دور المرأة في حفظ الأمن المجتمعي
لا شكّ أن أبرز التحديّات التي تواجه أي مجتمع من المجتمعات هو تحدّي الأمن الاجتماعي بمكوّناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ إذ إنه يشكّل ضمانًا لاستمرار الدولة والأفراد، وليس لوقت آني إنما يؤسّس لأجيال قادمة.
الأمن لغةً: أَمُن يأمن ، أمانًا فهو آمن.
أَمُنَ الرجل: وفى ولم يخن.
أمْن: هو آمن في سكينة.
أمنَ البلد: اطمأن أهلها.
أمان: اطمئنان من بعد خوف[1].
الأمن اصطلاحًا: ما يوفّر الحماية والأمن.
مفهوم الأمن هو الشعور بالطمأنينة وإشاعة الثقة والمحبة بين الناس، وعدم الخيانة والقضاء على الفساد، وإزالة كل ما يهدّد استقرار الفرد والمجتمع وتلبية مطالبهم الجسدية والنفسية لضمان قدرتهم على الاستمرار في الحياة بسلام وأمان.
مع أن المفهوم العام للأمن الاجتماعي هو من مسؤولية الدولة إلّا أنه في حقيقة الأمر مسؤولية اجتماعية تبدأ من مسؤولية الفرد اتجاه نفسه، ثم أسرته ومحيطه، ولاحقًا مجتمعه. وتلعب القيم دورًا محوريًّا في الحفاظ على الأمن بحيث يصبح عامل استقرار.
ومعلوم أن لكل دولة مجموعة من القوانين تحت مسمّى الدستور، ويهدف إلى تنظيم حياة الشعب من أفراد ومؤسسات، لكن تطبيق العدالة قد لا يتحقّق ضمن تطبيق القانون شكليًّا حيث إن العدالة أشمل من القانون.
قال رسول لله (ص): من أصبح منكم آمنًا، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنّما جيزت له الدنيا بحذافيرها[2].
جاء الإسلام بأفضل نظام اجتماعي اقتصادي وسياسي لاستقرار المجتمع وحمايته، وأول عامل يؤمن الاستقرار للمجتمع هو مبدأ الثواب والعقاب، حيث يسود المجتمع الأمن والاستقرار والطمأنينة مما يشجع على التعاون بين أفراده اقتصاديًّا واجتماعيًّا ينتج عنه تكافلًا اجتماعيًّا، وبث روح الأخوة والمواطنة والتسامح، ورفع مستوى العلم والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ظل دولة محترمة تهتم وترعى المواطن تحت قضاء عادل ينعم فيه المواطن بالأمن والاستقرار، وبتحقيق التوازن في العمل، والتوازن في العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع وطبقاته، والحدّ من ارتكاب الجريمة.
ونظرًا لما يشكّله الأمن الاجتماعي من تحدٍّ حقيقي لواقعنا الراهن فإنه بذلك يحتّم علينا إيجاد السبل والوسائل الصحيحة لمحاكاة ما قد ينتج عن سوء أو عدم تطبيقه في هذه التحولات التي يشهدها العالم الإسلامي بشكل خاص والعالم ككل، ويأتي على رأس هذه الوسائل ضرورة تشكيل لجنة أو هيئة، أو تحت أي اسم آخر، وتتألف هذه الهيئة من مجموعة من الإخصائين النفسانيين والتربويين، ومن أجهزة أمنية، وعلماء دين، وعلماء اجتماع، ومما تفرضه الضرورة لكل بلد وحسب نظامه، وتعنى هذه اللجنة أو الهيئة بمتابعة الحاجات الأساسية للمجتمع المعني ووضع الخطط ومتابعة تنفيذها لتحقيق ولو بالحدّ الممكن من الأمن الاجتماعي، مما يفرز ويساهم في الوصول إلى مجتمع آمن ومستقر.
الإعلام.
من أبرز التحدّيات وأخطرها والتي تواجه أمننا الاجتماعي في هذا العصر هو التحدي الإعلامي، وعلى رأسه الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ومن لا يعرف أهمية الإعلام وتأثيره على الشعوب؟ لذا علينا أن نلتفت إلى هذا الجانب. وكما أصبح معروف أننا نعيش في هذا العصر مرحلة انفتاح عالمي وثورة معلوماتية وبتقنيات حديثة، وأن هذا الانفتاح قرّب المسافات ما بين الأمم حتى أصبح العالم عبارة عن قرية كونية، وكل ذلك بفضل هذا الاختراع العلمي. سابقًا كانت الوسائل الإعلامية عبارة عن صحف ومجلّات وإذاعة، وكان التلفزيون الأكثر ارتباطًا، ولكن على رغم بعض المخاطر التي كانت تشكلها هذه الوسائل على المجتمع، والاستفادة منها لترويج الأفكار عبر المسلسلات والأفلام الغريبة عن بيئتنا، أو الترويج للبضائع الغربية وأنواع الزينة والتبرج، وقلما كنا نشاهد برامج دينية أو ثقافية وغيرها والتي لم يعد لها مكان إنّما حلّ محلها برامج اللهو والألعاب أو الطرب والفساد، إلا أنها تحت السيطرة من قبل الدولة أو حتى الأسرة وذلك بالرقابة على أعمالها أو بقطع بث أي قناة ضارة… فيما نجد أعمال الرقابة على الإنترنت أصعب وتحتاج تقنيات وسائل مختلفة.
نعم لا شك فيه أن للإنترنت ووسائل التواصل الأخرى العديد من الحسنات ومنها اكتساب المعلومات العامة والاطلاع على آخر الاختراعات الطبية والعلمية والاكتشافات الجديدة، والاطلاع على ثقافات البلدان الأخرى وغيرها الكثير من المعلومات المهمة والمثقفة. والله يقول: ﴿سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[3].
لكن لا شك أن سيئاته طغت على حسناته خاصة في بلاد المسلمين، وذلك لسوء استعماله والاستفادة منه كنوع من أنواع العلم، مما أدّى إلى خطر حقيقي على شبابنا وشاباتنا الذين هم عماد الأمّة ومستقبلها. فلا عجب أن يتم استهداف هذه الشريحة، لذا وجهت إليهم السهام عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، والذي يدسّون فيه السم بالعسل إلى حد أن أصبح مصدرًا لهدر القيم، وبسببه ضاع الكثير من الشباب والفتيات وأحيانًا آباء وأمّهات ووجدوا فيه وسيلة للهروب من المشاكل اليومية وسبب الفراغ العاطفي عند البعض، أو فراغ الوقت فذهبوا إلى حدّ الانحراف وأصبح خطره أشدّ من خطر الحروب. ففي الحروب التقليدية حيث العدو ظاهر ومعروف، بينما خطر الإنترنت يكمن بأنه عدو خفي، وتحول إلى ساحة معركة لاستهداف أجيالنا وقتل الأخلاق. وللأسف استطاعت هذه الشبكة إفساد المجتمع أو بعضه بوقت قصير إلا ما رحمَ ربّي، وسابقًا كان العدو يجبرنا وبقوة السلاح على الإذعان له، ويتحكم بقدراتنا ومقدراتنا، بينما الآن أصبحنا نفعل ما يريدون وبإرادتنا (والكلام عن مجموع الأمّة وليس مجتمع بحدّ ذاته)، فاستغلوا علومهم وتقنياتهم في سبيل انحراف أمّتنا عن مبادئها الأساسية، ونحن أمّة وللأسف لم نستفد من العلوم والتطور بما يكفي لاكتشاف ما يوازي تلك العلوم لمحاربتها اللهمّ إلّا من بعض المحاولات الخجولة، حتّى أنّهم جنّدوا العملاء بواسطة هذه الشبكات.
أما الظلم الأكبر فقد وقع على المجتمع أولًا، فكم من أُسر دُمّرت وتفكّكت بسبب هذه الشبكات، وأدّت إلى مئات بل آلاف حالات الطلاق والانفصال وما أسفر عنها من ضياع للأولاد، وكذلك من تشويه لسمعة ولصورة آلاف الشباب والبنات وابتزاز أخلاقي وما ينتج عنه، وغيرها من الأمور التي لا تمت إلى واقعنا بصلة، فقد أصبحت وسائل الانحراف والبرامج المفسدة تدخل بيوتنا دون حسيب أو رقيب. فقد وفّر هذا التطور ومن يقف وراءه ما لم يستطيعونه على أرض الواقع، فهو وبتوفيره لسريّة المعلومات وتأمين وسائل التعارف والانفتاح، ووجوده في أيدي العوام وفي كل مكان حتى ذلك القروي في آخر قرية من البلاد والذي ولد وتربّى على القيم والفطرة قد تمّ استهدافه. وتدريجيًّا بدأ الإدمان على الإنترنت يظهر وللأسباب التي ذكرناها سابقًا، أضف إليها الصراعات والحروب التي طالت بلادنا الإسلامية وما أدّت إليه من خلل نفسي وسلوكي واقتصادي كبير، فأصبح الإنترنت وسيلة للهروب من الواقع، وبدأت علامات الإدمان عليه تظهر أولًا في إهمال الواجبات الأسرية والدينية، وعدم الشعور بالوقت، ومن ثمّ التخلّي التدريجي عن المعتقدات.
لذا، فإن المسؤولية تتضاعف على الجميع من دولة وجامعة ومدرسة وأسرة وفرد، والمسؤولية الأهم تقع على المؤسسات الدينية لجهة التوعية والإرشاد.
فكيف السبيل لحفظ أمننا الاجتماعي من هذا الخطر، وهل يمكننا فعل ذلك؟ الجواب نعم يمكننا، وهذا يستلزم النيّة والإصرار والتحدي ولو على المستوى الفردي بداية. ثم ننطلق لمحاربته في العلم لاحقًا… وعلى سبيل المثال لا الحصر، لنبدأ بالأمور البسيطة لنحاول أن نعيش يومنا بأدّق تفاصيله، لنتمتع بالمناظر الطبيعية بالعين بدل الشاشة، لنقرأ كتابًا، هذه المتعة التي فقدناها وللأسف، ليكون ختام يومنا قراءة سورة من القرآن الكريم وصلاة ركعتين أو دعاء، لنفكر بغدنا ومستقبلنا، لنتخلى عن عادة التعلّق بالإنترنت والهاتف الجوال والتي تستهلك وقتنا الثمين، لنجلس مع أسرتنا وعائلتنا أكثر، ونصل أرحامنا، ونزور المرضى، ونهتم بدروسنا وأعمالنا، لنعود إلى خالقنا ونقوم بواجباتنا، ولنؤدي صلاتنا في أوقاتها، وغيرها الكثير الكثير الذي يمكن أن يعود علينا بالفائدة، ولنسأل أنفسنا هل نحن من الممهدون لدولة صاحب العصر والزمان؟ هل أعددنا أنفسنا لنصرته؟ عن الرسول (ص) في وصيته لأبي ذر (رض): اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك[4].
ولا يعفى الأهل من تحمّل مسؤولياتهم لجهة التوعية ومراقبة حسابات أولادهم الشخصية على هذه المواقع.
أما وقد ذكرنا أحد مساوئ الإعلام وتأثيرها على المجتمع وبالأخص الإعلام المعادي، فلا بد أن نأتي على ذكر الإعلام الملتزم القائم على القيم والأخلاق، والثائر بوجه الظلم وتبيان الحقّ، وهنا نستحضر الدور الإعلامي الرائد الذي قامت به عقيلة بني هاشم السيدة زينب (ع) في كربلاء وما تبعها من أحداث، ولعلّ أجمل وأهم ما قام به الإمام الحسين (ع) في ثورته هو حمله العقيلة وسائر المخدّرات معه، وهو كان يعلم ما سيجري وما سيقمن به من دور مشرّف في إكمال النهضة، وإيضاح أهدافها، وفعلًا فقد قامت بإيقاظ المجتمع من سباته، وأسقطت هيبة الحاكم الأموي، وفتحت باب الثورة عليه، وزعزعت أركان دولته. هي زينب (ع) ومع حزنها الشديد ولوعتها ورعايتها للأيتام والثكالى واحتضانها للإمام زين العابدين (ع) وفي الواقع، إن كل عنوان من هذه العناوين يحتاج إلى مجلّدات للتعبير عن بطولاتها وصبرها وتسليمها لقضاء الله.
فقد خطبت (ع) خطبتها التي كانت من متمّمات النهضة الحسينية، والتي عدّت من أهم الخطب الثورية في الإسلام، فقد دمّرت فيها جبروت يزيد وأعوانه، وألحقت بهم العار. والخطاب جمع الفصاحة والبلاغة والمعاني الحماسية، وقوة الحجّة، والدفاع عن الحق والحقيقة وسبيل الحرية. فقد أفشلت مخطّطاتهم وأبطلت وسائل إعلامهم، وأبرزت هويتهم الملوّثة بالجرائم ودلّلت على خيانتهم، والأهم من ذلك أنها سلّطت الضوء على مخططهم السياسي وجرّدته من مقوّمات الشرعية.
من هنا وبعد أن أخذنا لمحة عن أهمية الإعلام المقاوم للظلم، وأهميته في إظهار الحق، ومن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحمد لله أنه لدينا عدد لا بأس به من وسائل الإعلام الملتزمة دينيًّا وأخلاقيًّا، وتعتبر في الصفوف المتقدمة لمعسكرات الحق ضدّ الباطل، فعلى كل من لديها قلم مقاوم للظلم وللاحتلال أن تقوم بالكتابة والبحوث، وكتابة الشعر وتظهر للعالم حقيقة إسلامنا ومبادئنا، وعلى الجهات المعنية دعمها وتقديم كل عون ومساعدة لها.
وإلى جانب الكتابة إقامة الندوات والمحاضرات على أن لا تُقتصر هذه الندوات على الطبقة المثقفة فقط، وكما يحصل في أغلب الأحيان، بل على جميع أطياف المجتمع، وعلى التلفزيون والإذاعة والمسارح تقديم البرامج التوعوية بقوالب مخفّفة ومفهومة للعوام، وأن تكون من صلب الواقع ومن معاناة الناس. وعلينا تقديم شتّى الفنون التي تساهم في نشر الوعي.
وقبل كل ذلك، يجب البحث عن حاجات شبابنا وشاباتنا لتلبية مطالبهم، وخاصة وكما ذكرت بعد تعرّض بلادنا للعديد من الحروب والصراعات والتي كانت تستهدف العقيدة قبل الحجر والبشر، والتي تركت آثارًا سلبية على كافة الأصعدة، وأهمها الآثار النفسية والاجتماعية إلى جانب الاقتصادية، وأيضًا الآثار الثقافية وعلى كافة شرائح المجتمع، وخاصة جيل الشباب والأطفال، مما يحتم إيجاد الوسائل والبدائل لاسترجاعهم من عوالمهم الوهمية المتمثّلة بمواقع التواصل الاجتماعي، وتأمين الحماية اللازمة لهم على سبيل المثال إنشاء النوادي الرياضية والثقافية، والمكتبات العامة بشقّيها الورقي والإلكتروني، ومقاهي الإنترنت الملتزمة والتشجيع على العمل التطوّعي من زراعة الأشجار والحدائق، وتنظيف الأماكن العامة، والتحلّي بروح المبادرة، وإعطاء المحفّزات لهكذا نشاطات، إقامة الرحلات وتبادل الزيارات ما بين بلادنا الإسلامية، وإتاحة الفرصة للسفر والتعرف على حضارات وثقافات مختلفة وزيارة الأماكن المقدّسة. إيجاد أصدقاء مشتركين معروفين بوعيهم الديني، بدل أصدقاء مواقع التواصل غير المعروفي الانتماء، وغيرها الكثير الكثير من الأفكار التي تحقق الهدف المنشود.
ومن الأهمية بمكان أن يشعر كل فرد وكل شاب أو شابة أنه كائن له أهميته وحضوره وتأثيره في المجتمع. وبالتوكل على الله نبدأ بإعداد الخطط الجديّة والبرامج التوعوية مما يساهم في حفظ أمننا الاجتماعي على أن تكون خططًا بعيدة المدى مع التأكيد على الاستمرارية.
العلم.
مما لا شكّ فيه أن مستقبل أية دولة وأي نظام وأي شعب من الشعوب هو بيد الطبقة المثقفة والمتعلّمة، وأول ما يتبادر إلى أذهاننا هو كيفية تأمين الأمن الاجتماعي لجهة التقدم العلمي، وخير ما نبدأ به هو الحديث المبارك “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”[5].
فإذا آمنّا وصدّقنا الحديث “طلب العلم فريضة”، فلماذا نرى الناس المؤمنين بالفرائض الأخرى يؤدّونها بكل جدّ وإخلاص، ويتحملون المشاق، ويبذلون الأموال لأداء فريضة الحج مثلًا، وكذلك يتحمّلون الصوم في البرد والحر، ويعانون من الجوع والعطش، ومع ذلك نجد الصائم في اليوم التالي صائمًا وبكل رضا وطيب خاطر! والجواب وبكل بساطة لأنه يعتبر الصوم والحج فريضة واجبة وهو كذلك.
فماذا لو اعتبرنا طلب العلم فريضة وواجبًا؟ وهو كذلك. وأخرجنا هذا الحديث من مجرد شعار نزين به جدران المدارس إلى حيّز التنفيذ، فهل نتصور حركة العلم والتعلم، ما أوسع المجالات التي ستفتح أمامنا، والإسلام هو من أوجد وخلق النهضة العلمية والثقافية، وحمل لواء التمدّن والإنسانية وهذه النهضة مدينة للأمر الإلهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾[6]، وغيرها من الآيات والأحاديث عن الرسول (ص) وعن أئمتنا (ع) والتي تتحدّث عن العلم وأهميته.
فإذا أردنا الخلاص من الفقر، وإذا أردنا التقدم والرقي اقتصاديًّا واجتماعيًّا وعلميًّا، فلا خلاص لنا إلا بالعلم. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نجد الدول الغربية والدول اللاإسلامية تتقدم علينا بأشواط في العلم والتكنولوجيا والاختراعات والاكتشافات من طبيّة وعلمية وعسكرية وغيرها..؟ والعالم اليوم كله في سباق العلم، فلماذا إذًا لا نبذل الجهد لئلا نتخلّف عن هذا السباق. والعلم اليوم في تطوّر مستمر، فقد مضى زمان لم يكن فيه علم خاص بالصناعة مثلًا، أو في الزراعة والتجارة والسياحة وغيرها من العلوم. فالدنيا تبدّلت وتبدلت معها حاجات المجتمع، ولم يعد بالإمكان إتقان هذه المصالح بغير التحصيل العلمي والدراسة. والإسلام يريدنا مجتمعًا مستقلًّا عزيزًا أو كريمًا يعتمد على نفسه، ولا يجب أن يرانا خاضعين للدول اللاإسلامية وخاصة الجائرة منها والمستكبرة. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾[7]، والإسلام لا يريد أن يرانا نمد يد الاستجداء ونطلب عونًا أو قرضًا أو مساعدة، ولا يريد أن نحمل مرضانا للعلاج خارجًا. إذًا، لم يعد بالإمكان فتح أبواب أي شأن من الحياة إلا بمفتاح العلم. ألا يكفي أن يضع الله أجنحة الملائكة لطالب العلم، وأنزل العديد من الآيات، والعديد العديد من الأحاديث عن الرسول (ص) وأئمتنا (ع) التي تحثّ على طلب العلم، فقد أصبح العلم من أوجب الواجبات، أليس إمامنا المهدي (عج) سيحاجج العالم بالعلوم التي سيأتي بها؟ وسأذكر مثالًا بسيطًا عن واقعنا السابق في لبنان عن الشهيد مطهّري، نقلًا عن سماحة الإمام موسى الصدر أعاده الله سالمًا، فذكر: “إن العلّامة شرف الدين رحمه الله، وبعد أن ألّف كل تلك الكتب القيّمة عن الشيعة والتشيّع فوجدهم أفقر النّاس وأجهلهم، وأكثرهم من الحمّالين والعمال، وأقل الناس شأنًا ليس بينهم طبيب ولا مهندس وإن وجد فبأعداد ضئيلة، فقال في نفسه إذا كانت هذه هي حالتنا فما فائدة كتبي، وسيقول الناس لو كان التشيّع حسنًا ومنجيًا لكان للشيعة حال أفضل، فكان هذا سبب انصرافه إلى النشاطات العلمية، فعمد إلى تأسيس المدارس ومعاهد التعليم والجمعيات الخيرية، حتى استطاع أخيرًا إيجاد نهضة وحركة مقدّسة رفعت مستوى المجتمع الشيعي في لبنان إلى حال أفضل.
وقد جاء في سورة المائدة ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[8].
يعني أن لكل أمّة طريقة ونهجًا، ولو أراد الله لكنتم أمة واحدة لكنّه لم يفعل، فعليكم أن تتسابقوا في عمل الخير، ويبدو من هذه الآية وآيات أخرى أن هناك حكمة في جعل النّاس أممًا مختلفة، ولعل من تلك الحكمة أن تتسابق الناس فيما بينهم في الأعمال العلمية والطبيّة وغيرها، ثم يقول للمسلمين استعدوا واخطوا الخطوات السريعة للفوز في سباق الخير هذا.
إذًا الخطر ليس بالوقوف بوجه الغرب وتقدّمه العلمي فحسب، بل أنه في أخذ المبادرة والعمل بأيدينا لنضع وسام الاستحقاق على صدور من يقوم بهذا الواجب لخدمة أمّته.
فعلى العلماء أن يخطوا خطوة طليعية، ويشجعوا على هذا العمل باعتباره من أوجب الواجبات، فلا يجب أن نجلس مكتوفي الأيدي ونسمع الخطب والمحاضرات التي تؤيد العلم والتي لا أثر لها سوى أنها تفرح قلوبنا.
علينا أن نلتفت إلى أسباب تأخّرنا العلمي، إن لم نقل تخلّفنا في بعض الأماكن عن سباق العلم ونحن خير أمة أخرجت للناس، علّنا نجد العلاج الشافي. فهل العلة في النّاس أم في الأنظمة أم بسبب الحروب والصراعات أم أنها جميعًا مجتمعة؟
فلننظر أولًا إلى حال المجتمع، فالإسلام دين اجتماعي يعترف بشخصية المجتمع بحياته ومماته، بسعادته وشقائه، بصلاحه وفساده، بتقديم مصلحة الجماعة على الفرد بإلغاء الامتيازات الطبقية، إلّا أنه مع كل ذلك لا يغضّ النظر عن حقوق الأفراد وامتيازاتهم المحقّة.
ففي منظور الدين هناك عدد من الأعمال الصالحة التي جاء بها الأنبياء ليحملوا النّاس على التمسك بها، وهناك أعمال سيئة جاؤوا لينذروهم من مغبّة الإتيان بها… ومعلوم أن التعاليم الدينية تنقسم إلى قسمين إيمانية وتشمل الإيمان بالله وبرسله وأوليائه وبالمعاد والثواب والعقاب، وأخلاقية وتشمل التقوى والتعفّف والشكر والعبر وتجنب الظلم والاعتداء، ومنها العملية بعضها ما يتعلق بالعبادات من صوم وصلاة وحج وجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها اجتماعي أخلاقي كالتعاليم فيما يخصّ المعاشرة كالإحسان والبر وصلة الأرحام والصدق وتجنّب الفتنة والقتل والنفاق وغيره…
فلنرى إذا كانت حقوق الناس محفوظة، والمجتمع عادلًا ومتعادلًا ولا يميّز بين النّاس، ولا يوجد حرمان ولا إحساس بالغبن، وكانت الأخلاق حسنة والأعمال الصالحة أكثر شيوعًا، ولا توجد أسباب لارتكاب المعاصي والجرائم في مقابل عدم وجودها!
فما من عاقل يمكنه القول إنّه كلما كان المجتمع مرتبكًا لا تسوده العدالة كلما كان تأثيره سلبي على الناس، والإسلام يرى العدالة في توفير كامل ودائم لظروف التنافس الشريف في منح الأفراد الحقوق والامتيازات خاصة في ميادين العمل والتكليف والفضيلة، كما أنه يقف في وجه تلك الحقوق والامتيازات التي لا تمنح على أساس العمل والاجتهاد، ولا يهمل متعمّدًا المواهب والكفاءات. وثمّة حديث عن الرسول الأكرم (ص): “استو تستوي قلوبكم”. (عن الحارث عن علي (ع)). وإنّ الذي يؤلف بين القلوب هو الإيمان والعقيدة، وأنّ وحدة العقيدة التي أوجدها الرسول كان أهم وأعظم عامل في توحيد الناس تحت لواء لا إله إلا الله، ولكنه بعد أن رسّخها صبّ اهتمامه على إزالة أسباب التباعد وموجبات الحقد والانتقام والتمايز في الحقوق. إذًا يتضح من هنا أهمية العدالة واحترام الحقوق أو عدمه، والأثر الذي يتركه في سلوك الناس إن من حيث شيوع الظلم الاجتماعي في إفساد الأخلاق ككل الأمور التي لها عللها وأسبابها. وإنّ من جملة تلك المؤثرات وبالاضافة إلى إفساد الأخلاق وتسمم روح الإنسان هو الحرمان والشعور بالغبن، فالحسد والحقد والعداء وتمنّي الشرّ للآخرين كلها تُسقى من هذا النبع. فإذا لم يكن المجتمع متجانسًا وموزونًا، وإذا لم تتجانس المؤسسات الاجتماعية والحقوق والقوانين الاجتماعية فيصيب الخلل أي مجتمع مما يولد الصراعات الطبقية، ويزداد الحقد وحبّ الانتقام.
والإسلام ليس كباقي الاتجاهات الوضعية والتي لا عمل لها سوى إسداء النصائح والإرشادات، فالإسلام تدخّل في تركيب البنية الاجتماعية ليؤسّس لمجتمع متّحد موحّد بالفكر والقلب، بحيث يستطيع أن يغيّر وجه التاريخ.
فمن يتحمّل المسؤولية، أهو الشعور باللامسؤولية أم الاستسلام أم اليأس؟ وأيّ مستقبل لأطفالنا ونحن نرى هذا الكم الكبير من عمالة الأطفال في المصانع والمعامل، وفي المهن التي تمارس في الشوارع والتي تفوق قدرة أبدانهم النحيلة؟
وماذا عن المرضى والعجائز والمعوقين واحتياجاتهم الخاصة؟ فمن ينصف هؤلاء الأفراد؟ ومن يؤمن لهم الحماية الاجتماعية ويقوم على حاجاتهم الحقيقية من سكن إلى مؤسسات رعائية ومستشفيات متخصّصة متطورة وغيرها؟
سؤال برسم الجميع ابتداءً من الأنظمة إلى العلماء إلى الحكّام إلى المجتمع، وصولًا إلى الأسرة والفرد، فهل نبقى جالسين ونكتفي إما بالانقياد أو بالانتقاد ولا نحرّك ساكنًا ونلعن الظّلام.
وهناك أسباب أخرى لا يسعني الوقت لذكرها الآن وسأكتفي بذكر موضوع العدالة الاجتماعية كواحد من مجموع عوامل الأمن والاستقرار لارتباطه الوثيق بواقعة الطفّ وأسباب خروج الإمام الحسين (ع): “إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق هو خير الحاكمين”[9]. لم يقل (ع) فمن قبلني لشرفي ومنزلتي في المسلمين وقرابتي من الرسول وما إلى ذلك. إن قبوله يكون بقبول الحقّ فهذا داع من دعاته، وحين يقبل الناس داعي الحقّ فإنّما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحق والخير. وإمامنا المهدي (عج) سيأتي ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا[10].
إذًا، الإمام الحسين (ع) وجد أن عليه أن يثور وأن الحفاظ على الدين يستدعي قيامه، ولم يكن خلافه مع حاكم عصره على مقام الخلافة (كما يدّعي الفريق الآخر أو بعضهم) كموقع ومن أحقّ بها منها، بل كان اختلافًا سياسيًّا، ولو كان أي شخص مكان يزيد في سدّة الحكم وقام بما يقوم به لما توانى الإمام الحسين (ع) عن الثورة عليه، ولو أن الإمام الحسين (ع) لم يثر على يزيد وأعوانه لكان يزيد مدّه بكل عون وأعطاه ما يريد، حاله حال العديد من الحكّام حينما يريدون إخماد أيّ ثورة ضد ظلمهم. لقد كانت ثورة الإمام الحسين (ع) ثورة عقيدة وسلوك، حيث كان الإسلام في خطر، والإيمان في خطر، وقد لخّص الإمام الحسين (ع) ذلك ببضع كلمات، والظاهر أنّه قالها وهو في الطريق إلى كربلاء بالقرب من موقع الحرّ الرياحي حيث قال (ع): “ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً”[11]، ولم يقل ليرغب الحسين أو ليرغب الإمام، بل قال ليرغب المؤمن، ومعنى ذلك على كل مؤمن يرى الظلم، وأن الحق لا يُعمل به عليه أن يثور ويستعد للقاء ربّه شهيدًا.
المرأة.
لا يجب أن نغفل عن دور المرأة في رفع مستوى الأمّة وحمايتها. فقد اهتم الإسلام بالمرأة وأعطاها حقوقًا ترفع من شأنها ومنزلتها، ففي المنظور القرآني المرأة تتمتع بمكانة عظيمة تقوم على موقع الإنسان ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾[12]، ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾[13]، ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾[14]؛ بمعنى من اتبع الوحي، والهدف من نزول الوحي هو التعليم والتربية والتهذيب، ومحور هذه الأمور هي الروح، والروح ليست بمذكر وبمؤنّث ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[15].
فقد كرّم الإسلام المرأة وأوجب إليها الإحسان: “وبالوالدين إحسانا”، ورفع من قيمتها حين حرّم أي علاقة خارج الزواج لحفظ حقوقها وصونها، وأمر بكف الأذى عنها.
لقد كرّم الله المرأة بصفتها إنسان، فهي ليست مثالًا للنساء فحسب، بل هي امرأة نموذجية بصفتها قدوة كما جاء في القرآن الكريم: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾[16].
إن هذين النبيين وأحدهما من أولي العزم يتحمّلان هداية الأمة وإبعادها عن مزاليق الانحراف، هي مسؤوليتهما الأساسية، وينظران إلى هذه المهمة من موقع التقديس وتتمرد عليه زوجته، وأرادت أن تكون النقيض الذي لا يقتصر على مجرد الانحراف، بل عملت على تقويض وهدم ما يبنيه، وتتكرّر القضية ذاتها مع لوط وزوجته.
وفي الجهة المقابلة نجد المرأة الصالحة والمجاهدة الصابرة آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون الذي يمثّل أقصى حالات الاستكبار حتى ليدّعي الربوبيّة، وتحدّته زوجته في ظلّ واقع منحرف، فهي لم تواجه رجلًا عاديًّا، فقد واجهت كل هذا الواقع بصبر وثبات واحتساب، ولم تكن تملك إلا نفسها وبقدرة إرادتها وبصيرتها وإيمانها ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[17]، بالنتيجة فإن تحرك آسيا بنت مزاحم في عمق وكر الانحراف والشرك إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أن لا مجال لتبرير الانحراف بضغوطات من المحيط والبيئة والسلطة…
ولا يمكن الحديث عن المرأة دون ذكر سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع)، فإنها أوّل امرأة تجسدت فيها الأسوة والنموذج والمثل الأعلى ليس للنساء فحسب بل للعالمين، وتجسّدت فيها كل معاني الإنسانية فكرًا وعقلًا وحكمةً وتدبيرًا، فبالإضافة إلى مشاركتها المؤثّرة في الدعوة كان لها الدور الرائد في الدفاع عن الإمامة والقضايا المحقّة، وإسهامها المناسب لشخصيتها وقدراتها في ظروف الحرب المصيرية للإسلام. وشاركت في الأعمال الإنسانية والسياسية والثقافية والإيمانية بما يتناسب مع مواقع عصرها، إلى ذلك تعاملها مع الفئات المحتاجة كاليتيم والأسير والمسكين، بالإضافة إلى تعليم النساء وتثقيفهن بالأحكام الشرعية والمعارف الإلهية “حتّى أصبح بيتها موئلًا للداخلات والخارجات”[18]. “وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها”[19]، ثمّ خطبتها الرائعة في المسجد بالنساء والتي تعتبر مدرسة، وأعظم من ذلك موقفها المؤثّر التي وظّفت فيه حتّى موتها ودفنها لصالح ثمرات الجهاد في سبيل قضية الإسلام الكبرى، وكما فعلت ابنتها زينب (ع) في نطاق حفظها لثمرات الجهاد والتضحيات.
ومن مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام أنه أوكل إليها أهم وأصعب مهمة على وجه الأرض وهو شرف الأمومة والحضانة والتربية، فالأم هي المدرسة الأولى والنموذج الأول للطفل ولبناء المستقبل والمجتمع الآمن والراقي، فقد تربّي أم معينة تربية طفلها تربية حسنة فيقوم ذلك الطفل بإنقاذ أمّة، وتربيه تربية سيئة فيكون سببًا لهلاك أمّة.
والدين ومن خلال نظرته إلى الناس من منظار جماعي فإن الإنسان لديه مجموعة وظائف هي عبارة عن وسائل اجتماعية لزوم التضحية للهوية الإسلامية، والمرأة كونها إنسان فإن عليها ما على الإنسان عامة. من هنا فإن المؤمنين الصادقين والمخلصين الذين يتواجدون في الساحات الاجتماعية ولا يتركون مبادئهم وميادينهم بدون عذر مقبول. ومن هنا تبدأ الطاعة وعدم ترك الواجب الديني والاجتماعي لرفع مستوى الأمّة ومحاربة جميع أنواع الاحتلال والغزو عسكريًّا كان أم سياسيًّا أم ثقافيًّا ولمحاربة الفقر والجهل.
ولا بأس من مراجعة تاريخ بعض النساء اللواتي تواجدن في ميادين الجهاد والتعرّف على سيرهم الجميلة المليئة بالإيمان والمفعمة بالعزة والرفعة. وأوّلهن خديجة التي أنفقت مالها في سبيل الدعوة إلى الإسلام ، وأول مهاجرة تحدت المخاطر والصعاب وهاجرت على قدميها وحدها وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. والتي نزلت فيها ومن تبعها من النساء (سورة الممتحنة، آية 10)، وسميّة بنت خياط أم عمّار بن ياسر أول شهيدة في الإسلام، ومنهن من كان لها نشاط إعلامي أو سياسي فاعل ومؤثّر.
وكان للمرأة حضور في محضر الرسول، وكذلك في محضر الإمام علي (ع)، كما في ميدان الطب أمثال كعيبة بنت سعد الأسلمية (رفيدة)، ونسيبة بنت كعب المازانية (أم عمارة) اللواتي كن يشاركن في الحرب ويطهين الطعام للمقاتلين، ويوزعن عليهم الماء ويداوين الجرحى ويخلون الشهداء، وكانت نسيبة بنت كعب تقاتل مع المقاتلين حتى أنها بترت يدها. إذًا الحرب ليست كلها أسلحة ورصاص، والمشاركة في هذا الجهاد لم تحرم منه المرأة إذ يمكنها أن تساهم في الانتصار بمشاركتها الفاعلة بمداواة الجرحى وإخلاء الشهداء والإمدادات والمؤن والمياه ومراقبة الطرقات وتحري العملاء وغيرها، وكلها أمور لا تحتاج إلى السلاح، بل إلى الإيمان والعزيمة والثقة بالنصر.
وكذلك يمكن للمرأة أن تخضع لدورات تدريب عسكرية لزوم الدفاع وضمن الضوابط الشرعية.
إذًا، فالمرأة والرجل كوكبان يدوران في مدارين مختلفين والشرط والسعادة أن يدور كل جنس في مداره ومساره الطبيعي والنظري وخلق المشاكل للمجتمع، إنما هو التمرد على أمر الفطرة الطبيعية. فإن إحقاق الحق وإقامة شرائع الله والعمل بأحكامه والتزام طريق الهدى والخير أمر موافق للفطرة والعقل، والانحراف عن ذلك ما هو إلّا تخلّف عن مقتضيات الفطرة والاستحكام بأحكام العقل.
ولنلقِ نظرة سريعة على حال نساء الغرب أو نساء المجتمع اللاإسلامي فهو في الواقع أسوأ من حال النّساء في الجاهلية قبل الإسلام، حيث لم تكن تعطى المرأة أي قيمة وكانوا ينظرون إليها بعين الاحتقار. وحال النساء في المجتمعات الغربية ليس أفضل حالًا، فمن أجل اجتذاب المرأة من البيت إلى العمل والمعمل واستثمار طاقاتها اقتصاديًّا، والاستفادة من أجرها الزهيد رفعوا شعار حقوق المرأة، وشعار الاستقلال الاقتصادي والأسري وشعار الحرية والمساواة، وطبقًا لأهواء وميول المستفيدين من هذه الشعارات، وتدريجيًّا اتخذت هذه الشعارات الصفة الرسمية والقانونية، وبدأت تفعل فعلها في المجتمع للحدّ الذي أصبحت فيه المرأة، بالإضافة إلى تشغيلها الأشغال الشاقة في المعامل والمصانع وتجنيدها في العسكر، ليست أكثر من وسيلة دعائية وإعلانية رخيصة. إذًا هي لم تكن سوى شعارات برّاقة سلبت مكانة المرأة الطبيعية والإنسانية، فماذا نتج عن هذه الحرية، والتي وللأسف نجد الكثيرات من بنات ونساء ديننا وملّتنا يسعين للتشبّه بها؟ الذي نتج على سبيل المثال لا الحصر، تفكّك الأسرة، وضعف أسس الزواج، وتخلّي الشباب عن قبول فكرة تكوين أسرة، والنفور من الأمومة، وضعف علاقة الأبوين بالأطفال، وازدياد حالات الطلاق في ظل انعدام الثقة والإخلاص، وغيرها الكثير من أسباب انهيار المجتمع، إلى حد أصبحت فيه الروابط الأسرية تشبه الأمور المتعلقة بخدمات الحياة كشقّ الطرقات، أو مدّ أعمدة الكهرباء؛ بمعنى مجرد أمور مادية بحتة، وحسب المنفعة المادية ليس إلّا، وقد سمعنا لاحقًا أصوات تنادي برفع الخطر المهدّد للأسرة وللمجتمع، وانهيار الإنسانية والأخلاق حيث أصبحت المرأة مجرّد آلة لجلب الأموال.
أمّا الآن وفي عصرنا الراهن فقد أنعم الله علينا بالعديد العديد من النساء والأخوات النموذجيات والقدوة واللواتي كان لهنّ الدور الفعّال والمهم في جميع الحروب، وخاصة في الصراع مع العدو الإسرائيلي، ومع المجموعات الإرهابية التي عاثت في الأرض فسادًا وتدميرًا وقتلًا. فقد بذلنَ الغالي وكل ما يملكن من مقتنيات في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض والمقدّسات. وقدمن الأبناء والآباء والأزواج والإخوة شهداء، فما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبه التضحيات بتضحيات كربلاء من حيث الموقف والبطولة والبذل، ولا عجب، فالهدف واحد والعدو واحد. فاللسان يعجز عن وصف هذا العطاء. ففي لبنان كما في كل بلادنا الإسلامية التي تعرضت وتتعرض للظلم والاعتداء ولحد أنّه لا يفصل بين الحرب والحرب حقب زمنية كافية للملمة الآثار الناجمة عنها. والحقيقة لو لم نكن أمة استمدت من كربلاء كل هذه القوة والمعنويات والإيمان، ولو لم تكن أمّة صابرة محتسبة لما استطعنا الصمود بهذا الشكل المذهل للأمم.
وإننا كما نفتخر ونعتزّ بالأخوات والنساء المجاهدات، كذلك نعتز ونفتخر بالأخوات العاملات في الشأن الاجتماعي وفي رعايتهن المؤسسات العلمية والتربوية والاجتماعية ومتابعة قضايا الأسر والعوائل المحتاجة وعلى رعايتهن لأبناء الشهداء وعوائلهم الكريمة، والكثير الكثير مما لا يسعنا ذكره من أعمال الخير للوصول إلى مجتمع آمن ومستقر. وأصبحن مثال يحتذى بالصبر والعطاء فسعي مشكور إن شاء الله وهو بعين الله وما كان لله ينمو.
والجميل والمبارك أن هذه الأعمال وهذه الجهود تقام طبقًا للضوابط والأحكام الشرعية.
هذه هي المرأة التي هي جزء لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي إن لم نقل كل المجتمع. فنحن قوم لدينا الشجاعة بشقيّها كلمة زينب، وموقف طوعة، فكيف لا ننتصر؟
البيئة.
هي من أهم مقوّمات الأمن الاجتماعي والبحث فيها يطول ويحتاج لمؤتمرات ومحاضرات نظرًا لأهميتها في الوقت الراهن. وقد تحدّث القرآن الكريم عن مكوّنات البيئة أحيانًا جمعها في آيات وفصّل بعضها في آيات أخرى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[20].
إنّ هذه المكونات التي خلقها الله مسخّرة لمنفعة الإنسان، وهي في أصلها طاهرة نقية مباركة لكنها يمكن أن تفسد بإفساد الإنسان في الأرض، وهناك ترابط دقيق بين هذه المكوّنات والتي تشمل الماء والهواء والتراب والسماء والأرض والحيوان، وقد أمر الله بالمحافظة على التوازن والنظام بين هذه المكونات، وقد تكون مادة عذاب للإنسان إن هو تكبر واستكبر على من أوجدها كما حصل مع بني إسرائيل.
ومن أجل أن تبقى هذه المكوّنات مسخرة للإنسان عليه أن يستمر في الحفاظ عليها ويشكر من أوجدها بالمحافظة عليها، وذلك بعدة طرق ووسائل ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- التعاون ما بين الدولة والمؤسسات والأفراد عبر مراقبة مصادر التلوّث والتحكم في الأوساط البيئية بجميع مكوناتها، ودراسة الأثر البيئي كوسيلة للتخطيط لمكافحة الأضرار الناجمة.
- إنشاء الجمعيات والهيئات الأهلية.
- التشجيع على العمل التطوعي البيئي وتقديم الدعم والحوافز لكل من يتولى نشاطًا بيئيًّا من شأنه المساهمة في تخفيف الأضرار.
- توزيع الكتيبات التي تتحدّث عن أهمية البيئة ومخاطر تلوثّها وكيفية التعامل معها من قبل الشعب والأفراد خاصة موضوع النفايات.
- أن تصبح البيئة مادة تدريس في المدارس.
- إجراء المسابقات والمواضيع الخاصة بالبيئة لترسيخ الفكرة.
- مكافحة التصحّر.
- مضاعفة الجهود في مناطق الصراعات والحروب ومناطق الكوارث الطبيعية بسبب أعمال البناء والإعمار من حيث التنظيم والمواد المستهلكة مع الأخذ بعين الاعتبار الحد من قطع الأشجار لصالح البناء.
- إقامة الحدائق العامة وحدائق للأطفال.
- بناء البيوت الملائمة للأشخاص المعوّقين والعجزة.
وغيرها الكثير من السبل للحفاظ على بيئة آمنة نستحقها.
المصادر:
- معجم المعاني الجامع.
- البخاري في الأدب المنفرد، رقم 300
- القرآن الكريم.
- كتاب الآمالي للطوسي، صفحة 527.
- مصباح الشريعة، الباب 62.
- بحار الأنوار، الجزء 44، صفحة 329.
- بحار الأنوار، الجزء 52، صفحة 390.
- أمالي الصدوق، الصفحة 362.
- شرح نهج البلاغة، الجزء 9، صفحة
[1] معجم المعاني الجامع، معجم عربي عربي.
[2] البخاري في الأدب المتفرد رقم /300.
[3] سورة الحج، الآية 36.
[4] الطوسي، الأمالي، الصفحة 527.
[5] مصباح الشريعة، الباب 62.
[6] سورة العلق، الآيات 1- 4.
[7] سورة النساء، الآية 141.
[8] سورة المائدة، الآية 48.
[9] بحار الأنوار، الجزء 44، الصفحة 329.
[10] المصدر نفسه، الجزء 52، الصفحة 390.
[11] أمالي الصدوق، الصفحة 362.
[12] سورة البقرة، الآية 30.
[13] سورة الرحمن، الآيات 1- 4.
[14] سورة إبراهيم، الآية 36.
[15] سورة التغابن، الآية 11.
[16] سورة التحريم، الآية 10.
[17] سورة التحريم، الآية 11.
[18] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء 9، الصفحة 198.
[19] المصدر نفسه، الصفحة 193.
[20] سورة الجاثية، الآية 13.
المقالات المرتبطة
إشكالية المواطنة في الرؤية الإسلامية
الهدف من طرح هذه الإشكالية هو الإجابة على سؤال: هل تتقبّل الرؤية الإسلاميّة فكرة المواطنة بمفهومها الحديث؟ أمّا الدافع إليه
الفكر العربي الحديث والمعاصر | قراءة غورية في فكر زكي نجيب محمود وشخصيته (5)
آثر فيلسوفنا الأديب على أن يبدأ مذكراته بالحديث عن “تغريدة البجع”، وسوّغ اختياره بقوله: “هو عنوان ينطوي على دلالة غنية بمضموناتها.
مسيرة ومحاولات تجديد الخطاب الديني | المبحث الثاني
هؤلاء من رجال الأزهر وغير الأزهر، بعضهم تولى رئاسة وزارة الأوقاف، فهم رجال دين أولًا وقبل كل شيء، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم طريقًا يشبه طريق المعتزلة القدامى