العلم وسؤال الحقيقة! هل يتعهّد العلم أن يكشف لنا كل الحقائق؟!
لقراءة البحث الكامل: العلم وسؤال الحقيقة- علي خضر غاشي
رغم أنّ كلمة “العلم” بمفهومها الأوسع، تدل على كل طرق الإنسان الممنهجة والمنظومة في كشف الواقع ومخفياته، إلا أنها أصبحت أكثر دقّةً وتخصيصًا في واقعنا المُعاصر وألفاظه الاصطلاحية.
فالعلم اليوم لم يعد – بإطلاقه الصناعي – يمثّل راياتِ الكشف في طريق الحقيقة، بل أصبح راية “التجربة” في طريق الكشف. إنّ بزوغ نجم علم الطبيعة في القارة الأوروبية، وما صاحب ذلك من أحداث ووقائع هامّة -كالأزهار، وتطور العمران والصناعة – وموت عصر الظلمات الأوسط، ألقى في الذهنيّة المعاصرة ثقةً عميقة بـ “التجربة” وإيمانًا جوهريًّا بما تنتج وتضيف.
لقد أحسّ الإنسان المعاصر، وخصوصًا ذلك الإنسان الغربي – الذي عكس فيما بعد تطوره الإنتاجي والعلمي على الثقافة الشرقية – أنّه إنما تقدّم في العصر الذي زامن ارتقاء التجربة وقيمتها المعيارية، وازدهارها في الوسط الإنساني. لذلك راح يتعشق التجربة ويغازلها أينما حلّت وقرّت، ويحاول جلبها إلى كل ميدانٍ ودكّها في كل صعيد، لأنّه رأى آثارها الناجعة، وعصرها المتوهج بالأمل.
ربما ساعد في ذلك أيضًا، الجو العام للأرقام والسرعة، الذي ساد وتربّع في حيّز وجودنا، منذ أن ظهرت الأجهزة المتطورة والآلات الحديثة، وأصبح الناس – أو بعضهم – يؤمنون بالعلم لأنهم عاشوا في زمانه رغدًا، لكنهم – أو بعضهم – ينزعجون من التنظير والتفكير والتأمّل السارح البعيد، لأنهم ظنّوا أنه فراغ مقتم في ساحة العقل، وبُعد عن طريق الهدف والإنتاجات الواقعية.
ولكن، هل الناس يعيشون رغدًا فعلًا؟ – حتى يصح نسبة ذلك الرغد إلى العلم؟- وإذا كان الناس يعيشون رغدًا فعلًا، فما هو الدليل على كون العلم هو سبب هذا الرغد والسعادة الغامرة، دون شيءٍ سواه؟ ما هي المساحة التي تعّهد العلم أن يملأها لنا بإنتاجه، ويجعلها ضمن منطقة العمل؟ وهل العلم طريقةٌ لمعرفة العالم، أم لمعرفة ما وراءه..؟
هذه الأسئلة هي المفاتيح للبحث في أسلوب العلم وإطاره التنموي، وطريقته في الخروج الحقيقي والتأثير على الأفق، لقد رأى العالم – كما قدمنا – منذ الذروة في عصر النهضة إلى بدايات العصر الحديث، موجات متكرّرة وكبيرة متحفّزة تجاه العلم التجريبي، إلى درجة تدفع إلى إلغاء ميادين المعرفة الأخرى، وإقصاء مصادر كشف الواقع، المغايرة للآلية المتبعة في قاعة الاكتشافات أو غرفة المختبر.
لا نقصد بهذه الموجات، تلك الداعية إلى إحياء تقدم علم الطبيعة في وسطنا، فذلك بالضرورة جسرٌ حقيقي للتقدم والرقي، وإنما نقصد خصوص تلك الموجات التي تدّعي احتكار المعرفة في خزينة التجربة والمختبر، ونشير هنا إلى “المذهب العلموي” في فهم الكون، الذي يركن إلى أن الحقيقة مادية مطلقًا، محلّها الحواس ومنجمُها الطبيعة.
كان من آثار هذا المذهب، أو الطريقة التفكيرية في سياق للعلم، إقصاء كل المعارف والعلوم الإنسانية والتحليلية عن الإطار الإثماري من العلم، واعتبار الفلسفة وعلوم العقل والمنطق، ليست طرقًا كاشفة أو حتى مساعدة لفهم الواقع، بل كلامًا هزيلًا ومفرغًا طائشًا في الهواء، لا يمكن بأي حال اختبار صدقه، أو الاعتماد على نتاجه وإسهامه.
والواقع أن تيار إقصاء الواقع من خلال حبسه في سجن المختبر، ليس مجمعًا على إنكاره واعتراضه بالشكل الذي قد نتصوّر في الوسط النخبوي على مستوى العالم، فهذا عالم الفيزياء الشهير والعبقري الكبير البريطاني “ستيفن هوكينج” يقول: “إن معظمنا لا يمضي وقته في قلق بشأن الأسئلة – يقصد الأسئلة الكبرى الفطرية، كيف نشأ الكون؟ وما هو واقعه وآلية عمله؟ وإلى أين نحن متجهون؟ – لكننا كلنا – تقريبًا – نقلق بشأنها بعض الوقت، هذه الأسئلة تعد من الوجهة التقليدية فلسفية، لكنّ الفلسفة قد ماتت، الفلسفة لم تلاحق تطورات العلم الحديثة، وخصوصًا في مجال الفيزياء، أضحى العلماء – مقصوده علماء الطبيعة والتجربة – هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلتنا بحثًا عن المعرفة”[1].
واتفق معه على ذلك، عالم الكيمياء الإنجليزي، عضو الجمعية الملكيّة للكيمياء “بيتر أكتنر”، حيث يقول: “لا يوجد سبب لافتراض أن العلم يمكنه التعاطي مع كلّ أوجه الوجود…”[2].
أصر هذا الاتجاه على النظر إلى حقيقة العالم من نافذة وحيدة، وبلورة العلم من مفهوم ناضح متسع واسع الأرجاء، إلى بوتقة ضيقة لا تتجاوز ظواهر هذا العالم، ولا تنفذ إلى مكامنه الماورائية وأسراره الدقيقة، لقد ظنّوا أنّ الفلسفة ماتت، لكنّها لم تكن في الحقيقة سوى محاولة اغتيال!..
لذلك وجّه الباحثون والأكاديميون نقدًا واسعًا لفكرة العلموية الطاردة للفكر الفلسفي والإنتاج العقلي المجرد عن التجربة والمحسوس، ونعت “بول فايربند” أصحاب هذا الاتجاه “بالهمجية”، فقال: “الجيل الشاب من علماء الفيزياء كـ فينمن وشوينغر وغيرهما قد يكونوا ألمعيين وأذكى من أسلافهم، من بور وآينشتاين وشرودنجر، ولكنّهم همجيون وغير متحضرين، ويفتقرون إلى العمق الفلسفي”[3].
وعدّ أستاذ جامعة سيتي كوليج “ماسيو بيغلوتشي” حصر الواقع في نشاط علم التجارب، – استعمارًا ثقافيًّا للحقيقة -، فقال في مقال أكاديمي له تحت عُنوان: (مُشكلة العلم): “حين يدعي المفكرون العلمويون أن كل نشاط علمي يتعلق بالوقائع يندرج تحت “العلم”، فهم يسعون إلى حركة استعمار ثقافيّ عارٍ، تعرّف ما تبقى خارج للوجود أو خارج الاعتبار”[4].
إنّ هذا البحث مركزيّ لصياغة الرؤية الكونية في ضمير الإنسان ومكنونه، إذ إنّ لازم الإيقان لفكرة العلموية: هو حصر الحقائق في إطار الظواهر والمحسوسات، وخصوص ما يمكن اختباره أدواتيًّا في المعمل، وبالتالي طرد حقائق العقل المحضة والصرافة التي لا يمكن وضعها في مائدة المواد والحاسّة، كالله والملائكة والغيب، وغيرها… لذلك يُعدّ بحث مصادر استسقاء الحقيقة مهمًّا في فهمنا لموقعنا إزاء الكون، وواقعيّتنا الوجدانية.
إنّ الرؤية الدينية – التي أثبتناها – تعتبر من العقل أساسًا لانبثاق المعرفة والعلم، والتجربة إنّما استطاعت أن تصل لما وصلت إليه من المجد بمعيّة العقل ودوره الكامن معها، إنّ العقل هو حجة الله على خلقه، ورسوله الباطن في ذواتهم، كما قال ذلك الإمام الصادق (ع): “حجة الله على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل”![5].
ومن هنا برزت الحاجة في وسط الفكر الإنساني إلى ظهور علمٍ جديد، وهو العلم الذي يهتم بقيمة المعرفة والإنتاج العلمي، ويصبّ كلّ هيكله للإجابة على هذه الأسئلة: متى يكون الإنتاج العلمي قيّمًا وذا بريق مثمر وموضوعي؟ ما هي مصادر كشف الحقيقة في الوسط العلمي؟ وكيف يتقوّم ذلك؟ وما هو مناط اعتباره؟… وهو ما عرف في ما بعد بـ “نظرية المعرفة”، أو “الإبستمولوجيا”، إذ ليس من المعقول أن نجعل علوم الطبيعة والفيزياء هي التي تحكم متى يكون العلم صحيحًا ومثمرًا؛ للاحتمال القوي لدخول الأغراض الفكرية القبلية في الإنتاج البحثي، كذلك لا يعقل أن نجعل الوجود العملي “للفلسفة” هو الرد الوحيد على إقصائها وإبعادها؛ لذات السبب والمبرر، لذلك لا بدّ من الاستعانة بهذا الحكم الرئيسي لهذا المفترق من الطرق في الأثير الفكري والبنية التحتيّة للمنهج العلمي، وهذا ما سنركّز البحث حوله فيما يلي.
[1] ستيفن هوكينج، التصميم العظيم، 13، (بيروت: دار التنوير، 2015).
[2] مجلة أوكسفورد الجامعيّة، 1995، الصفحة 125. المصدر باللغة الإنجليزية.
[3] ورقة علمية لـ “غراهام هارمَن “، قدمت أول مرة في مهرجان الفنون بمدينة كاسل بألمانيا، ونشرت في مجلة هندسة الفلسفة، العدد 33، رقم 2 ، تاريخ 22 /11 /2012، ترجمة: محمد سامر الست، مبادرات طابة.
[4] مجلة أوج ، العدد 4، 2018، (السعودية- الخبر: مركز دلائل)، الصفحتان 21 و 22.
[5] الكليني، الكافي، (طهران: دار الكتب الإسلامية،1388)، الجزء1 ، الحديث 22، الصفحة 25.
المقالات المرتبطة
الكلمة
قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ .
منهج شريعتي في تناول المسألة الدينية
بعض الأشخاص كالتربة الخصبة، مهما ألقي فيها من شيء فإنها تعيد إنتاجه على أحسن ما يمكن. هكذا تميز شريعتي في شخصيته بفرادة يمكن القول معها: إنه كان واحدًا من النماذج الرائدة للنشطاء على مستوى الاجتماع البشري
في الدولة والمقاومة
يتضمن هذا المبحث إضاءات في مسألتي الدولة والمقاومة، ويسأل إذا ما كانت هذه الثنائية حاجة للبنان الكيان وضرورة له؟