذا؛ لأن هذا الاتصال ليس اتصالًا عارضًا بين شيئين منفصلين ذاتًا، بل هو اتصال بين ذات محاطة بذات في وجودها وكمالها، بين فقير وغني، والاتصال بين الفقير بذاته والغني بذاته لا يعني سوى ظهور غنى الغني في ذات الفقير دون أن يمس غناه، لأن الفقر في حقيقته عري من كل كمال، وهل يضر الناقص في ذاته من كله كمال!؟
وهذا الاتصال من الفقير الذي يورث تحقّقًا بصفات الغني هو ما عبّر عنه القرآن الكريم بتبادل الذكر من طرف العبد والرب ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[2]، فذكرُنا لربنا يستنزل بنفسه دون تراخ ذكرَ الله تعالى لنا، وإن دقّقنا في معنى كون الله تعالى يذكرنا لوجدنا أن الذكر المتعقّل في جنبه تعالى هو ذكره لنا ولذاتنا في حقيقة الوجود وكماله، بمعنى إعطائنا القيمة الواقعية، فلولاه نحن عدم في عدم، وإن أخرجنا يدنا لم نكد نراها لاستغراقنا في كتم العدم.
وعليه، ذكرنا لله تعالى في أحوالنا وأهوالنا- بمعنى استحضار صفاته وأسمائه إلى مسرح أيامنا بما يتلاءم مع كل ظهور وحال- يورث ذكره لنا؛ أي إعطاءنا مظاهر أسمائه التي تظهر في ذواتنا ووجودنا. وأما من أعرض عن ذكر الله تعالى فإنه سيعيش اضطراب السر والنفس ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾[3]، هذا الضنك الناشئ من خلو النفس من الاتصال بنبع وحقيقة الكمال. فالنفس التي تعيش الضنك هي مقابل النفس المطمئنة التي تحققت بالصفات الإلهية ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[4].
أما الرجوع إلى الرب تعالى، فهو عود إلى المبدأ، وهذا يفهم بالتأمل اللطيف بمعنى لفظ “الرجوع”، ألا ترى نفسك إذا غادرت وطنك إلى غربتك ثم تنتهي إجازتك في دار الغربة تقول – ويصح أن تقول – إني راجع إلى وطني، ولا يصح منك ذلك إذا كنت متوجّهًا إلى دار الغربة؟
فالغربة لا تجتمع مع الرجوع النهائي، فكل رجوع يستبطن في داخله حنينًا وانتماءً إلى أصل، فقوله تعالى: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ﴾[5] تدل كم كان قوم إبراهيم على نبينا وآله وعليه السلام يعيشون غربة عن فطرتهم وحقيقتهم الإنسانية، والرجوع إلى الله تعالى يدل كذلك على الفطرة الإلهية الكامنة في النفس التي تحن إلى أصلها: الجمال المطلق والكمال المطلق وكل المظاهر التامّة الغنى.
ووصف النفس الراجعة إلى الرب الحقيقي بأنها مطمئنة مشعر بأن الطمأنينة لها مدخلية في إدراك حقيقة الرجوع، فالنفس السالكة سبيل التحقّق بالصفات والأخلاق الربانية وتكون مطمئنة هي التي تدرك الرجوع إلى الأصل، أما الظالمون الذين توجهت نفوسهم للدنيا فكانوا في واقعهم ﴿قَوْماً بُوراً﴾[6] خالين من تجلّي الله تعالى في صحراء ذواتهم، فإن الملائكة يخرجونهم من تعلقاتهم بالقوة والأمر ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾[7].
أما الرضا فتارة يكون من العبد للرب تعالى، فيكون العبد راضيًا بالله تعالى (أو عنه تعالى)، وتارة أخرى من الرب للعبد، فعندها يكون الله تعالى راضيًا عن العبد، وقوله تعالى: ﴿رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[8] إشارة إلى هذين المقامين.
ثم إن ترتيب الرضا قبل الارتضاء في الآية الكريمة مشعر بأنه كذلك في السير والتكوين، حيث يكون حصول رضا العبد عن الله تعالى (أو بالله تعالى) قبل حصول رضا الله تعالى عن العبد.
وعليه، فإن الرضا الكامل يمر بمرحلتين:
المرحلة الأولى: رضا العبد السالك بالله تعالى (راضية).
والمرحلة الثانية: هي رضا الله تعالى (مرضية).
أما رضا العبد يكون بموافقة ما في نفسه من ميول وأخلاق لما عند الله تعالى من أسماء ومظاهر، فيعيش الوفاق مع ربه فيرضى بما يرده من جنبه سواء من جانب التكوين أو التشريع، فيرضى بشريعة الله تعالى بأن يشعر بأنها البلسم الموافق لميوله الروحية والفطرية، فيعطي لعبادة ربه وأوامره ونواهيه من نفسه ما يكون عن فرح وبهجة، فلا يعبد الله تعالى عن ثقة به مع شعور بالثقل في داخله، بل يجري في الشريعة جري الراضي بكل حركة وسكنة يقوم بها، وكذلك في التكوين يرى العبد أن ما يجري عليه من نعم وبلايا، من رزق وتقدير، هو تربية من رب العالمين، فيسلك في التكوين كما سلك في التشريع، سلوك الراضي عن ربه تعالى، فتجده في الزلازل وقور، وفي الفقر والغنى سواء، يرضى بربه لما في أحوال التكوين الذي يجري عليه من ظهور لله تعالى، فيكون ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾[9] عن الله تعالى، وهذه العيشة الراضية عن الله تعالى تستبطن سخطًا على كل كفر بالله تعالى، ويظهر هذا السخط بالقتال والجهاد في سبيله تعالى وغيرها من مظاهر البراءة.
ثم إن هذا الرضا يكون في العمق ذكر لله تعالى، على ما تقدّم، فيكون الذكر الحقيقي لله تعالى هو التفاعل الإيجابي مع الواردات الإلهية التي ترد على الإنسان، هذه الواردات التي يراها السالك تجلّيات لأسماء الله تعالى، فيذكر الله تعالى فيها أي يتعامل معها تعامل الموقن الراضي بحضور الله تعالى، ولذلك كان الرضا بالله تعالى حال للنفس المطمئنة، فالذكر إذًا طريق الاطمئنان، والرضا هو حالة من حالات هذه النفس لا تنفك عنها.
وكما أن الإعراض عن الذكر يورث عيشة الضنك والبؤس، كذلك فإن العيشة الراضية تأتي من تحقّق العبد بالأخلاق الإلهية والصفات الربانية الذي هو – أي التحقق – حقيقة الذكر كما مر، ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾. وفي الآية ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[10] كان الرضا – سواء من طرف العبد (راضية)، أم من طرف الرب تعالى (مرضية) – حالة للنفس المطمئنة الراجعة إلى ربها، فهذا الرجوع الاطمئناني لا يكون إلا بجناح الرضا.
وحيث إن الذكر من طرف العبد يستنزل ذكرًا من طرف الرب؛ بمعنى تحقّق الصفات في نفسه بعد طلبها من خلال إعلان الفقر الذاتي في ساحة الله تعالى ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[11]، كذلك الرضا بالله تعالى يستنزل رضا بالعبد من طرف الرب، فالرضا بالله تعالى هو إعلان آخر عن السرور بالفقر بين يدي الله تعالى (الفقر فخري)، سرور بالفقر بحده الأعلى أي بالحد الذي لا شبهة استغناء عنه الله تعالى فيه، لأن هذا الفقر حق وكل حق تميل له الفطرة، فإعلان الفقر هو إعلان للحق والحق محبوبٌ مسرورٌ به، فيعيش السالك حالة الرضا بفقره بين يدي الله تعالى.
وهذا الإعلان ثقيل في الميزان، لأن ﴿الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾[12]، فلا وزن عند الله تعالى إلا للحق ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾[13] بالحق حيث لا وزن للباطل ﴿فهو في عيشة راضية﴾، هذا الرضا بالله تعالى بعينه رضا بفقر النفس إليه، ثم إن الله تعالى يرضى عن هذا العبد لما رضي العبد به عن ربه.
وحقيقة رضا الله تعالى ليست من أحوال الميول النفسية، إذ حاشا لمن كله وجود وكله كمال أن تجري عليه الحالات النفسية التي هي تبدّل وتغيّر، وهو الذي لا تغيره الدهور، فمعنى رضا الله عن العبد، ارتضاؤه وظهوره مظهرًا من مظاهر أسمائه وصفاته تعالى، وهذا الظهور يكون بحدّه الأعلى، إذ لو تعقّل حد أعلى منه لما كان مرضيًّا عنه على إطلاقه، فيكون العبد عندها مرضيًّا عنه في ساحة قدسه؛ أي لائقًا بأن يكون الداعي إلى معرفة الله تعالى. وهكذا يصبح الرضا بالله تعالى ارتضاء بالعبد من طرف الرب سبحانه، ولا يتوهمن أن الارتضاء يفك الرضا السابق- أي الشعور بالفقر الذاتي المستلزم للرضا بالله وحده يبقى في ذات النفس مع ارتضاء الله للعبد- بل رضا الله ورضا العبد غير منفكين عن بعضهما أبدًا، وقوله تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾[14] تعبير عن هذا الانسجام التام بين رضا الله ورضا العبد، فشريعة الله تعالى – والتوجّه للقبلة حال الصلاة منها – المرضية عند الله تعالى – لأنها مظهر إرادته- صارت من رضا رسول الله صلى الله عليه وآله.
-
2. الغدير والرضا
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾[15]
في الغدير رضي الله تعالى بالإسلام دينًا، أي رضي بالطريق الإسلامي موصلًا إلى رضوانه، والرضوان شدة الرضا كما أن الحيوان شدة الحياة ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾[16]، فصار اتباع الإسلام هو اتباع لرضوان الله تعالى، هذا الاتباع الموصل إلى السلام التام من كل شوب ونقص، وهو سلام ظهور الله تعالى في الآخرة ﴿قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾[17].
وكما تقدّم إن رضا الله تعالى ليس من قبيل الحالات النفسية بل هو رضا تكويني، هو ظهور الأسماء والصفات الإلهية بحدّه الأعلى الذي يرضى الله به، فكان الإسلام مرضيًّا عنه لأن الله تعالى تجلى به لعباده بكل شؤونه، وكان المرتضى علي عليه السلام مظهرًا عينيًّا للإسلام ولكمال ظهور الله تعالى.
ببيان آخر: خلق الله تعالى الإنسان ليكون خليفته في الأرض، وحيث إن معنى الخلافة تقتضي قرب المستخلَف من صفات المستخلِف، كان الإنسان ذا قابلية لأن يتشكّل بالهيئة الإلهية، وأن ينصبغ بالصبغة الربانية، فتنعكس صفات الله تعالى في وجود هذا الكائن، فيصير خليفته تعالى. والخليفة المرضي عند الله تعالى هو ذاك الذي بلغ الحد الأقصى من استحضار الصفات الإلهية في حياته ووجوده، هذا الاستحضار الذي يكون تحقّقًا بالصفات، فتكون هذه النفس مطمئنة “راضية مرضية”.
علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه هو “المرتضى” الذي بلغ هذا الحد، المرضي عند الله تعالى الذي إذا نظر إليه صاحب القلب رأى التجلّيات الإلهية قد ظهرت في تمام وجوده، في قيامه وقعوده، وحركاته وسكناته، وركوعه وسجوده، وصدقته وزكاته، وجهاده وصمته، فكان بحق “رضا الله رضاه”، وبهذا ارتضى الله تعالى الإسلام لأنه باطن علي عليه السلام وحقيقته، إن عليًّا عليه السلام هو المرتضى، فصار الإسلام الذي سار في دربه علي عليه السلام هو الدين المرضي ﴿ورضيت لكم الإسلام دينا﴾.
-
3. كربلاء والرضا.
الإمام الحسين عليه السلام في ذروة مصابه قد ناجى الله تعالى: “أرضيت يا رب؟ خذ حتى ترضى”، هذه الكلمة القصيرة في ميزان البيان، والأحرف ثقيلة في ميزان العرفان، والقرب من الله تعالى قد أضحت دستورًا للعاشقين العارفين.
الحسين سلام الله عليه قد ناجى ربه بأن يرضى، فكلمته عليه السلام تصب في المرحلة الثانية – أي رضا الله تعالى – لا المرحلة الأولى – أي رضا العبد – وهذا حال النفس المطمئنة، لأن المرحلة الثانية مترتبة على المرحلة الأولى كما تقدم. وعليه، فالحسين عليه السلام في ظرف القتل والشهادة وفقد العزيز من الأخ والولد قد راعى حضور الله تعالى في ساحة الطف، ولم ينظر إلى نفسه هو سلام الله عليه أنه هل يرضى عن الله تعالى فيما فعله به من تشريد وقتل وطعن بالرماح والأسنّة؟!، بل نظر إلى الله تعالى ولم يلحظ غيره، نظر إلى رضا الله تعالى فقط “أرضيت يا رب؟” هذا السؤال هو حال النفس المطمئنة التي أدركت الفقر الذاتي وابتهجت به في محضر الله تعالى، ثم انتقلت لتلاحظ وجه الله تعالى وتراعي رضاه في الشجون والشؤون الدنيوية المختلفة، ارضَ يا رب.
في خضم الدموع والدماء: ارضَ يا رب، وخذ حتى ترضى، وما أجمل الحسين عليه السلام إذ لم يقل “أرضيت مني يا رب فيما أعطيتك؟ خذ مني يا رب مالي وولدي ونفسي” لا، لم يقل هذا، بل قال: “خذ يا رب حتى ترضى” فلم ير الحسين عليه السلام المعطي والعطاء والمعطى له، بل رأى المعطى له فقط، لم ير نفسه ولم ير ما أعطى من ولد وأخوة وأعزاء، ولم ير ما أعطى من سبي لحرائر الرسالة، بل رأى المعطى له، “خذ” أنت فقط، وهذا مثل المخلَصين، الذين لا ينظرون لا إلى أنفسهم ولا إلى العطاء، بل هم في نور التوحيد مستغرقون، كمثل يوسف المخلَص على نبينا وآله وعليه السلام الذي قال “معاذ الله“، ولم يقل “أعوذ بالله منك”، فلم ير المستعاذ منه ولا رأى نفسه – المستعيذ- كل ما رآه هو المستعاذ به، وهذا الفرق بين استعاذة يوسف الصدّيق على نبينا وآله وعليه السلام “معاذ الله“، واستعاذة مريم عليها السلام “أعوذ بالله منك“.
والحسين عليه السلام، ما الحسين؟!، ففي قوله: “خذ حتى ترضى” لم يراعِ إلا حضور الله تعالى في الرضا، فما أحلى أدبه، بل ما أحلى ما هو عليه من الكرامة عند الله تعالى، فأعطاه الله تعالى أن رضيَ الله تعالى عنه بأن صار دينه هو المرضي عنه، هي كربلاء صارت غدير الخواص، غدير المستغرقين في الرضا والتوحيد، فكان الإسلام المرضي عنه حسيني البقاء، ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾[18]، و ﴿الآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[19]، و ﴿اللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[20]، فالرضا من طرف الرب في كماله قد بُلغ في عاشوراء، فكان الغدير انطلاقة الرضا من قبل الله تعالى وعاشوراء ختم الرضا، حيث لا رضا يعلو بأن يتجلى الحسين عليه السلام في النفس السالكة إلى الله تعالى، فكان الأئمة من ولده عليهم السلام، وكان سفينة النجاة.
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[21]، هذه النفس الحسينية التي بلغت من الرضا والارتضاء ما جعل الله تعالى بها الإسلام باقيًا، الإسلام الذي رضي الله تعالى به دينًا لنا، والبقاء الذي لا يعني إلا الكون عند الله تعالى بصفاته المتجلية فينا، ﴿وما عند الله باق﴾.
وهنا يظهر أيضًا سر رسالة الحسين عليه السلام التي قال فيها: “أما بعد، فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل”، فالآخرة التي هي ﴿خير وأبقى﴾ هي باقية لأنها تمثل ما عند الله تعالى بكمال الظهور ﴿والله خير وأبقى﴾، وهذه الآخرة التي السلام ﴿دَارُ السَّلاَمِ﴾[22]، وإليها توصل السبل ﴿سُبُلَ السَّلاَمِ﴾[23]، والسلوك إلى الآخرة التي هي مظهر الحياة المحضة والتجلّي الأتم للحي الذي لا يموت سلوك بقدم الرضا، لكن لا أي رضا بل الرضا الأقصى، الذي بلغه الحسين عليه السلام في ذروة توحيده، حتى صار الرضا توحيد الحسين عليه السلام: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾[24]. هكذا إذًا، الحسين الذي ظهر بـ”خذ حتى ترضى” لا يرى إلا الآخرة “وكأن الدنيا لم تكن“.
رُوِيَ عن الإمام الصادق عليه السلام أيضًا أنَّهُ قال: “اقْرَءُوا سُورَةَ الْفَجْرِ فِي فَرَائِضِكُمْ وَنَوَافِلِكُمْ فَإِنَّهَا سُورَةُ الْحُسَيْنِ، وَارْغَبُوا فِيهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ”. فَقَالَ لَهُ أَبُو أُسَامَةَ ــ وَ كَانَ حَاضِرَ الْمَجْلِسِ ــ :كَيْفَ صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ لِلْحُسَيْنِ عليه السلام خَاصَّةً؟
فَقَالَ: “أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِ﴾ إِنَّمَا يَعْنِي الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ ذُو النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ الرَّاضِيَةِ الْمَرْضِيَّةِ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُمُ الرَّاضُونَ عَنِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ السُّورَةُ فِي الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام وَشِيعَتِهِ وَشِيعةِ آلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، فَمَنْ أَدْمَنَ قِرَاءَةَ الْفَجْرِ كَانَ مَعَ الْحُسَيْنِ عليه السلام فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”[25].
-
4. الختم الحسيني.
إن الحسين عليه السلام كان مظهر النفس المطمئنة الراضية المرضية في عاشوراء، حيث تجلّى حضور الله تعالى في نفس الحسين عليه السلام في سلوكه مع أهله وأعدائه ومحيطه، بحيث كان الله سبحانه في عمق الظلمة السائدة يظهر في سلوك وكلام الحسين عليه السلام، فكما كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله الصعودي الذي وصل به قاب قوسين أو أدنى قربًا ودنوًا من العلي الأعلى سبحانه وتعالى، فكان ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله هو هذا الذكر الصعودي؛ أي تجلي الله تعالى في مراتب الوجود العليا ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾[26]، حيث ذكر الله تعالى بتمام الذكر بعد مجاورة جبرائيل وملائكة الله تعالى المقرّبين، أما الحسين عليه السلام فقد نزل إلى مجاورة الشمر وحرملة ومع ذلك ذكر الله تعالى بذكر رسول الله صلى الله عليه وآله عندما كان ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾[27]، فقد كان سلوك الحسين عليه السلام سلوكًا إلى أدنى مراتب الوجود، حيث تتجلّى الدنيا والنفس الأمّارة بكل مظاهرها، حيث تتجرّأ الدنيا والنفس لتقتل أجمل وأطهر مظاهر الكمال والجمال، ولتذبح رضيعًا رقبته كإبريق الفضة، وليسبي نساء تربين في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، سلك الحسين عليه السلام إلى الطرف الآخر من ﴿ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾، ولكنه ذكر الله تعالى ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله، ذكر الله تعالى بالذكر الأعظم، حيث تجلّى فيه التوحيد الخالص “خذ حتى ترضى“، وهذا أحد أسرار (الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء)، فالحسين عليه السلام في نزوله إلى هذه الساحة السوداء المظلمة ختم ما يمكن للإنسان أن يصل إليه نزولًا في ذكر الله تعالى، كما ختمها رسول الله صلى الله عليه وآله صعودًا، فأنار الظلمة القصوى بنور ذكر الله تعالى كما استنزل رسول الله صلى الله عليه وآله نور الله تعالى بمعراجه، هذا كله مع العلم أن النزول والصعود يلتقيان في حقيقة واحدة “حسين مني وأنا من حسين” كالدائرة التي تكون نقطة البدء فيها هي نقطة الختم.
ففي عاشوراء إذا كان الحسين عليه السلام المرتضى الأعظم، وكانت كربلاء غدير الحسينيين الذين ذهبوا مع الحسين عليه السلام إلى حيث الدموع والدماء، وذكروا الله تعالى فارتضى الله تعالى عنهم… هذه هي رحلة الرضا بين الغدير وكربلاء.
[1] سورة الفجر، الآيتان 27 و28.
[2] سورة البقرة، الآية 152.
[3] سورة طه، الآية 124.
[4] سورة الرعد، الآية 28.
[5] سورة الأنبياء، الآية 64.
[6] سورة الفرقان، الآية 18.
[7] سورة الأنعام، الآية 93.
[8] سورة الفجر، الآية 28.
[9] سورة القارعة، الآية 7.
[10] سورة الفجر، الآية 28.
[11] سورة البقرة، الآية 152.
[12] سورة الأعراف، الآية 8.
[13] سورة الأعراف، الآية 8.
[14] سورة البقرة، الآية 144.
[15] سورة المائدة، الآية 3.
[16] سورة العنكبوت، الآية 64.
[17] سورة المائدة، الآيتان 15 و 16.
[18] سورة النحل، الآية 96.
[19] سورة الأعلى، الآية 17.
[20] سورة طه، الآية 73.
[21] سورة الفجر، الآيتان 27 و 28.
[22] سورة الأنعام، الآية 127.
[23] سورة المائدة، الآية 16.
[24] سورة المائدة، الآية 16.
[25] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ع)، (بيروت- لبنان: طبعة مؤسسة الوفاء، 1414ه)، 24/93.
[26] سورة الشرح، الآية 4.
[27] سورة النجم، الآية 9.
المقالات المرتبطة
الأسرة المسلمة في الثقافة العاشورائية
تقدم الأستاذة أميرة برغل، المختصة في شؤون الأسرة، مقاربةً للخصائص التي تتميز بها الأسرة العاشورائية، الخصائص التي تدفعها لتجاوز الكثير من المشاعر
القوة الناعمة ودور المؤسسات الثقافية
لا يعتبر مفهوم القوة الناعمة[1] من المفاهيم الحديثة المستجدة على التفكير الإنساني، فهذه القوة ما انفكت تواكب حياة الإنسان، وتشكل جزءًا كبيرًا من تاريخه
“حوار الحضارات وصدامها” للمؤلّف سيّد صادق حقيقت
المقدّمة: بين أيدينا كتاب حوار الحضارات وصدامها كتبه باللغة الفارسيّة “سيّد صادق حقيقت” عرّبه السيّد عليّ الموسوي. طبع “بدار الهادي