عبقرية الشهادة وجدلية الموت والحياة
ينبثق من أجسام المخلصين ضوءٌ أحمرٌ قانٍ لتدبّ إثر شعاعه الحياة
في الضمائر، ويشهق الثأر الشهقة الأولى بعد الولادة، وينبض قلب
كل مجاهدٍ في الأرض، أجسادهم ليست تراب إنما شمسٌ
أريق منها الضوء…
عندما يبيع الإنسان حياته الدنيا في سبيل معتقدٍ أو فكرةٍ أو شخصٍ أو شيءٍ فإنه يخسره للأبد بمجرد هجرة روحه البدن، إلا إذا اشترى بها رضا الله فإنه يصبح من أخصّ عبيده زلفةً لديه، ليجني بذلك السعادة الأبدية، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة السرمدية، ويأخذ بيده أهل الأعراف فيفوز فوزًا عظيمًا. لذلك لا جرم بأن “الشهادة” بمفهومها الإسلامي ضربٌ من ضروب العبقرية وهي البُراق الذي يُعرج به نحو العلي القدير بعد أن تذيب نار الشوق التي تسجّرت في قلوب المجاهدين كل القيود الدنيوية.
إن العبقرية لغة تستخدم لكل ما بُولغ في وصفه ولا يفوقه شيء[1]، ورغم اختلاف العلماء في تعريف ٍاصطلاحيّ موحّدٍ لها إلا أنهم اتفقوا على كون العبقري هو الإنسان الخارق للعادة الذي يصبّ تفانيه وإخلاصه في أمرٍ ما[2]، فلا يزداد إلا صبابةً، وتستهويه الرحلة تمامًا كما يغريه البلوغ إلى مسعاه. لو نظرنا إلى الأصل الإتيمولوجي للعبقرية فسنجد أن الكلمة جاءت من “عبقر” وهو موضع في البادية يسكنه الجنّ[3]، كما شاع عند العرب. لذلك رأى البعض أنّ هناك خيطًا رفيعًا جدًّا بين العبقرية والجنون، وربما نسجت تلك الأفكار خيوط العذّال الذين يلبسون أي فكرةٍ أوسع من مدى رؤيتهم ثوب الاتهام. وربما لأن المجنون والعبقري كلاهما يخرجان من ذاتيهما[4]، بيد أن المجنون يضيع والعبقري يتعمق في عالمٍ أوسع وأسمى. وهكذا تربعت العبقرية على عرشها بين المفاهيم الفلسفية، فنظر إليها الفلاسفة على أنها قوى تلجمها المعرفة وتحرر الإنسان من الإرادة، وتخرجه من نطاق المصلحة الخاصة[5]، وتتجاوز بذلك زمان ومكان ظهورها[6] فتترك أثرًا بعدها. ألا ينطبق ذلك على مفهوم “الشهادة”؟ كان الجهاد نطفةً لقّحت العبقرية فوّلدت الشهادة من رحم الإنسانية.
إن الراحل إلى الله قريب المسافة فلا تضرّه الخسارة الدنيوية فإنه يخرج للجهاد شاهرًا سيفه، مجرّدًا قناته، ملبّيًا دعوة الداعي لينال إحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة، وكأنما النصر قرين النجاح والشهادة هي الفلاح. فالنصر
دنيويٌ فانٍ، والشهادة ﴿كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾[7]. لذلك ينادي المؤذن: “حيّ على الفلاح” الذي هو الخير الذي لا ينقطع بقيامة الدنيا. إن سلوك طريق الشهادة هو من الفرائض التي لا يحدّها زمانٌ ولا مكان ، فعلى سبيل المثال للصلاة والصيام والحج مواقيت معلومة ومقيدة بأحكامٍ فقهية معينة إلا الجهاد فقد أمرنا الله تعالى به حيث قال: ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[8]. إنه فريضةٌ على جميع المسلمين والمسلمات، تختلف فيه الميادين ولكلٍّ منها عدو، ولكن النصير واحد إذا ما أريد بهذا الجهاد وجهه. وكل امرئٍ يتمثّل جهاده بما يجيد فيكون معينًا له على الطاعة ويدفع به أعداء الله باختلاف مشاربهم، من الأقرب كالنفس الأمارة والشياطين، إلى الأبعد المتثملين بأعداء الإنس. ويشترك الجميع بالجهاد الأكبر والذي هو جهاد النفس.
إن الذي يعيش حياته الدنيا في سبيل الله فلا شك أن يكون موته بتعدّد الأسباب في سبيله أيضًا، على غرار المعتقد السائد الذي جعل من مفهوم الشهادة قالبًا مفرّغًا باعتبار كل من سال دمه حتى الموت شهيدًا، أو الذي يقتله أحدهم بهدف اختلاس بعض الأموال شهيدًا، أو كالذي يموت في حلبة مصارعةٍ افتتحت في الشارع شهيدًا، وهلّم جرًّا. ربما نستطيع تصنيف الكثير منهم تحت قائمة المظلومين وليس كل مظلومٍ شهيد. إذا لم يكن وجه الله هو المراد فلا يمكن أن يرتقي القتيل إلى مقام الشهادة. ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإن “الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله”[9] ذلك الرجل الذي يرتجي تحصيل رضا الله من خلال الكدّ على عياله يرتقي شهيدًا إذا مات أثناء ذلك، والله من وراء القصد.
الموت ليس صفةً مطلقةً إنما هو مقياسٌ للغياب، فإذا غاب الشيء بصورةٍ نهائية يصبح ميتًا لمن غاب عنهم، وقد يكون الشيء ميتًا للبعض، وغير ميتٍ للبعض الآخر في آنٍ معًا. فإذا فارق أحدهم الحياة فهو ميتٌ في نظر الذين ما يزالون في الدنيا، وحيٌّ في نظر الذين ارتحلوا عنها. فالموت والحياة ليسا نقيضين حيث إن الموت هو تذكرة الانتقال من دارٍ إلى دار، والحياة هي اسمٌ مطلق للعوالم التي تعبرها النفس منذ النشأة، وصولًا إلى الدار الآخرة، ولكن الجسد هو الذي تغادره الحياة عند ترك الدنيا. كل الذين غادروا الدنيا أحياء ولكن ليس الجميع عند ربهم يرزقون.
أما إذا عالجنا الموت من المنظور اللغوي حيث يُعرّف على أنه ما يضعف الطبيعة ولا يلائمها، فبذلك تنتفي صفة الموت كليًّا عن الشهداء فهم حاضرون، وذلك ما يدلّ عليه المعنى اللغوي المباشر للمفردة ويصبحون مصداقًا لـ “أما والله لو إني أقتل ثم أحرق ثم أنشر في الهواء، ثم أحيا ثم أقاتل ثم أقتل ثم أحرق ثم أنشر في الهواء يفعل بي ألف مرة ما تركتك يا حسين”[10].
الشهادة والمعرفة هما كالعروة الوثقى لا انفصام لها، فلا تصل النفس إلى مقام الشهادة ما لم يدفعها العلم والمعرفة، ولا تتحقق العبودية التي خُلق الجن والإنس من أجلها دون المعرفة، وكأن الشهادة دليلٌ على الوصول إلى مقاماتٍ عاليةٍ من العلم.
إن الحسين (ع) أول أنصار الإمام المهدي (عج) وأعظمهم أثرًا على المشروع المهدوي حيث إنه الممهد الرئيسي الذي يشحذ همم المجاهدين كل عام بذكرى ثورته، فيؤجج في صدورهم نار الثأر التي ترتقب الظهور المقدّس وحتى ذلك الحين ﴿مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا﴾[11].
-
مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة، 2011.
-
بلال رامز بكري، الألم أعظم مفجّر للعبقرية، مدونات الجزيرة، 2020.
-
ملحة عبد الله، سارق المعرفة، العربية، 2020.
[4] علي الوردي، خوارق اللاشعور، دار الوراق، 1996.
5 محمد برهان كوشحة، فكرة العبقرية في فلسفة شوبنهاور، 2019.
6 أندرو روبنسون، مقدمة قصيرة جدا ًّفي العبقرية، 2014.
7 سورة إبراهيم، الآية 24-25.
[8] سورة الأنفال، الآية 60.
8 الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي.
9 المفيد، الإرشاد.
[11] سورة الأحزاب، الآية 23.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الشهيد الحاج قاسم سليمانيعبقرية الشهادةجدلية الحياة والموتالاستشهادالشهادةالشهيد أبو مهدي المهندس المقالات المرتبطة
ومضات رمضانيّة
نحن اليوم في شهر رمضان المعظّم، ونفوسنا قد تعوّدتْ على مكارمه التي لا تحصى ولا تعدّ بفضل الجليل الكريم سبحانه وتعالى لما نجد فيه من نعم متكرّرة، وخيرات ظاهرة وباطنة، وبركات نشعر بها وأخرى لا نشعر بها .
أزمــة نظريـــة المقاصــد: قـراءة معرفيــــة
يكاد يكون هناك إجماع على أن الاهتمام بمقاصد الشريعة، والالتزام بها شكّل نقلة أصولية نوعية في هذا الباب. لما تحمله
رؤى العالم بنظرة غربيــة: الإثنوجرافيا الجديدة
نشأت الإثنوجرافيا الجديدة New Ethnography في الولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في سياق الاهتمام بمدخل منهجي يركّز