الدعاء أركانه وآدابه على ضوء النصوص الدينية
خُلق الإنسان لكي يُرحم ﴿إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ﴾[1]، ولنيل تلك الرحمة لا بدّ أن يُبتلى ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[2] ليؤدي العبادة باختياره ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾[3]. فتكليف الإنسان هو العبادة، أما البلاء قبله والرحمة بعده فعلى الله عز وجل، لهذا السبب كان على الإنسان أن يكرّس كل لحظات عمره للسير على طريق العبودية “حتى تكون أعمالي وأورادي كلها وردًا واحدًا”. إن جوهر العبودية استحضار الفقر المطلق أمام الغني المطلق، وهل هناك مصداقٌ أجلى من الدعاء لمفهوم العبودية “الدعاء مخ العبادة”. فللدعاء مكانته المرموقة وهو من أسمى المفاهيم الإسلامية.
إن الدعاء لغةً هو طلب الحاجة من قِبَل الفاقد للواجد. أما التصور الشرعي للدعاء فهو نفسه اللغوي مضافًا إليه أن المدعو واجدٌ لكل كمالٍ، وفاقدٌ لكل نقصٍ، وهذا لا ينطبق إلا على الله تعالى.
من خلال نظرنا في النصوص الدينية -من قرآن وروايات- يمكن لنا معرفة فضل الدعاء في الثقافة الإسلامية. أما في القرآن، فقد وردت عدّة آيات، نذكر منها قوله تعالى: ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا لكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ﴾[4]؛ أي أنه لولا وجود الدعاء لما اكترث لكم ربي؛ (ومعنى كونه سبحانه عابئًا بكم هو الارتقاء بكمالاتكم، وتحقيق القرب والدنو منه)[5]. ومن آياته ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ﴾[6] في هذه الآية وصف لحالة الداعي الصادق “المضطر”. وتارةً يكون هذا الاضطرار اختياريًّا، وتارةً غريزيًّا. ومن آياته ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾[7] في هذه الآية ترهيب من ترك الدعاء، لإثارة الخوف البنّاء في القلوب. فترك الدعاء والاستغناء عنه، يعني الاستغناء عن الله تعالى، وهذا أقرب ما يكون إلى الكفر. ومن آياته ﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ﴾[8] من المعروف أن زكريا وزوجه كانا كبيرين في السن، فدعاؤه كان فيه شيء من الإعجاز، وهذا يلفتنا إلى أن مطالبنا يجب أن تكون عظيمة ولا تقتصر على طلب الأمور البسيطة، التي نتوهم أنها بمتناول أيدينا، على شرط أن لا تكون مخالفة للسنن الكونية. أيضًا هناك إشارة إلى أن المطالب حتى لو كانت ذات طابع دنيوي بالظاهر، يجب أن تحمل في باطنها طلب للكمالات الإنسانية، فزكريا(ع) لم يطلب ذرية بشكلٍ مطلق، بل أراد ذرية طيبةً. هناك إشارة لطيفة في قوله تعالى: “سميع الدعاء” فكلمة سميع تفيد المبالغة، ولم يقل زكريا “تسمع الدعاء” -مثلاً-.
وكما أشرنا، فإن للدعاء حصة في الروايات الشريفة، في بيان فضله، والحث على التمسك به في الرخاء والشّدة. فعن الإمام الصادق(ع) “عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله”. إن غاية السعداء هي القرب ممّن يحول بين المرء وقلبه. فهل يُعقل أن يضيع السالك الصادق فرصة الدعاء، ويغفل عن ذكر ومناجاة معشوقه. عن رسول الله (ص) “ما من شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء”؛ في هذا دلالة على أن أعظم رابطةٍ بين العبد وربه هو الدعاء، (وإذا ما وصِف الوحي بالمباشر وغير المباشر فإن قضاء الحوائج ونيل الكمالات المفقودة على قسمين أيضًا، إمّا أن يحصل بصورة مباشرة، وهو ما يكون بواسطة الدعاء، وإما أن يحصل بواسطة، وهذه الواسطة مهما تعاظم أمرها وعلا شأنها فلا ترتقي في الاستجابة لما عليه الدعاء)[9]. لكن هذا لا يغنينا عن وساطة الأئمة الأطهار والرسول(ص)، فوساطة الأئمة والرسول ليست مطلوبة بذاته، بل هي اكتسبت ضروريتها بتبع قصورنا ونقص قابلياتنا عن النهل من منبع الفيض مباشرةً، (إذا أراد الله أن يُنزل رحمة فإنه يُنزلها أولًا على القلب المقدس لولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن ثم تجري تلك الرحمة إلى الآخرين)[10]. أخيرًا، عن رسول الله (ص) “يدخل الجنة رجلان، كانا يعملان عملًا واحدًا، فيرى أحدهما صاحبه فوقه، فيقول: يا رب بما أعطيته، وكان عملنا واحد؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني”. ثم قال (ص): “اسألو الله وأجزلوا، فإنه لا يتعاظمه شيء”، وفي هذا تحذير من الحسرة يوم القيامة التي تصيب مُهمل الدعاء، وفي نفس الوقت تشجيع على طي طرق الكمال بالدعاء. بالإضافة إلى هذا، هناك إشارة إلى أن المطالب يجب أن تكون عظيمة “أجزلوا”. قد يتبادر إلى بعض الأذهان إلى أن هذا المطلب يتنافى مع الحديث القائل: “يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه، حتى علف شاتك وملح عجينك”؛ (فهذا تعبير كنائي أكثر من كونه حقيقي، أُريد به الإشارة إلى توطيد الأواصر بين العبد وربه)[11]، وكي يعرف بأنه حتى أسهل الأمور مثل إحضار الملح والعلف لا تتحقق إلّا بإذنٍ منه تبارك وتعالى، وكي لا نتوهم بأن تلك الأمور البسيطة تتحقق بقدرتنا، وبغنىً عن كرمه سبحانه.
إن الدعاء أساسٌ في المنظومة الدينية، فلا بد أن يكون له أُسُس وأركان مدروسة وصحيحة. أول هذه الأركان هي معرفة الله، فمن يجهل المدعو سوف لن يكون دعاؤه له، بل سيكون للوهم الذي في خياله. لذا فجهلنا بالله يسقط الدعاء، والقبول رهن المعرفة، عن رسول الله(ص) “لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال”. ليس المقصود هنا اكتناه ذاته سبحانه، فهذا أمرٌ محال “كلّت الألسن عن غاية صفته، والعقول عن كنه معرفته”، بل علينا أن نعرفه بما أمرنا أن نعرفه به “ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها”؛ أي بصفاته وأسمائه. من ثمار معرفته الاعتقاد بأنه المُعطي والآخذ، والمُحيي والمميت، وأنه لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء. يمكن اعتبار الركن الثاني شعاعًا من الأول، فمن عرف ربه سوف يُحسن الظن به، وسيرضى بحكمه. فهو لن يشترط على الله شيئًا من قبيل ترك واجبٍ أو فعل محرم -عند عدم الاستجابة-، بل سيفعل تكليفه ويدعو ربه، وظنه أن ربه لن يبخل عليه وسيعطيه بحكمته وعلمه بالمصلحة. (فمن كان تسليمًا محضًا يدعو تأدّبًا طاعةً لله لأنه أُمر بالدعاء ولأنه أمرٌ عبادي، فهو مسلمٌ محض وراضٍ لرضا الله سواء أعطاه الله أم لا. فهو لا يدعو إلّا لكون الدعاء عبادة)[12]. عن الإمام الرضا (ع) “أحسن الظن بالله، فإن الله عز وجل يقول: أنا عند حسن ظن عبدي المؤمن بي، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا”. كذلك ثالث ركنٍ يستمد نوره من شمس معرفته سبحانه، فمن استشعر شيئًا من هيبة ربه ولطفه، ستكون ردة فعله الطبيعية هي الانقطاع عمّا سواه. فلا يصح أن يسكن القلب غير الله أثناء الدعاء، وإن لم نتمكن من هذا طيلة الدعاء، فلا بأس بجبر تقصيرنا ببضع لحظاتٍ نتوجه فيها إلى نور وجهه الكريم. أما رابع ركنٍ فمنوط بإرجاع كل كمالٍ منسوبٍ إلينا، إلى العلّة الأولى ومُنبعه ومفيضه، فلا يبقى لنا سوى الفقر، وله الغنى عز وجل، فيصدق عندها مفهوم التواضع للمتكبر. يجب على العبد أن يقدم لسيده هدية يفقدها هو، فكيف يقدم الإنسان هدية إلى الله، وكل كمالٍ عنده فهو من ربه، (نقول بأن العبد إذا تشرف بخدمة مولاه، لا ينبغي له إلا تقديم المسكنة والضعف والعجز والبكاء والابتهال والتضرع. وحري بالعبد إذا مثل أمام ربه سبحانه أن يقول: لا أملك سوى العبودية فإن إظهار العجز والإفصاح عن الفقر كمال بذاته)[13]. كذلك على الداعي أن لا يغفل وأن يعلم بأن دعاءه بلا سعي سيكون ناقصًا فهو لن يكون صادقًا إذا لم يقرنه بالعمل. فعن رسول الله (ص) “مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر”. وهذا كان الركن الأخير.
إن التشرف في محضر البارئ سبحانه لشرف عظيم لنا، ففي محضره علينا التمسك بآداب نلتزم حدودها، فإذا حضر أحدنا بين يدي الإمام الخامنئي -مثلًا- فلا بد أن يلتزم الهدوء وما إلى هنالك من الآداب، فكيف بنا ونحن بمحضر رب الأرباب. إن للدعاء آداب شكلية عديدة، منها البدء بالحمد والتعظيم وذكر الذنوب “إنما هي المدحة، ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة”. مضافًا إليه، النجوى في الدعاء أفضل من النداء، فالنداء يُستخدم مع البعيد، أما النجوى تختص بالقريب، ومن أقرب من الله تعالى ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[14]. أيضًا فلمضمون الدعاء آداب، فلا يجب أن يكون الدعاء مخالفًا للشرع أو مخالفًا للسنن الكونية مثل الخلود في الدنيا، وأن لا يكون الدعاء للخلاص من بليّة أوقع نفسه فيها، ولم يتب بعد من ذنبه. كذلك فلا يصح أن ينبع الطلب من الحسد، بل الحُسن في أن ينبع السؤال من الغبطة، فالأولى تعني أن المطلوب زوال النعمة من يد الآخر والحصول عليها، أمّا الثانية فهي طلب النعمة دون طلب زوالها من الآخر. وهذا أمر ممدوح، فهو مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾[15]. تجدر الإشارة أيضًا إلى أن للبدء بالبسملة فضلٌ عظيمٌ، وتركها خسارة، فعن رسول الرحمة (ص) “كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر”. كذلك فاللبدء بالصلاة على محمد وآله والختم بها أثرٌ عظيم، عن الإمام جعفر الباقر(ع) “من كانت له إلى الله عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثم يسأله حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد، فإن الله عز وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط؛ إذ كانت الصلاة على محمد وآل محمد لا تُحجب عنه”. أخيرًا فقد وردت عدّة روايات تشير إلى أهمية التأمين في نهاية الدعاء، أي القول “آمين” أي استجب. عن الإمام جعفر الصادق(ع) “كان أبي إذا حزنه أمر، جمع النساء والصبيان، ثم دعا وأمنوا”، وعنه أنه قال: “الداعي والمؤمّن شريكان”.
الاضطرار مخ الدعاء، فالدعاء الصحيح لا بد أن ينبع من الاضطرار. وكما علمنا سابقًا، فالدعاء ضرورةٌ في الرخاء والشدة، هنا يمكن أن يطرأ سؤالٌ على الذهن، نتيجة العجز عن إيجاد المناسبة بين الرخاء والاضطرار. لدفع هذا الالتباس نقول وكما أشرنا سابقًا فاللاضطرار صورتان، إحداهما اختيارية والأخرى غريزية. أما الاضطرارية الغريزية فهي ناتجة عن تقطع الأسباب المادية، فيحصل اليأس من النجاة، فيتعلق الإنسان غريزيًّا بخالقه لأجل خلاصه. فهذه الصورة ونظرًا لاتصافها بالغريزية ولا علاقة لها باختيارنا، فهي لا تساهم بشيء في اكتساب الكمالات الإنسانية. أما الاضطرارية الاختيارية، فثمرةٌ لكلماتٍ على لوح القلب خطّها قلم العقل بعد أن أدرك بأنه لا مؤثّر في الوجود سوى مبدئه. وهذا الاضطرار معراجٌ للسالكين يعرج بهم للفناء في معشوقهم، كما تفنى القطرة في البحر. فيصير الإنسان مصداقًا لقول أمير الكلام (ع): “ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده”، عندها ييأس الإنسان من الأسباب المادية، لأنه قد علم بأن أمرها بيد مُبدعها، وأنها ليست سوى مجارٍ لفيض نوره.
يجدر بنا، بناءً على ما تقدم، واقتداءً بسيرة أئمتنا الأطهار(ع) والأنبياء الصالحين(ع) بأن لا نتوجه في طلبنا إلّا إلى الله تعالى. وكما قال الإمام السجاد(ع): “ويحك أفي حرم الله أسأل غير الله عز وجل”. قد يبدو هذا مطلبًا غريبًا للوهلة الأولى، لكنه حقيقة وليس بأمرٍ غريب، بل هو سهلٌ وحلو المذاق لمن كانت نفسه عزيزة. إن أوضح مصداقٍ لهذا المطلب هو تأدية التكليف، فمن كان كل همه وعمله في دنياه تأدية تكليفه، سوف يكون كل عمله بغية مرضاة الله، فإذا استعان بغير الله -من ماديات وبشر- بصفتها مجارٍ لفيضه تعالى فلا محظور، بل سيكون عمله هذا في الحقيقة تابعًا لطلب وجه ربه الكريم، والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة هود، الآية 119.
[2] سورة الملك، الآية 2.
[3] سورة الذاريات، الآية 56.
[4] سورة الفرقان، الآية 77.
[5] كمال الحيدري، الدعاء إشراقاته ومعطياته، الصفحة 26.
[6] سورة النمل، الآية 62.
[7] سورة غافر، الآية 60.
[8] سورة آل عمران، الآية 38.
[9] الدعاء إشراقاته ومعطياته، مصدر سابق، الصفحة 36.
[10] محمد تقي مصباح، ذكر الله، الصفحة 37.
[11] الدعاء إشراقاته ومعطياته، مصدر سابق، الصفحة 38.
[12] عبد الله جوادي، حكمة العبادات، الصفحة 190.
[13] المصدر نفسه، الصفحة 188.
[14] سورة الأنفال، الآية 24.
[15] سورة المطففين، الآية 26.
المقالات المرتبطة
باعث الفكر الإسلامي في القرن العشرين*
عند الحديث عن باعث الفكر الإسلامي في القرن العشرين، فنحن نعني به المرجع آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض).
التأويل المعرفيّ الأخلاقيّ للعبادات: نموذج القاضي القمي
شغل التراث المرتبط بالعبادات أو الفروع الشرعية حيزًا مهمًا من اهتمام المسلمين، وحاز على القدر الأكبر من جهدهم المعرفي، واحتل
نحو ثورية أصيلة في إعلامنا الثقافي
الدعوة إلى سبيل الله سبحانه، وظيفة الأنبياء والأولياء والصالحين والرساليين، وقد وضعت الآية القرآنية ثلاثي القيم التي ينبغي التقيد بها أثناء التبليغ، كما رسم المقصد لهذه الدعوة، وهو الوصول إلى حالة الود والتآلف مع البيئة المحيطة بأهل الدعاة والمبلغين.