الخطّ العربيّ الإسلاميّ، فنٌ في طريق الزّوال
سأعود إلى هناك، إلى حيث أشرقت الشمس، وإلى تلك الحقبة التي قيل فيها الكثير، وقيل إنّها “شمس العرب تسطع على الغرب”[1]، وقد وضع العلماء والفلاسفة والمفكرون والمخترعون العرب، ومن غير العرب ممن عاش في ديارهم أسس الحضارة الإنسانيّة، ومنهم على سبيل المثال، ابن سينا، والخوارزمي، وابن الهيثم، وعباس بن فرناس، وابن الحوقل وغيرهم الكثير.
إذ لم يكن يكتفي الواحد منهم بعلم محدّد، فكان واحدهم يجمع بين الأدب، والطبّ وعلم الحِيَل( الكيمياء)، والميكانيك (الفيزياء)، والفلك ….. هناك كانت النهضة الثقافية في ذروتها، إذ ترجم بعض الأدباء العديد من الكتب، وأغنوا المكتبة العربيّة بالنّفيس والثمين منها، وقد قصدت الحقبة العباسية.
تعددت الفنون عندهم وتنوعت؛ فمن فنّ العمارة إلى فنّ الرّسم، وصولًا إلى فنّ الزّخرفة والخطّ، وقد كان لقبيلة قريش “النصيب الأوفر من هؤلاء الكتّاب، لأنّهم أهل تجارة، والكتابة ضرورية للتاجر”[2]، ولا ننسى في هذا السّياق أن الكتابة في تلك الحقبة تمثلت بكتابة “العهود والمواثيق والأحلاف، وكتابة الصكوك والحقوق والحسابات التّجاريّة، وكتابة الرّسائل وما كان معروفًا بمكاتبات الرّقيق، أيّ سند ملكيّة الرّقيق” [3]. وكتبوا كلّ علومهم باللغة العربيّة، وبخط جميل ومتقن.
الخط لغةً.
جاء في لسان العرب لابن منظور مادة “خطط”: الخطّ الطّريقة المستطيلة في الشّيء، والجمع: الخطوط، وخطّ القلم: أيّ كتب- وخطّ الشيء يخطّه خطًّا- أي كتبه بقلم أو بغيره. وقد ورد ذكر القلم في القرآن الكريم، في غير سورة ومنها: ﴿ إقرأ باسم ربك الّذي خلق* ….* إقرأ وربُّك الأكرم* الّذي علّم بالقلم* علم الإنسان ما لا يعلم﴾[4]، ﴿ن والقلم وما يسطرون﴾[5]، وهنا تتأكد لنا أهمّية القلم والعلم للإنسان؛ إذ فيهما يسمو إلى الحضارة والتمدن.
الخطّ اصطلاحًا.
تعددت تعاريف الخط، ومن أشهرها وأكثرها إيجازًا وشمولًا “الخط هندسة روحيّة تحدثها آلة مادّيّة”[6]، وللخط بشكل عام صفات ثلاث عمل الخطاطون على الالتزام بها، وهي: وضوح قراءته وفهمه، سهولة كتابته، وجمال منظره.
اهتمّ “الفرس بالخط خاصة في أوائل القرن الثالث الهجري”[7]، إذ قويت شوكتهم في الدّولة العباسية في بلاد فارس والعراق، وقد برعوا في “خط التعليق” الّذي لا يزال سائدًا عندهم حتى اليوم، فأخذوا يزخرفونه، ويحسنونه إذ “تمتاز حروفه بدقتها وامتدادها، وقد سُمِّي بالتعليق لأنّ حروفه معلقة بين النّسخ والثلث، أيّ يجمع بينهما”[8]، وتابع الخط العربي الإسلاميّ تطوره كما كلّ الفنون الأخرى، واستمر في “تاريخ الفنّ الإسلاميّ تيّارًا له شخصيته المعبّرة عن كلّ عصر، فكان كالكائن الحيّ ينمو ويتفرّع ويتجدد باستمرار”[9]، وفي العصر الحديث “ارتقى فنّ الخط مكانة الصدارة في الفنون الإسلاميّة، وحظي الخطاطون بتقدير واهتمام كبيرين”[10]، ولا سيما في المجتمع العثمانيّ، فقد أقبل العثمانيون على تجويد الخط حتى جعلوا من كلّ حرف من حروفه عملًا فنّيًّا خالصًا.
بناءً لما تقدّم يمكن القول: إنّ الخط العربي تميّز ” كفنٍّ بالأصالة، ذلك أنّه قد نبع من روح عربيّة صرفة، وتطور محتفظًا بخصائصه العربيّة بمنأى عن التأثيرات الأجنبية”[11]، وقد ترك الخط العربي أثره في فنّ النحت، إذ زخرت به المنتوجات بأنواعها كافة، كما كان له دوره في فنّ العمارة الإسلاميّة، “حتى أنّها صارت حقلًا مناسبًا لدراسة الخط العربي وتطوره وأنواعه المختلفة”[12]، إلى أن وصل في هذه المرحلة إلى اثنين وثمانين نوعًا، اندثر بعضها، واستمرّ بعضها الآخر بالنّمو والتطور. فمن الكوفيّ، إلى المحقق والرّيحانيّ، فخطّ الطّومار، والتعليق والثلث والنسخ، والرّقع والكوفي، إلى غيرها الكثير مما لا تسمح هذه العجالة بتناوله، وسأكتفي بالإطلالة على الأنواع الأربع الأخيرة بشكل موجز لأبيّن قواعد كتابة الخط وأصوله، وأوضح من خلالها اهتمام العرب بهذا النوع من الفنون بشكل هندسيّ أدبيّ لا مثيل له.
أولًا: قلم الثلث: ويذكر القلقشندي[13] أنّ قلم الثلث نوعان:
- قلم الثلث الثّقيل: وهو المقدّرة مساحته بثماني شعرات، وتكن منتصباته ومبسوطاته قدر سبع نقط على ما في قلمه.
- قلم الثلث الخفيف: يُكتب به قطع النّصف، وهو صورة تشبه الثلث الثقيل، إلا أنّها أدقُّ منها قليلًا وألطَفُ، وتكون مقدار منتصباته ومبسوطاته خمس نقاط. و”برع الخطاطون في هذا النوع في العصر العباسي، وأبدعوا في كتابته، وجوّدوا وأضافوا عليه بعض التشكيلات والحليات الجميلة”[14].
ثانيًّا: خط النّسخ.
تكاد تكون المعلومات عن هذا النّوع من الخطوط قليلة، فقد عُرف بعد ابن مُقلة، وقيل قبله. ولفظ “النسخ” قديم جدًّا، عُرف زمن المأمون باسم “خطّ النّساخ”. وقد تطور بالتزامن مع الخطوط الأخرى، أيّ في القرنين الثالث والرابع الهجرييين، وأكثر استخداماته في كتابة القرآن الكريم، ويُعدُّ من العناصر المهمّة في زخرفة التّحف المعدنيّة، والخشبيّة والجصّيّة وغيرها من المنتوجات الإسلاميّة.
ثالثًا: خط الرّقعة.
تعني الرّقعة في اللغة “الخرقة” التي يُرقع فيها الثّوب، وجمعها الرّقع، والرُّقاع. يعدّ هذا الخطّ من أبسط أنواع الخطوط، وأقلّها تقييًّدا، “فلا يوجد فيه الكثير من التّحسينات الشكليّة والتزيينات، ولا الكثير من الميلان والتدوير”[15]. انتشر بشكل كبير مع انتشار الصحافة، فكُتِبت به العناوين الرئيسة والأساسية للأخبار، له قواعده وقوانينه، وأصوله كما لباقي الخطوط الأخرى، واستُعمِل في دواوين الدّولة العباسيّة. هو من الخطوط المتينة والواضحة والسّهلة في الكتابة، وما ثبت تاريخّيًا وفنّيًّا أنّه خطّ عثماني إذ “قام العثمانيون باستخدامه في القرن التّاسع الهجريّ حتى الحاديّ عشر، ثم أصبح أكثر بروزًا ووضوحًّا في القرن الثانيّ وأوائل القرن الثالث”[16].
رابعًا: الخطّ الكوفيّ.
سُميّ بهذا الاسم نسبة إلى ما كان يألفه العرب في تسمية الخطوط التي انتهت إليهم بأسماء المدن التي جاءت منها، كانوا يعتنون به اعتناءً عظيمًا، ووصل في العصر العباسيّ إلى مكانة عالية نتيجة اهتمامهم به وإبداعهم في تحميل رسمه وشكله، وهو “يمثّل مظهرًا من مظاهر جمال الفنون العربيّة، وقد تسابق الكتّاب في تطويره والتفنن في زخرفة حروفه، لأنّ الفنان وجد فيه المرونة والمطاوعة ليتماشى من شكل جميل إلى شكل أجمل”[17]. وإذا ما أردنا التوسّع في الحديث عن هذا الفنّ فإنّنا نحتاج إلى الكثير الكثير من الكتب، لأنّه فنّ أبدع فيه الخطاطون لوحاتهم، ورسوماتهم الجميلة، التي لا تزال إلى اليوم شاهدة في المتاحف والقصور والكتب على عظمته وأهمّيته.
ما تقدّم الحديث به غيض من فيض في فنّ الخط العربي، الذي جعل القرائح الشّعريّة تبدع أجمل القصائد في التّغني بجماله، ومنها ما جاء على لسان الشّاعر والرّحالة “أبو الحسن علي بن أبي الرّجَال” وهو يمدح كاتبًا للخط فيقول:
إذا مَشَقتْ يُمناكَ في الطّرسِ أسطرًا | حَكيْتَ بها وشيَ المُلاء المعضدِ |
يروقُ مُجيدُ الخطِ حُسْن حروفها | ويعجب منها بالمقالِ المُسدَّدِ |
هذا ما كان زمن النّهضة العربيّة الإسلاميّة، أمّا مع عصر الانحطاط تراجع دور العرب في المستويات كافة، وباتوا يتغنون بأمجاد أسلافهم، وكأنهم أدّوا دورهم للعلا، وما عاد يعنيهم شيئًا لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الاقتصادي، ولا حتى على المستوى الثقافيّ، وصاروا اليوم أمّة مقلّدة، تتبع الغرب من غير تمحيص، هي ببغاء يتكلم ولا يفقه شيئًا.
وما هو حاصل في الأمة كلّها ينسحب على الفنون، فما عاد لها رونقها، وخصوصًا فنّ الخط الذي حلّ محلّه الحاسوب، حتى أن ّالكثير من أدبائنا ومثقفينا ما عادوا يحملون قلمًا ليكتبوا به أفكارهم على أوراق يصدّرونها للعالم كما فعلوا سابقًا، وقد خانتهم أصابعهم، وما عادت عضلات أصابعهم تسعفهم في الكتابة.
إذًا؛ الخط العربي فنٌّ في طريق الزوال، فَقَد رونقه وما عاد فيه مكان للإبداع والتطوير، وهو إلى الوراء سر. أو تسألون بعد كلّ هذا عن الفنّ الإسلامي؟!
[1] زغريد هونكيه، المستشرقة الإلمانيّة.
[2] يحى وهيب الجبوري، الخط والكتابة في الحضارة العربيّة، (بيروت- لبنان: دار الغرب الإسلامي، الطبعة 1، 1994)، الصفحة 40.
[3] ناصر الدّين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التّاريخيّة، (مصر: دار المعارف، 1956)، الصفحة 73.
[4] سورة العلق، الآيات 1و3و4و5.
[5] سورة القلم، الآية 1.
[6] ابن النّديم، أبو الفرج محمد بن اسحاق بن يعقوب، الفهرست، (بيروت- لبنان: دار المعرفة، 1978م)، الجزء1، الصفحة 15.
[7] أحمد عبيد، الخطّ العربيّ ذروة الجمال، وقمّة الإبداع، مجلة حرّاء استنبول، تركيا، العدد7 ، 2007 م.
[8] المصدر نفسه.
[9] المصدر نفسه.
[10] وليد سيد حسنين محمد، فنّ الخط العربيّ المدرسة العثمانية، (الهيئة المصريّة العامة، لا .ط، 2015، الصفحة 90.
[11] محمود حمودة، تطور الكتابة العربيّة دراسة لأنواع الخطوط ومجالات استخدامها، (دار نهضة الشرق جامعة القاهرة، الطبعة 1، 2000)، الصفحة 292.
[12] المصدر نفسه، الصفحة 306.
[13] صبح الأعشى، الجزء 1.
[14] ثقافة الخطّ العربيّ، https://www.baianat.com/ زرته يوم الأربعاء في 24-2-2021، الساعة الثانيّة بعد الظهر.
[15] المصدر نفسه.
[16] المصدر نفسه.
[17] ثقافة الخطّ العربيّ، https://www.baianat.com/، مصدر سابق.
المقالات المرتبطة
الحراك العربيّ صحوة بناء الدولة
لن نختصم في تحديد تسمية للحراك العربيّ الأخير. هل هو ربيع عربيّ، أم ثورة عربيّة، أم صحوة إسلاميّة، أم نهضة شعبيّة؟…
أفريقيا بين سراب التنمية المستحيلة وزيف الديمقراطية والحوكمة الرشيدة
منذ ما اصطلح على تسميته بالاستقلال في بداية الستينات من القرن الماضي لا زالت تعاني بلدان أفريقيا
فلاسفةٌ مَنْسِيون الشيخ عبد الكريم الزنجاني
عُرف عن الأمم شدة تعلقها برجالاتها وأفذاذها، وقد تبالغ أحيانًا في تكريمهم إلى درجة تفوق المستوى الطبيعي للتكريم والمستوى الواقعي لهم!