أفريقيا بين سراب التنمية المستحيلة وزيف الديمقراطية والحوكمة الرشيدة
منذ ما اصطلح على تسميته بالاستقلال في بداية الستينات من القرن الماضي لا زالت تعاني بلدان أفريقيا، خاصة أفريقيا جنوب الصحراء، من أزمات وتوترات متواصلة مرتبطة بقضايا الفقر وحالات المجاعة، وانتشار الأمراض المستوطنة والمزمنة، وانتشار الأمية، وفشل البرامج التعليمية والصحية، إضافة إلى الأزمات السياسية، وحالات التمرّد والانقلابات العسكرية المتواصلة، الأمر الذي يعبّر عن فشل إجمالي بمحاولات التنمية المستدامة والاستقرار رغم تمتّع القارة الأفريقية بالكثير من المقدّرات على مستوى الثروات الكامنة تحت الأرض، والثروات الطبيعية والبشرية.
المقدّرات.
إن أي عملية بحث بسيط يوضح أن أفريقيا تستخرج أكثر من 30 بالمئة من الثروات الطبيعية المستخرجة في العالم، تتضمّن أكثر من 12 بالمئة من الإنتاج العالمي للنفط، و6 ونصف بالمئة من الغاز، و33 بالمئة من الكروم، كذلك من الكوبالت، و95 بالمئة من الماس العالمي يستخرج من القارة السمراء، ومن 50 إلى65 بالمئة من الذهب، وحوالي 25 بالمئة من اليورانيوم، إضافة إلى غيرها من الثروات المعدنية؛ كالحديد والبوكسيت والزنك، وتمتلك أفريقيا الكثير من الثروات الزراعية الهائلة كالذرة والبن والكاكاو وزيت النخيل والفول السوداني، وفيها أكثر من ثلثي الأراضي غير المستغلة في العالم، والأراضي المؤهّلة للرعي وتربية القطعان الداجنة، وفيها أوسع مساحات العالم من الأراضي البكر، (وتبلغ مساحة القارة إجمالًا مع الجزر التابعة لها أكثر من 43 مليون كلم مربع)، والحيوانات البرية والثروات الكبيرة من المواشي والقطعان، إضافة إلى ساحل كبير ممتد من الغرب على المحيط الاطلسي، ومن الشرق على المحيط الهندي يصل طوله إلى 26000 ميل بحري تقع عليه 38 دولة أفريقية عليها أكثر من 52 ميناء من المياه العميقة القابلة لاستيعاب وخدمة السفن التي تعبر المحيطات، وفيه أهم المراعي السمكية في العالم، ويقدّم للقارة إمكانيات كبيرة واعدة في مجالات التنمية المختلفة. أما من الناحية الجغرافية البشرية، فإن أفريقيا تعتبر أكثر قارة نموًّا على الكرة الأرضية بعدد سكان حالي يتجاوز المليار ومئتين مليون نسمة، يعيش سبعمئة وخمسين مليون منهم في أفريقيا جنوب الصحراء، وهي قارة شابة يتجاوز شبابها وشاباتها 70 بالمئة من عدد السكان مع ما يقدمه ذلك من مميزات. ويتوقع تقرير صادر عن الأمم المتحدة أن يحدث أكثر من نصف النمو السكاني العالمي بين زماننا الحاضر وعام 2050 في أفريقيا. فلأفريقيا أعلى معدل نمو سكاني في المناطق الرئيسية. ويُتوقع أن يتضاعف عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بحلول عام 2050. كما يُتوقع زيادة عدد السكان في أفريقيا بسرعة حتى لو انخفضت مستويات الخصوبة في المستقبل القريب بنسبة كبيرة. وبغض النظر عن الضبابية التي تحيط بالاتجاهات المستقبلية للخصوبة في أفريقيا، فإن العدد الكبير من الشباب الموجودين في القارة في الوقت الحاضر – وهم من يُتوقع وصولهم سن البلوغ في السنوات المقبلة وأن يكون لديهم ذرية – يضمن أن تضطلع القارة بدور رئيسي في تشكيل حجم سكان العالم وتوزيعهم على مدى العقود المقبلة.
انغلاق النمو.
بالرغم من كل هذه الثروات، تعاني القارة مما تعانيه من انغلاق طريق النمو والدوران في حلقة مفرغة مصطنعة تتمثّل في لعبة التقاذف بين الحوكمة الراشدة والتنمية المستدامة، حسب المصطلحات التي أصبحت رائجة عند المنظمات الإقليمية والدولية والمؤسسات المالية المشرفة على القارة مند مطلع الثمانينات من القرن الماضي.
وتعتبر مبادرة “النيباد”؛ أي “مبادرة الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا” التي أقرّها مؤتمر الوحدة الأفريقية عام 2001 باقتراح من خمس بلدان أفريقية محورية هي مصر، الجزائر، نيجيريا، جنوب أفريقيا والسنغال والتي لا تزال تعتبر حتى هذا التاريخ استراتيجية الاتحاد الأفريقي الشاملة لتحقيق التنمية على مستوى القارة.
وحسب هذا النوع من الاستراتيجيات تتقاذف الحوكمة الراشدة والتنمية المستدامة المسؤولية عن التخلف، كما تفترض في خلفيتها أن الرأسمالية الغربية بنسختها الأوروبية، ومن ثم الأميركية مستعدة لمدّ يد العون لأفريقيا لانتشالها من براثن الفقر والتخلّف على أساس من مبادىء الشراكة العادلة، هذا الأمر الذي يمكن أن نطبّق عليه المثل الشعبي الذي يقول: “من جرب المجرب كان عقله مخرب”؛ ذلك أن بلدان المركز الاستعماري لم تسع إلى تخبئة أو تجميل أي من سياساتها أو نواياها تجاه القارة الأفريقية بدءًا من سرقة المواد الخام والتلاعب بالإنتاج الزراعي خدمة لتقاسم الأسواق بينها[1]، (أمثال تغيير اتجاه الزراعات المحلية للمواد المعيشية للسكان إلى زراعات أخرى لتلبية حاجات الأسواق العالمية، الأمر الذي يعرّض السكّان إلى مخاطر المجاعة في حال حدوث اضطرابات مناخية، أو اضطرابات في الأسعار). ثم سرقة القوى الناشطة في القارة تحت ما يسمّى الاستعباد العلني الذي أفقد القارة الأفريقية أكثر من نصف قواها الشابة والقوية، حيث تم سوقهم إلى ما وراء البحار، ومات معظمهم غرقًا، ومن ثم العبودية المبطّنة القائمة على سرقة العقول المبدعة باستخدام برامج التعليم التي تشرف عليها، والتي تسمح لها باصطياد الكفاءات العالية والمواهب لإكمال دراستها العليا في الغرب، ومن ثم تقديم إغراءات عمل لها وإدماجها في المجتمعات الغربية، وحرمان بلدانها الأصلية من خبرات ضرورية لعمليات التنمية.
إن استراتيجيات التنمية المذكورة أقل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها تتبنّى نموذجًا للتراكم لا ينسجم ومتطلبات التنمية الأفريقية، كما يعتمد على برامج لإعادة الهيكلة لا تسمح للبلدان الأفريقية من تحقيق حد أدنى من الاستقلالية. وقد اعتبر المفكّر الراحل سمير أمين أن ما يسمّى بالحوكمة الرشيدة لا يعدو كونه جزءًا من متطلّبات المرحلة الثالثة من الاستعمار الرأسمالي المقترن بخطاب أيديولوجي يحافظ على مبدأ التدخّل لمبررات الديمقراطية والحكم الراشد، والذي لا يمكن أن يكون إلا مدخلًا لتدشين مرحلة جديدة ضمن سياسة المشروطية والاستتباع والهيمنة.
إن أهم ما يمكن أن ينتج عن هذه الدائرة الجهنمية المتمثّلة بتبادل الاتهامات بين فشل الحوكمة وسراب التنمية هو ذاك الحوار غير المفضي إلى أي نتيجة إيجابية بين النخب الأفريقية في طرفي الحكم والمعارضة؛ فالحكم من جانبه يعتبر أن المعارضة هي المسؤولة عن التعثّر في تطبيق برامج التنمية، إضافة إلى المشكلة الدائمة المتمثّلة بعدم القدرة على استجلاب الرساميل الاستثمارية من الخارج، والمعارضة من جانبها تعتبر أن فساد الحكم وسوء الإدارة مقرونة بفشل الإدارة التقنية هو المسؤول عن الفشل، بينما فشل التنمية مسؤول عنه حقيقة انعدام الاستقلالية الاقتصادية السياسية، وارتباط مشاريع التنمية بشرايين مشروع الهيمنة الاستعماري الذي لا يسمح بتراكم رأس المال في الداخل، ويربط الهيكلة الاقتصادية بمصالح الشركات المالية الموجودة في بلدان الغرب الاستعماري، الأمر الذي استمر منذ الاستقلال المزعوم عن الاستعمار التقليدي حتى يومنا الحاضر دون انقطاع بالرغم من دخول عدد من البلدان الأفريقية بتحالفات متنوعة خلال مرحلة الحرب الباردة تعرضت هذه البلدان بسببها إلى حروب وحصار اقتصادي مرير، ورغم ذلك فقد بقيت بلدان غرب ووسط أفريقيا الفرنسية؛ (أي التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي) تعتمد على الاتفاقات الاقتصادية والمالية التي تربط اقتصاداتها بالبنوك وبالنقد الفرنسي الذي انتقل لاحقًا إلى الارتباط باليورو (من خلال الاتحاد النقدي لبلدان غرب أفريقيا، ومثيله المتعلق بوسط أفريقيا). ولم يستطع الاتحاد السوفياتي المتحالف مع حركات التحرّر الوطني في أفريقيا كذلك مع محور دول عدم الانحياز من تشكيل محور اقتصادي ذو آليات عمل مستقلة تلجأ إليه البلدان الأفريقية المستقلة حديثًا لمساعدتها على تطوير اقتصاد وطني مستقل. ويمكن أن يقال الكلام نفسه عن البلدان الخاضعة لاتفاقات اقتصادية تحت مسمّى الكومنولث؛ (أي البلدان التي كانت تخضع لاستعمار جلالة الملكة). ومنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي تشهد أفريقيا انفتاحًا أميركيًّا تحت عنوان ما سمّي حينها بتوافق واشنطن، الذي يعتير إنجيل الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ويستند توافق واشنطن على مجموعة من العناصر التي ظهرت في البيان الذى قدّمه جون وليامسون عام 1989 وهو صاحب عبارة: “توافق واشنطن” الذي يتضمّن مجموعة من المبادىء الأساسية التالية:
المبدأ الأول: إحداث زيادة ملموسة فى مدى الاعتماد على الأسواق الحرة، سواء فيما يتعلق بالمعاملات الداخلية، أو المعاملات بين الداخل والخارج، شاملًا تحرير التجارة وفتح الأبواب أمام تدفقات الاستثمار الأجنبي.
المبدأ الثاني: إطـلاق مجـالات العمل أمام القطاع الخاص، بشقيه المحلي والأجنبي، واعتباره ركيزة التنمية، وتشـجيعه بشتى السبل، بما فى ذلك الخصخصة واشتراكه فى تقديم الخدمات التى كانت مقصوره فيما سبق على الحكومة أو القطاع العام؛ كخدمات المرافق العامة من صحة وتعليم وخدمات أخرى.
المبدأ الثالث: إحـداث خفـض ملمـوس فـى دور الحكومـة وفى حجمها وفى تدخلاتها فى الشؤون الاقتصادية والاجتماعـية، ومـن ثم انكماش دور التخطيط فى توجيه الاقتصاد والتنمية. وتحديدًا، يتوقع من الحكومـة أن تنسحب من مجال الإنتاج والاستثمار الإنتاجى، وأن يقتصر عملها على تهيئة المناخ المناسـب لتراكم رأس المال المحلّي والأجنبي، فضلًا عن تزويد المجتمع بالحد الأدنى من شبكات الأمان الاجتماعي، وقد اعتبر هذا الإجماع وصفة للدول الفاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية، وقد دعا البنك الدولي ومؤسّسات النقد الدولية لتبنّي بنوده.
ومنذ التسعينات من القرن المنصرم أصبحت هذه الأفكار في ميدان الملعب الدولي بين مؤيد لها، وبين منتقد شديد الانتقاد، وقد نشأ هذا النقد بعد انكشاف الوضع المتردّي الذي نشأ عن هذه الأفكار في أمريكا اللاتينية. ومن بين المنتقدين جوزف ستيجلتز الحائز على نوبل الاقتصاد عام 2001 م، ونعوم تشومسكي، وجورج سوروس المستثمر العالمي وغيرهم.
وباختصار، فإن توصيات إجماع واشنطن على مستوى القارة الأفريقية كانت تعني فتح المجال أمام حرية الأسواق، وتشجيع الخصخصة، والحد من حرية الدولة في ضبط حركة الأسواق، وحماية الإنتاج المحلي، ومراعاة شؤون الرعاية الاجتماعية. وبكلمة، هي ترك البلاد نهبًا لمشاريع الهيمنة الخارجية؛ أي ترك الشركات الأجنبية تعمل كما تريد، وتفرض الشروط التي تريدها دون قدرة من الحكومات المحلية على التدخل، وتقديم مصلحة البلاد على مصالح الشركات المتحالفة حكمًا مع أفراد متنفّذين داخل السلطات المحلية يرمون لهم ببعض الفتات.
ولعلّ الرئيس الغامبي السابق “يحيى جامع” قد قدّم أحد الأمثلة الذي يتوفّر الكثير منها، وقد كشَف الغطاء عن أحد أسرار التقهقر الاقتصادي الأفريقي، في مقابلةٍ أجرتها معه إحدى الصحف الصادرة في بانجول عاصمة غامبيا، حيث تقول: “لقد انقبضت أسارير الرئيس الغامبي السابق يحيى جامع حين سُئل عن النفط الغامبي ومنعه الشركات الأجنبية عن استغلالها، فقال: “نحن” -القادة الأفريقيّين- نحرم شعبنا من الاستفادة من مواردهم التي وهبها الله لنا؛ لأننا نقبل الصفقات السخيفة التي تمنعنا من كسب ما يكفي لتحسين حياة شعبنا. هذه هي المشكلة؛ لأنهم إذا أعطونا 5%، وأخبرونا عن المبلغ الذي سيحصل عليه الرئيس، وافقنا على الصفقة! في الحقيقة هذه الموارد ليست للرئيس، بل هي للشعب، لذلك لن أقبل 5% أو 10% نيايةً عن الشعب الغامبي، إذا قبلت تلك النسبة السخيفة فماذا سأقول للشعب؟ وأذهب إلى شعبي وأقول لهم: لا تقلقوا، حصلنا على 5% فقط ممّا وهبه الله لنا، وحصلت الشركات الغربية على 95%! لا، لا يمكنني قول ذلك. أخبَروني (ممثلو الشركات) أنّ دولًا أفريقية أخرى قبلت 5%، وفي الحقيقة لا توجد دولة أفريقية، باستثناء ثلاثة، تحصل على أكثر من 3% من معادنها. لذا إذا قبلت دولٌ أفريقية أخرى تلك النسبة المنخفضة بشكلٍ مثيرٍ للسخرية.. قد تكون مخطئًا في عدم قبول الصفقة نفسها السخيفة! بالنسبة لي؛ فإنّ أيَّ حديثٍ حول 3%، أو 5% من حقوق الملكية لاستغلال مواردنا هو إهانة”.
وواصلت الصحيفة سردها على لسان الرئيس جامع قائلة: “تُظهر الدراسات الاستقصائية التي أُجريت بالفعل: أنّ هذا البلد يمتلك أربعة أو خمسة مليارات برميل من النفط، ويريدون إعطائنا 400 مليون دولار سنويًّا فقط، هذا 5% من الإتاوات، ومع ذلك يقولون: إنّ هذه النسبة كبيرةٌ جدًّا لدولة صغيرة كغامبيا. إذًا مَن هو حتى يقول لنا ذلك؟ ينتمي النفط إلى الشعب الغامبي، ثم يقول لي إنه سيقدّم لنا 5% فقط، ويظن أنه يحسن إلينا! لكني أخبرته بأن يذهب إلى الجحيم، لم يعجبه ذلك، فأخبرته أنه إذا وضع قدمَيْه على أرض غامبيا مرةً أخرى فسوف يندم على ذلك. لعلّ الجريمة التي يُفترض أنني ارتكبتها هي رفض 5% على مواردنا البترولية، والباقي يذهب إلى شركات النفط الأجنبية التي تستغل مواردنا[2]. (وقد يكون الرئيس الغامبي السابق قد دفع مستقبله السياسي والكثير من سمعته على المستوى الداخلي والخارجي ثمنًا لموقفه هذا، حيث تمت الإطاحة به بعد هذا الموقف بفترة بسيطة، وتم التشهير به أخلاقيًّا كما اتهم بالفساد).
لقد فسّر أحد الباحثين السياسة الاقتصادية التي يتعامل الغرب فيها مع أفريقيا بأنها تشبه سياسة الذي صعد السلم ورفسه كي لا يسمح لغيره بالصعود، وبالتالي فإنها تغلق كل أمل بالنمو.
توليد الاضطرابات.
أما على المستوى السياسي، فتعاني أفريقيا من مشاكل بنيوية مرتبطة بالتقسيم السياسي للدول المستقلة، والتي تم تفصيلها حسب مصالح الدول الاستعمارية آن ذاك، بحيث دخلت كل الدول الأفريقية جنوب الصحراء في دوّامة من الصراعات القبلية على مغانم السلطة، وساعدت السلطات الاستعمارية مجموعة من القبائل على الاستئثار بالنفوذ والمغانم المترتبة على إدارتها للشأن العام بسبب ما قدّمته هذه القبائل من خدمات للمستعمر، بدءًا من المساعدة على اصطياد العبيد، انتهاءً بالموافقة على منحه كل ما يريد من امتيازات سياسية واقتصادية، مما فتح كافة البلدان على احتمالات حروب أهلية قابلة للتفجر في أي لحظة تخف فيها قبضة القوى الأمنية الداخلية أو الخارجية، أو تتراخى فيها قبضته انسجامًا مع تغيير مدروس. وبالتالي، فإن البلدان التي تمّ إعطاؤها صفة الديمقراطية، وتم إنشاء برلمانات لها منتخبة وحكومات تتصف بالعلمانية بمجملها، وتستند في دساتيرها إلى أحدث الدراسات القانونية في بلدان المتروبول ليست في الحقيقة إلا أنظمة تقليدية ترتكز على غلبة إحدى القبائل أو تحالف يضم عدة قبائل، وفي مقابلها معارضة تعتمد بشكل رئيسي على القبائل المهمّشة، وتتبادل أحيانًا الأدوار بين كل انقلاب وآخر في عمليات خراب كبيرة لا تقتصر على حجم التخريب المباشر الذي يجري بسبب الاضطرابات وانعدام الأمن، بل يمتد الخراب إلى بنية الأجهزة والمؤسسات الرسمية المدعوة في كل مرة إلى إجراء تغيير شامل بقواها البشرية للإتيان بقوى موالية، ولا يميز بين هذه التحالفات أو تلك إلا رضا السيد الأبيض عليها ورضا وسائل الإعلام الغربية وامتداداتها في البلدان المختلفة ومنظمات المجتمع المدني التي تقرر أن هذا المسؤول متمدن وحضاري ومستعد للتعاون مع المؤسسات الدولية والشركات الأجنبية بشكل سلس أم أنه متخلّف، بل ومتوحش، ويعاني من شبق جنسي، ويعامل زوجاته بشكل سيء، ويتم التشهير به عالميًّا وداخليًّا لإفقاده أي قدرة على الاستمرار بالحكم.
ولا شك أن تفشّي ظاهرة الإرهاب واستيطانه في عدة محاور من القارة، وسيطرته على مساحات واسعة منها في نيجيريا والنيجر والكمرون والتشاد والبنين ومالي وبوركينا فاسو وموريتانيا في غربي القارة، ثم في الصومال وأرتريا وكينيا في شرقيها (الأمر الذي يعود بسببه المباشر إلى ضرب وحدة ليبيا، واغتيال الرئيس القذافي الذي كان يستخدم جزءًا هامًّا من الريع النفطي في عملية استرضاء لمجموعة من القبائل المهمّشة منذ وطأت أرجل المستعمر الأبيض أراضي القارة، وأخذت طابعًا ثابتًا منذ تشكل الدول الوطنية الحديثة ضمن نطاق حوض الساحل والصحراء، وقد كانت السياسة التي اتبعها القذافي قد أحدثت نوعًا من التوازن الذي أسهم باستقرار مجموعة البلدان الواقعة ضمن هذا الحوض). ولقد فشلت كل الحلول الأمنية للقضاء على الإرهاب رغم وجود ألاف الجنود الأجانب وعشرات القواعد العسكرية الأجنبية، وحشد من الأسلحة وقوة النيران، إضافة إلى تخصيص الكثير من الموارد المالية التي كان يمكن استخدامها في مجالات التنمية، ويعتبر الكثير من المحلّلين السياسيين الأفارقة أن الإرهاب بحدّ ذاته هو مصلحة للدول المسيطرة على القارة، ويهدف إلى استجلاب المزيد من القوات العسكرية والنفوذ.
خاتمة.
إنّ تعثّر التنمية في القارة الأفريقية كما فساد الحوكمة الراشدة ما هو إلا النتيجة الحتمية لانعدام الاستقلال، وعدم القدرة على إدارة البلدان المختلفة بشكل يسمح لها بالاستفادة من مقدّراتها الطبيعية والبشرية، وعدم القدرة على رسم سياسات توحيدية تتيح في المجال لتخطيط شامل وبيني مرتبط بمصالح شعوب القارة لا مصالح الشركات الغربية وسياسة دولها في زمن تلوح فيه في الأفق فرص تغير في موازين القوى المسيطرة على العالم، حيث تتعرض بلدان المركز الاستعماري إلى حالة ضعف بنيوي يترافق مع صعود المارد الصيني وروسيا الجديدة وبلدان أخرى مثل الهند وإيران وتركيا والبرازيل وأندونيسيا وجنوب أفريقيا، والتي بدأت تمد سياساتها باتجاه القارة الواعدة للقيام بشراكات اقتصادية ستؤدي حكمًا إلى إحداث تغيرات مرتقبة لا زالت في علم الغيب.
يقول الدكتور إبراهيم العيسوي، أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي المصري:
“إن التنمية المعتمدة على الذات الوطنية ليست مجرّد عمل روتيني يؤدّى بلا حماس وبلا حمية لإضافة تحسينات على هذا الجانب أو ذاك من جوانب حياتنا، إنما هي في حقيقتها حرب على التخلّف والتبعية، والنصر بهذه الحرب مرهون بتوافر الحماس والحشد والتعبئة للطاقات، وفي مقدّمها الطاقات الوطنية والروحية، إن تفجير هذه الطاقات لدى الجنود هو ما يجعلهم يبذلون أرواحهم فداء للوطن، وتفجير هذه الطاقات لدى المواطنين في سياق السعي للتنمية هو ما يجعلهم يضحون بمتاع الحياة وملذاتها من أجل إعادة بناء الأمة وانطلاقها على طريق النهضة”.
وإذا اعتبرنا أن الاقتصاد الوطني لا بدّ أن يكون تعبيرًا عن سياسة وطنية شجاعة وحاسمة لدى قيادات الأمة وأحزابها، فإنه مما لا شكّ فيه أن هذا الاقتصاد المستقل يستطيع أن يجعل السياسة الوطنية أكثر صلابة وقدرة على التعبير عن تطلّعات الأمم في صناعة غد أفضل.
* متابع للشؤون الأفريقية.
[1] عقدت الدول الأوروبية بين عامي 1884و1885مؤتمرًا استغرق مئة يوم تم خلاله تقاسم القارة الأفريقية، وقد سمي هذا المؤتمر بمؤتمر برلين الثاني، أو مؤتمر التكالب على أفريقيا، حضره فرنسا، ألمانيا، إنجلترا، النمسا، المجر، بلجيكا، الدنمارك، البرتغال، السويد، إسبانيا، النروج، هولندا، وإيطاليا، إضافة إلى ممثل عن السلطنة العثمانية لزوم الديكور، وفي هذا المؤتمر تم تناتش القارة الأفريقية وضمان مصالح كافة الأطراف.
[2] https://www.youtube.com/watch?v=BFqbitS9sKU/ Preside Jammeh’s Interview With New African Magazine by Regina JeneJer(
المقالات المرتبطة
معركة لغير وجه الله
يقدّم الباحث الأستاذ فهمي هويدي في مقاله المنشور على صفحات جريدة الشروق المصرية قراءةً حول تاريخ التجاذب
رحمة النبيّ (ص) رسالتنا للعالمين
إذا كانت المسيحيّة مثلًا تقوم على قيم من الرهبنة والمحبة، فإنّ الإسلام المحمّديّ يقوم على قيم الرحمة والحق والعدالة.
التعددية الدينية المعرفية بين خلفيات ومناشئ غربية ورؤية نقدية
إن التعددية الدينية[1] تمثل مفصلًا أساسيًّا من مفاصل الدرس الكلامي الحديث، حيث إن سجالات وإشكاليات متنوعة ومتشعبة قد نجمت عنها