التطبيع: بيع بالمجان

التطبيع: بيع بالمجان
يشكّل التاريخ المدماك الأساسي الأول لأي عمل على صعيد الأمة، أو حتى على صعيد الفرد، سواء كان العمل سياسيًّا أو غيره، كي لا تقع الأمة في المحظور؛ وهو إعادة الوقوع فيما وقع به السالفون، لقد عمّق القرآن الكريم الإحساس التاريخي عند المسلمين عندما وصلهم بالأنبياء والأمم السابقة، وجعل تاريخ الخليقة مجالًا لنظرهم، ومجالًا للتدبّر والتفكّر، قال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾[1].
خصّ الله تعالى ذكر اليهود – تلميحًا وتصريحًا – في أكثر من ثلث القرآن، حيث بيّن أحوالهم وصفاتهم إجمالًا وتفصيلًا. ولعلّ أبرز صفة اتسم بها اليهود في القرآن والإنجيل هي نكثهم العهود[2]، والتي التصقت بصورة اليهود في أذهان الناس على مر العصور، وهم الذين ينظرون إلى العُهُود والمواثيق التي يقيمونها على أنها للضرورة[3]، ولغرَضٍ مرحلي، ولمقتضيات مصلحة آنية، فإذا استنفد الغرضُ المرحلي، نقَض اليهود الميثاقَ [4]من غير استشعارٍ بقِيَمٍ أدبية، ولا اعتباراتٍ أخلاقية.
وأشار القرآن الكريم إلى هذه الطبيعة الماكرة في اليهود في قوله تعالى :﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[5].
ولا يخفى على المتتبع أن تاريخ اليهود حافلٌ بالغدر بالمسلمين وغيرهم. غدر بني قينقاع بالمسلمين بعد غزوة بدر، وغدرت بنو النضير بعد غزوة أحد، وغدرت بنو قريظة يوم الأحزاب… لذا، كان على المسلمين بقيادة الرسول الأكرم (ص) مواجهتهم على الدوام، فبرزوا إليهم وامتنعوا عن عقد المواثيق والعهود معهم، وتجهزوا لحربهم بعد اليأس من حفظهم العهود والالتزام بها، فكانت الحرب الشاملة معهم، حيث خاض الرسول الأكرم (ص) حربًا ضد بني قينقاع، وضد بني النضير وحاربهم في محيط المدينة، حيث واجه (ص) قبيلةَ بني قريظة التي كانت تسكن في ضواحي المدينة المنورة، وحاربَهم في خيبرَ التي كانت تمثلُ المعقلَ الأساسيَ لهم في شبه الجزيرة العربية.
وكم من مرة خالف اليهود منقذهم والآخذ بهم إلى بر الأمان نبي الله موسى (ع)، وكم عانى من تقلبهم وغدرهم وسوء سريرتهم تجاهه، وما أدى بهم إلى التيه والتشتت.
وتاريخنا الحديث حافلٌ بغدرهم ومكرهم، وهم الذين اغتصبوا أرض فلسطين، وأوقعوا المجازر، وفرضوا على أصحاب الأرض الهجرة عنها، وما اكتفوا بذلك، بل تعدّوه إلى التوسع “من البحر إلى النهر”، وكان لزامًا على عامة المسلمين نصرة أهلهم وإخوانهم، فليست فلسطين بأقل أهميةً لا على الصعيد الديني (الإسلامي – المسيحي)، ولا على الصعيد القومي العربي من باقي البلدان، فقائمة حروب الاستقلال أخذت مأخذها من التاريخ المعاصر، واستفيدت منها الدروس في حفظ الأوطان وتحريرها، وليست فقط حرب الاستقلال الجزائرية عن الاحتلال الفرنسي[6] (1954 م) شاهدٌ حي على جدوى المقاومة وعدم الانصياع. إن الجبروت الفرنسي قد كسرته همة بضعة آلاف من المجاهدين الجزائريين، وصنعت النصر والاستقلال للحاضر والمستقبل.
إن صراعًا من أطول الصراعات في التاريخ (بالنظر إلى الصراع الإسلامي- اليهودي) يُراد إنهاؤه اليوم بالتسليم والانصياع التام للرغبة اليهودية – الصهيونية في الاحتلال والاستعمار، فالتطبيع يهدف إلى جعل العلاقات طبيعية، وكأن لم يكن هناك خلاف أو قطيعة سابقة، دون مراعاة العذابات الفلسطينية اليومية، والخذلان الذي تعيشه القضية الفلسطينية منذ أكثر من 70 عامًا، على أن إنهاء هكذا خلاف لا يمكن أن يتم على حساب أصحاب القضية والمتضررين الأساسيين من الاحتلال.
وكأن من سعى إلى التطبيع أو رضي به قد أغفل الجانب المظلم منه. إن إرخاء اليد عن التمسّك بالقضية الفلسطينية سيؤدّي إلى التشتت والوهن، وأن اليهود – كما أسلفنا- ليسوا أهل عهود ومواثيق، وأن ما يهربون منه بالمواثيق والعهود معهم سيقعون فيه. جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي: فإن قومًا آمنوا بألسنتهم ليحقنوا به دماءهم فأدركوا ما أملوا. ونحن نرى أن من يتأمّل خيرًا في التطبيع لأمنٍ أو سياسةٍ أو اقتصادٍ أو غيره .. فسوف يدرك عاقبة فعله سوءًا وكمدًا .
إن الالتزام بالتطبيع لهو إعلان حيادٍ عن الصراع القائم، ولا حيادية في الإسلام، والساكت عن الحق شيطان أخرس، وهو بسكوته يخالف كل الأدلة الحاثّة على العمل والالتزام بالشريعة الإسلامية
قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُون﴾[7]. إذًا عاقبة المتخاذلين الذل والهزيمة والضياع، إذ أنه لا ولي لهم ولا قائد لهم، وهم يتخبطون وراء الصهاينة والظالمين.
وهذا وعد الله ﴿وَقَطَّعۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُمَماً﴾[8]؛ أي لن تقوم لليهود قائمة، ولا لأتباعهم وحلفائهم وأنصارهم والضاربين بأيديهم، وهذا ما نراه ماثلًا أمام أعيننا كالشمس الساطعة، فمن يحمل الحقائق التاريخية بمسؤولية، ويسعى إلى الاستفادة منها في صناعة قراراته وتوجهاته المستقبلية، يجب أن لا تغيب عن ذهنه الحقائق التاريخية التي يغص بها التاريخ القديم والمعاصر والحديث، وأن “الأيام ستعيد نفسها” إذا لم نستفد من دروس الماضي.
 
 
 
 
[1] سورة الحج، الآية 7 .
 [2] سورة البقرة، الآية 100.
[3]  التوراة، سفر التثنية 32/20.
[4]  التوراة، سفر القضاة 2/2.
[5] سورة الأنفال، الآيات 56- 58.
[6] إسماعيل دبش، السياسة العربية والمواقف الدولية تجاه الثورة الجزائرية.
[7] سورة هود، الآية 112 .
[8]سورة الأعراف، الآية 168.



المقالات المرتبطة

أصالة الوجود ومشكلة الشر

اختلف الكثير من الفلاسفة والمفكرين في أصل الشر ومبدئه، بين من ينسبه للأعمال الشيطانية، فيشكل عليه آخرون بقدرة الله على مواجهتها، فهل هو عاجز عن ذلك؟

الإيمان والدين والاعتقاد

يتضمّن هذا البحث المتواضع محاولةً لتعريف الدين والإيمان والوحي والاعتقاد والسلوك الديني من خلال العلاقة التي تربط هذه الأمور بعضها

الخاص والعام في فلسفة السياسيّة

الكلام على فلسفة للسياسة أو على فلسفة سياسيّة يعني الكلام على فلسفة خاصّة بأحد الأنشطة البشريّة. وبذلك لا يختلف كلامنا

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<