“رسول الله إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة”
تكاد أن لا تمرّ بفقرة أو مضمون فقرة في الصحيفة السجاديّة إلّا ولذكر النبيّ محمّد (ص) فيها الموقع الرفيع. فهو صلوات الله وسلامه عليه وآله مفتاح البركات والصلة الممتدة بين السماء والأرض، بل بين الخالق والمخلوق.
إلّا أنّ الإمام زين العابدين (ع) خصّص للنبيّ دعاءً خاصًّا باسمه صلوات الله عليه وآله، وابتدأ فيه القول: “والحمد لله الذي منّ علينا بمحمّدٍ نبيّه، دون الأمم والقرون السالفة بقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظُم”.
إنّ النبيّ (ص) هنا، منّةٌ عُظمى من الله سبحانه تلطّف بها على كلّ من آمن بالله ربًّا، وبمحمّدٍ نبيًّا. ومن المعلوم أنّ المنن الإلهيّة العظمى تستحق وتستوجب ما يتجاوز الشكر، وليس ذلك إلّا الحمد، بما يعنيه وبما يحمله من مخزون فضل ووسيع مضامين يصعب غورها؛ إذ الحمد هو الثناء والشكر الخاص بمحضر الذات الإلهيّة.
وهذا يضعنا أمام حقيقة عظمة الذات والهويّة المحمّديّة. إنها منّة الله العُظمى على أمةٍ تشرّفت بأنّها أمّة محمّد.
ويأخذنا الدعاء في سياقاته للإحساس بالفرادة على بقيّة الأمم وأهل الزمان بقرونه المتطاولة. وليكون محور هذه الفرادة كامن في أصل الانتساب لنبيّ الرحمة محمّد (ص)، ثمّ يتصاعد السياق بتوتير الاحساس بهذا المنّ مع الإشارة الواردة في آخر هذه الفقرة عندما يقول: “بقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظُم”؛ فعظمة المنّة المحمّديّة، إذن، ممّا يثقل تحت وطأتها كلّ قدرة في هذا الوجود لتكون مختصّة بالقدرة الإلهيّة. بحيث إنّ الإشارة هنا جاءت لتُصوِّر أنّه برغم عظمة المنّة المحمّديّة، إلّا أنّ القدرة الإلهيّة هي وحدها التي تتسع لبثّها وبعثها للناس.
ثمّ يتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه بطلب الصلاة على محمّدٍ واصفًا إيّاه بـ “أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيّك من عبادك”. وهنا تبرز الوظيفة “الابتعاث بالوحي“، لكن من خلال ذكر الصفة الخاصّة بحامل الوحي وهي “الأمانة”؛ فالنبيّ (ص) أمين الله على وحيه؛ والمؤتمن إن لم يكن مختبرًا بهذا الصدد فلا يمكن أن يُولّى مثل هذا الدور الكبير، الذي أوّله نقل مضمون الوحي وشكله التعبيريّ والبيانيّ واللفظيّ إلى الناس، ثمّ أداء سلوك مسارات الوحي في الزمن وبين الخلائق، وهو ما تعجز عنه الخلائق مجتمعة ويتحمّله قلب النبيّ (ص).
ولتأكيد هذه الخاصّية في صفة حامل هذه الأمانة، جاء التعبير بنجيبك من خلقك؛ أي الخالص لوجه الله بما ليس في أحد من الخلائق، وصفيّك من عبادك، وهو المصطفى من بين كلّ العباد بمن فيهم حتّى أولي العزم من الرسل، ليكون سرّ الاصطفاء الإلهيّ وخاتمَ الوحي الرساليّ.
بل ويترقّى الدعاء ليصف النبيّ (ص) بأنّه: “إمام الرحمة وقائد الخير ومفتاح البركة”.
خصال الدور والموقع المحمّديّ
لقد أورد الدعاء خصالًا وأدوارًا ثلاث للنبيّ محمّد (ص). ومن مفارقاتها أنّها تقترن فيها المسؤوليّة بالأهليّة، بحيث إنّ ذات النبيّ بما هي حاملة لمؤهّلات استثنائيّة أولاه الله سبحانه مسؤوليات استثنائيّة، ومن ذلك:
أوّلًا: إمامة الرحمة؛ والرحمة فضلًا عن كونها من أسماء الجمال الإلهيّة التي لا يصلح وجود وقوام الخلائق من دونها. هي أيضًا ممّا شرّف به المولى سبحانه كلّ نبي وإمام ووليّ، بل كلّ عبد من عباده. إذن، يمكننا القول: إنّ كلّ خلق من خلق الله له نصيب من الرحمة التي تتواجد بوفرةٍ عند أصحاب القرب من الله سبحانه، وبهذا المعنى، فإنّ رسول الله (ص) هو إمامهم بما هو إمام الرحمة. إلى الدرجة التي عبّر عنها المولى سبحانه في كتابه العزيز: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[1].
فالنبيّ بما هو رحمة لم يُبعث إلّا رحمة للعالمين.. وهذا شبيه القول: إنّ كلّ الخلق عباد الله، أمّا النبيّ محمّد (ص) فهو العبد المطلق ومدلول الرحمة المؤثّر في تكوين الموجودات يسري ليكون قيمة القيم الكبرى التي تقود النظام الأخلاقيّ، ومقاصديّة النظام التشريعيّ في الإسلام، بحيث يمكننا الجزم أنّ كلّ أمر تشريعيّ بما فيه الحدود والقصاص وأحكام الجهاد والقتال وغير ذلك ممّا يستلزم من مظاهر القوّة، هو محكوم لأصل الرحمة.
وعندما يتجاوز هذا الأصل فإنّه يتحول إلى إرهاب وتكفير وعنف هدّام.
ثانيًا: قيادة الخير، قد يذهب بعض أصحاب التأويليّة الإسلاميّة للقول: إنّ الخير هو الوجود، وأنّه ينقسم إلى خيرٍ عام وخيرٍ خاص، وأنّه بالعام يسري وجود المؤمن والكافر، أمّا بالخاص فهو ما يمتاز به موجود عن موجود آخر.
وقد تأثّر أصحاب هذا التأويل بتفسير معنى وانقسامات الرحمة التي منها ما هو عام يُطلّ المولى تعالى على خلقه فيها باسم “الرحمن”، ومنها ما هو خاص يُطلّ سبحانه من خلالها باسم “الرحيم”.
وهذا، لو أردنا الاستفادة من دلالته لقلنا: إنّ الرحمة والخير مفردتان لحقيقة واحدة، إلّا أنّه بالأثر المباشر، الخير هو فيصل تفريق الفاسد عن الصالح، والمبيِّن لسبل الرشاد والهداية عن الضلالة والتيه. وهذا الفيصل والفرقان هنا، إنّما هو رسول الله محمّد (ص).
ثالثًا: مفتاحيّة البركة، قد تضعنا هذه العبارة عند الآية القرآنيّة الكريمة: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾[2].. لنستشعر معها أنّه بعد الإيمان بالله فإنّ ولاية نبيّه (ص) هي سرّ بركات السماء والأرض، بل ومفتاح بركتهما…
وهكذا يصبح النبيّ (ص)، بحسب أدعية الصحيفة السجاديّة، إمامٌ لكلّ رحمة، وقائد لكلّ خير، ومفتاح لكلّ بركة.
[1] سورة الأنبياء، الآية 107.
[2] سورة الأعراف، الآية 96.
المقالات المرتبطة
التطور، الخلق، الإبداع، اليوم بين العرف والواقع
بين يديكم مقال في مجال الخلق والإبداع – يتناوب بينها في الوجود -، وكذلك التطور واليوم، جميعًا بالمعنى الحقيقي لا المشهور.
تذكرة المتقين
ليعلم كلّ إنسانٍ أنّه لا يخلو من المعصية في جوارحه، من غيبةٍ وإيذاءٍ وبهتانٍ وخيانةِ بصر، ومن كلّ صنوف الذنوب الأخرى، فعليه العمل على التّخلّص منها والابتعاد عنها ابتعادًا نهائيًا.
تلخيص كتاب على أعتاب الحبيب
في الدعاء، يرتقي الداعي إليه تعالى، يدخل الحرم الآمن الذي لا كدر فيه ولا نصب، يُسقط عن نفسه آلام التعب وأوجاع الحياة، وحين يلفظ همسًا “أي ربِّ” يسمع الصوت الآمن أن “عبدي لبّيك”.