الموت كتجلٍّ للمقدّس: في العلاقة بين الموت والمقدَّس
الحديث عن الموت لا ينفصل عن الحياة، بل هو الذي يعطي المعنى لها، والإنسان طالما هو في هذه الدّنيا كالوالي الذي يحكم المدينة، حتى إذا مات هجر داره، وترك المدينة إما مكانًا مقدّسًا أو جهنمًا لأعماله، من هنا لا يعود الموت مجرّد أمرٍ يقع على الإنسان، إنّما هو جزءٌ من حياته، يتمثّل دائمًا معه وبشكل يومي وهو الموت الأصغر المتمثّل بالنوم، لذلك، على الإنسان أن يتخذ الموت مطلبًا معرفيًّا تتناسل منه كلّ المفاهيم السلوكية؛ بحيث ينعكس ذلك في حياته من خلال سعيه إلى ميتات متعددة، كلّ واحدة منها تؤدّي إلى حياة جديدة ناتجة عن اكتساب النفس ملكات جديدة، تُجري تحوّلات فيها، تساعده على اكتساب الكمالات، التي تُعبِّد الطريق أمامه للوصول إلى مقام القرب من الله.
فالإنسان في هذه الدّنيا، يجب أن يتصوّر نفسه دائمًا كالمهاجر إلى الله، يقف على محطات متعدّدة، وهي عبارة عن ميتات، يبعث من بعدها من جديد، وهي تتوزع على الشكل التالي:
– الموت الأبيض: هو عبارة عن الجوع لأنّه ينوّر الباطن ويبيّض وجه القلب، فإذا لم يشبع السالك بل لا يزال جائعًا مات الموت الأبيض فحينئذ تحيي فطنته، لأنّ البطنة تميت الفطنة، فمن ماتت بطنته حييت فطنته[1].
– الموت الأحمر: وهو مخالفة النفس […]: “واعلم أنه لا يخالف النفس إلا في ثلاثة مواطن في المباح والمكروه والمحظور لا غير”[2].
– الموت الأسود: وهو لاحتمال الأذى فإن في ذلك غمّ النفس والغمّ ظلمة النفس، والظلمة تشبه في الألوان السواد[3].
– الموت الأخضر: وهو طرح الرقاع في اللباس بعضها على بعض[…] إنّما سُمِّيت لبس المرقعات موتًا أخضر لأنّ حالته حالة الأرض في اختلاف النبات فيه والأزهار فأشبه اختلاف الرقاع[4]، وهو: “الفناء في الله لشهود الأذى منه برؤية فناء الأفعال من فعل محبوبه”[5].
وفي كلّ ميتة من هذه الميتات، يكون الإنسان في حالة خلعٍ ولبس، فعندما يتوجه الإنسان إلى الله، لا بدّ له من أن يخلع عنه ثوب “الأنا”، لأنّ: “من عَرِفَ نفسه وأثبت لها الإنية والأنانية، لم يكن ولي الله، ولم يكن تحت قبته تعالى، بل ولي نفسه وتحت قبتها، فالمقصود بالظالمين هم الذين فنوا لكنّهم لم يفنوا على فنائهم لشهود أنفسهم فدعا لهم أن يفنوا عن فنائهم حتى لا يروا إلا وجه الحق كالمحّمديّين الذين وردّ في حقهم: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[6] فشاهدوا هلاك كلّ شيء حتى نفوسهم إلاّ وجه الحق الباقي”[7]. فاضمحلال الإنية واندكاكها، تجعل العبد بكليته لله، وبهذا لا يبقى أثر للخلق بل الحكم للحقّ وإلى هذا أشار الحديث القدسيّ: “من أهان لي وليًّا، فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله كتردّدي عن موت المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته”[8].
وعندما يُرجع هذا العبد من جديد، يكون وليًّا على مدينته: “[و] يصير وجوده حقّانيًّا فإن المفني فيه بما أنه مفني فيه هو الفاني كمّا أن الفاني بما أنّه فان هو المفني فيه ففي هذا المقام العبد هو الظاهر وهو السميع وهو البصير والله أسمائه وصفاته هذا كلامه أديم أيامه وزيد إكرامه”[9]. ومقتضى الكلام عن الموت هنا لا يعني العرفاء فحسب، وإن كان العارف صاحب هذه الطريق للوصول إلى الله، فهو كلّ توجه صادق ومخلص باتجاه الله، بحيث يكون كلّ عمل يكون به الغاية منه تحقيق رضوان الله عزّ وجلّ: “قال الحواريون لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: يا روح الله ما الإخلاص لله عزّ وجلّ ؟ قال: الذي يعمل العمل لله تعالى لا يحبّ أن يحمده عليه أحد من الناس. قالوا: فمن الناصح لله عزّ وجلّ؟ قال: الذي يبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإذا عرض له أمران، أحدهما للدنيا والآخر للآخرة بدأ بأمر الله تعالى قبل أمر الدنيا. فحبّ المحمدة من الناس أصل هو فرعها، وهو يحبّ أن يعرف مكانه، ويريد الاشتهار، وينوي بقلبه محبة الإعظام له من وجوه الأنام، فلا ينفعه. مع هذه النية اختفاؤه في الآجام وعمله غير مقبول”[10].
من خلال ما استعرضنا، نصل للقول: إنّ وصول العبد لهذه الدرجة من الإخلاص لله، يجعل الموت لحظة تكامل ووصل إلى الإنسان الحقيقي، وبالتالي يكون الموت موصلًا إلى المقام القدسيّ للملائكة، لأنّ الصفات والكمالات التي يتحلّى بها بالله لا بنفسه، وهو لهذه الخاصية لا يقبل النقصان، بل قد يصل هذا الأمر إلى ذروته من خلال نعمة الشهادة، التي ينالها كلّ إنسان بحسب مقامه من المعرفة: “وكما أن لكلّ أمة شهيدًا، فكذلك لكلّ أهل مذهب شهيد، ولكل واحد شهيد يكشف عن حال مشهوده، وأما المحمديون فشهيدهم الله المحبوب الموصوف بجميع الصفات لمكان كمال نبيهم وكونه حبيبًا مؤتى جوامع الكلم، متمّمًا لمكارم الأخلاق، فلا جرم يعرفونه عند التحول في جميع الصور إذا تابعوا نبيهم حق المتابعة، وكانوا أوحديين محبوبين كنبيهم”[11].
وهذه الشهادة لم تكن في لحظة الاستشهاد، إنّما هي في الحياة الدّنيا عندما كان شاهدًا للحقّ، ملتزمًا: “قضية عادلة تتجاوز الفرد والأسرة والجماعة، لتكون قضية المجتمع بأسره، وقضية الأمة بكاملها حاضرها ومستقبلها، وجعل هذا الالتزام موصولًا بالله تعالى بتوجيه الله وتعليمه، والسير على مبادىء التقوى السياسية، إنّ الالتزام على هذا النهج هو الذي يعطي الحياة معنى الشهادة، وسيعطي الموت معنى الشهادة”[12]. وأخيرًا كما قال الإمام الخميني قُدِس سره: ” كم سعداء أولئك الذين يقضون عمرًا طويلًا في خدمة الإسلام والمسلمين وينالون في نهاية عمرهم، الفيض العظيم الذي يتمنّاه كلّ عشّاق لقاء المحبوب. كم سعداء وعظماء أولئك الذين اهتموا -طيلة حياتهم- بتهذيب النفس والجهاد الأكبر وفي نهاية أعمارهم، التحقوا بركب الشهداء معزّزين مرفوعي الرأس. كم سعداء وفائزون أولئك الذين لم يقعوا في شباك الوساوس النفسية وحبائل الشيطان، طيلة أعوام حيــاتهم -في بأســــائها وضــــرّائها- وخرقـــــوا آخر الحجب بينـــهم وبين المحبوب، بمحاسنهم (بلحاهم) الملطّخة بالدّماء والتحقوا بركب المجاهدين في سبيل الله تعالى.[13]“
[1] حيدر الآملي، تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم، مصدر سابق، الصفحة 209.
[2] ابن عربي، الفتوحات المكية، (بيروت: دار صادر، دون تاريخ)، الجز2، الصفحة 295.
[3] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 258.
[4] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[5] عبد المنعم حنفي، معجم مصطلحات الصوفية، (بيروت: دار المسيرة، الطبعة 2، 1987)، الصفحة 250.
[6] سورة القصص، الآية 88.
[7] الإمام الخميني، تعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس، (تهران: مؤسسة (پاسدار اسلام)، الطبعة1، 1406)، الصفحة 99.
[8] الكليني، الكافي، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 352.
[9] الإمام الخميني، تعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس، الصفحة 115.
[10] أبو طالب المكي، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، ضبطه وصححه: باسل عيون السود، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة 1، 1417 – 1997 م)، الصفحة 263.
[11] ابن عربي، الفتوحات المكية، (بيروت: دار صادر، دون تاريخ)، الجز1ء، الصفحة 166.
[12] جريدة النهار 18-10- 1983.
[13] الإمام الخميني، صحيفة الإمام، (تهران: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1429 ه)، الجزء 17، الصفحة 56.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عبقرية الشهادةالحاج أبو مهدي المهندسجدلية الحياة والموتالموتما بعد الموتالشهادةالحاج قاسم سليمانيالشهيد سليماني المقالات المرتبطة
هل يمكن أن تحصل قراءة واحدة للنصّ الدينيّ؟
إن الأرض تتسع لمليارات البشر، وعند هذه المليارات تتنوع المعتقدات والشرائع وتتعدد، ولا تستقر علاقات الأفراد داخل الأمة الواحدة، أو علاقات الأمم والشعوب على أسس عادلة ما لم يحصل عند الجميع إقرار بالتنوع الثقافي، وبالتعدد في مواقع الإنتاج الحضاري.
عاشوراء في “عيد الغدير” لبولس سلامة
يعود نظم “عيد الغدير”… للشاعر الأديب بولس سلامة، علاوة على عزم الناظم، كما يفهم من قوله في تصديره للكتاب، إلى
مكانة القرآن الكريم في حركة الثورة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران
يشير العنوان إلى ما هو بديهيّ عندما يكون مدار الكلام حول مكانة القرآن الكريم في ثورة الشعب الإيرانيّ