الدعوات الإلهيّة أسباب لبلوغ السعادة
“وَقُلْتَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وتَرْكَهُ اسْتِكْبَارًا، وتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، ودَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَبًا لِمَزِيدِكَ، وفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ، ولَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبَادَكَ مِنْكَ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْإِحْسَانِ، ومَنْعُوتًا بِالِامْتِنَانِ، ومَحْمُودًا بِكُلِّ لِسَانٍ، فَلَكَ الْحَمْدُ مَا وُجِدَ فِي حَمْدِكَ مَذْهَبٌ، ومَا بَقِيَ لِلْحَمْدِ لَفْظٌ تُحْمَدُ بِهِ، ومَعْنًى يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ».
- التذكير بمظاهر الرحمة الإلهيّة
يعبّر القسم الأوّل من دعاء الوداع الشريف عن مقام حمد الله تعالى، بالاستعانة بصفات تتناسب مع هذا المقام؛ ولهذا السبب، نجد الإمام السجّاد (عليه السلام) يُناجي ربّه قائلًا: “إلهي، إنّك تُعامل عبادك بهذا النحو: إذا ارتكبوا معصية، واجترحوا سيّئة، فإنّك ترفق بهم، وتُمهلهم؛ عساهم أن يتراجعوا عن أعمالهم السيّئة، وعلاوةً على ذلك، فإنّك فتحت لهم بابًا لا يقتصر تأثيرُه على تمكينهم من فعل الحسنات، بل يتعدّاه إلى محو آثار سيّئاتهم السابقة”. فلو أنّ كلّ واحد قام بعمل قبيحٍ جَرَت معاقبته بالعدل، وبشكل فوري، لكان من المحتمل أن لا تبقى أيّ فرصة لاستمرار الحياة. وعليه، فإنّ أوّل لطف لله تعالى هو أنّه أمهل عباده العصاة، لكي يتمكّنوا من الرجوع إلى الطريق الصحيح، إن هم أرادوا ذلك. فمن عناية الله تعالى أنّه لا يُؤاخذ عباده ولا يُعاقبهم سريعًا، بينما نجده في الوقت ذاته يرضى عنهم بسرعة. وأمّا اللطف الإلهيّ الثاني، فيتمثّل في أنّه تعالى فتح للمذنبين طريقًا يُمكّنهم من محو آثار أخطائهم تمامًا، وتدارك ماضيهم، وهو باب التوبة الذي أشرعه البارئ عزّ وجلّ في وجه عباده. واللطف الإلهيّ الثالث الذي تحدّث عنه الإمام (عليه السلام) أنّ الله تعالى ولكي يحضّ عباده على أداء الأعمال الحسنة، فإنّه قد جعل نفسه في مقام التعاقد معهم، وقال: “سوف أقدّم لكم على كلّ فعل خير قمتم به عشرة أضعاف من الثواب؛ وإذا أنفقتم في سبيلي، ستحصلون على سبعمئة ضعف”، وذلك لا يُشكّل سقف الثواب، بل إنّ الله يُضاعف الثواب لمن يُريد: ﴿اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[1]، حيث إنّ هذا التقدير الإلهيّ هو طريق آخر أيضًا لتشجيع العباد على أداء الخيرات، ودفعهم نحو الكمال والترقّي والوصول إلى القرب الإلهيّ. ومن هنا، فإنّ الرفق بالعصاة، وفتح باب التوبة في وجههم لتدارك ما فاتهم، وجعل ثواب مضاعف عشر مرّات وسبعمئة مرّة وأكثر هي بأجمعها نماذج للألطاف الإلهيّة.
والأرقى من ذلك كلّه أنّ الله تعالى حثّ عباده على أن يطلبوا منه هباته وفيوضاته، ليضعها بين أيديهم مجّانًا، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[2]؛ فتفضّل الكريم على السائل واستجابته لطلبه لطف، وأمّا دعوته للمحتاجين من أجل الاستجابة لطلباتهم، فهو لطف مضاعف. ومع ذلك، فإنّ الله تعالى لم يكتف بذلك، بل حذّر بقوله: “إذا لم تطلبوا منّي، فإنّكم ستكونوا من زمرة المستكبرين، لتستحقّوا بذلك جهنّم”، حيث ورد في القرآن الكريم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[3].
- الدعاء بوصفه اعترافًا بالفقر وتحرّزًا عن الكبر
كلمة “ادعوني” مأخوذة من أصل “الدعاء”، وهو نحو من العبادة؛ والمراد من العبادة إقرار الإنسان أمام ربّه بفقره وحاجته وتسليمه، بحيث يقول من أعماق قلبه: “أنا عبد وأنت ربّ”. فالتعبير عن هذه الحقيقة سواء بالألفاظ أو بأعمال من قبيل الركوع والسجود عبادةٌ. وقد رُوي عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: “الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَة”[4]، فكما أنّ المخّ يحتلّ في بدن الإنسان مكانةً رفيعةً بالنسبة لبقيّة الأعضاء، بحيث إذا تعرّض للإصابة، فإنّ حياة الإنسان تكون في خطر، فإنّ الدعاء أيضًا يحتلّ هكذا منزلة. هذا، ورُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: “أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الدُّعَاء”[5]، ويبدو أنّ السرّ في ذلك يرجع إلى أنّ الدعاء من دون الإقرار بالعبوديّة مجرّد هيكل يابس وفارغ.
فليس المراد من الدعاء أن يطلب الإنسان من رفيقه إعارته شيئًا، أو منحه إيّاه؛ بل الدعاء يعني أن يُبرز الإنسان فقره، ويعترف بحقيقة أنّه لا يملك أيّ شيء، وأنّ الله تعالى مصدر كلّ شيء، وهذا بعينه إقرار بالعبوديّة، بحيث كلّما كان ذلك أصرح وأخلص، صار فضله أكبر. فحينما يدعو الإنسان ربّه، فإنّ مفاد دعائه: “إلهي، أنا لا أملك أيّ شيء، بينما تملك أنت كلّ شيء؛ وها أنا ذا أعترف بهذه الحقيقة في محضرك!”. فهذا الدعاء هو مخّ العبادة؛ وبتعبيرنا نحن الطلبة: صحيح أنّه ليس عبادة بالحمل الأوّلي، حيث إنّ الداعي لم يستعمل هنا كلمة العبادة والعبوديّة، إلّا أنّه عبادة بالحمل الشائع؛ أي إنّه يتضمّن المعنى التالي: “أنا عبد وأنت ربّ؛ أنا فقير وأنت غنيّ”.
ولكي يمدّ العبد يده بالدعاء، فإنّ الله تعالى يقول: “إذا استنكف أحد عن الدعاء، وبعبارة أوضح: إذا اعتبر أحدهم أنّ الدعاء ينقص من منزلته، فإنّه سيكون قد استكبر على الله تعالى”؛ لأنّه في الحقيقة يقول: “عوضًا عن أن أقرّ بفقري أمام الله تعالى، وأدعوه، فإنّني سأتحمّل العناء، وألبّي حوائجي بنفسي”. وإن بوسعنا، إلى حدٍّ ما، أن نختبر أنفسنا، لنرى كم نحن صادقون في هذا المقام. فعلى سبيل المثال، إذا ابتلينا بألم في الرأس، وكان الدواء في متناولنا، هل سنتوجّه إلى الله تعالى لرفع الألم عنّا؟ فحينما نُصاب بالصداع، هل نتوجّه إلى الله تعالى أوّلًا، ونطلب منه الشفاء، أم نقول: إنّ الدواء متوفّر، فلا نحتاج بعد ذلك إلى أن نكل آلامنا إليه سبحانه؟ فإذا كان العبد من أهل الدعاء، فإنّه سيتوجّه بدايةً إلى الإله الغنيّ حين إحساسه في ذاته بالحاجة، وحتّى استعانته بالأسباب تعود إلى أنّ الله تعالى هو الذي وضعها، وجعلها طريقًا لإيصال رحمته، وأمر بالاستعانة بها؛ وإلّا، فإنّ الذي يتعلّق قلب العبد به، ويرجو منه أن يُلبّي له حاجته هو الله تعالى وحسب، بحيث إنّ الاعتقاد بأنّه: “يا إلهي، أنت الذي تقضي لي مآربي” مكنون في أعماق روح هذا العبد؛ وحينئذ، إذا رفع الإنسان يده بمثل هذا الدعاء، فإنّه يكون قد أدّى عبادةً تفوق في الثواب كلّ عبادة؛ بل ولو قال أحد إنّ هذا الدعاء يفضُل حتّى الصلاة، فقد لا يكون بالغ في الكلام؛ لكن، بشرط أن يكون دعاؤه مقرونًا بنفس تلك الحالة، وأن يتوجّه عند شعوره بالحاجة بدايةً إلى الله تعالى. فصاحب المعرفة حينما يجوع، فإنّه يقول: “إلهي، أشبعني”؛ وإذا ما انتابه العطش، فمع أنّ الماء البارد قد يكون في متناوله، إلّا أنّه يقول من أعماق قلبه: “إلهي، ارفع أنت عطشي”؛ ومتى ما مدّ يده إلى إناء الماء، فإنّ لسان حاله يقول: “إلهي، إنّني أستعمل هذا الإناء من الماء لأنّك أنت الذي أمرت بذلك”.
يقول البارئ عزّ وجلّ: “إنّ الذين لا يهتمّون بالدعاء، معتقدين بقدرتهم على حلّ مشاكلهم بأنفسهم، هم في الحقيقة يتكبّرون على الله تعالى، ولا يريدون الإقرار بالعبوديّة له”؛ ففي هذه الآية، جرى الحديث عن الدعاء، وليس عن عبادة أخرى. ولهذا، فإنّ المراد من الاستكبار عن العبادة هو الاستكبار عن الدعاء، إذ يظنّ المستكبرون عن الدعاء أنّ هذه المسألة نوع من الكرامة والشرف بالنسبة إليهم. لكن في الحقيقة، روح الاستكبار هي الحاكمة على أنفسهم، وهذه الروح تقتضي دخولهم جهنّم أذلّاء، حيث لا يقتصر عقاب هؤلاء على دخول النار، بل يدخلونها وهم أذلّاء. فكلمة “داخرين” تعني في هذه الآية غاية الإذلال والانكسار.
إنّ أهمّية هذا البيان ولطافته لا تقلّ عن أصل الإذن بالذكر والدعاء؛ فإن أصل المسألة التي قال الله تعالى فيها: “اطلبوا منّي حتّى أعطيكم” لطف عظيم جدًّا، لكنّ الأرقى من ذلك هو قوله سبحانه: “إذا تكبّرتم على دعائي، ستردون جهنّم بذلّة”، حيث إنّ تأثير هذا الكلام في حضّ العباد وتشجيعهم على الدعاء والعبادة أكبر من تأثير كافّة الطرق السابقة؛ لأنّنا جرّبنا بأنفسنا عمليًّا كيف أنّ الشعور بالخطر يدفع الإنسان نحو بذل جهد أكبر. فحينما يمرّ الإنسان بظرف يواجه فيه خطرًا، ويمكنه في الوقت ذاته الحصول على ملذّات، فإنّه يعمد أوّلًا إلى رفع الخطر، ثمّ يتوجّه بعد ذلك نحو الملذّات، إذ من المبادئ المسلّمة كون الخوف من الخطر يُشكّل عنصرًا أقوى من بقيّة العناصر في إثارة نشاط الإنسان ودفعه للعمل. وقد اهتمّ القرآن الكريم كثيرًا بمسألة الإنذار، بل واقتصر أحيانًا على استخدامها فقط، وسمّى الأنبياء (عليهم السلام) نُذُرًا؛ لأنّ الإنذار يُنبّه الإنسان إلى الأخطار، ممّا يُؤدّي إلى حركته ونشاطه. فنحن خُلقنا لكي نتحرّك ونعمل باختيارنا، فنحظى بالسعادة، والعنصر الذي يُعيننا أكثر على اختيار سبيل السعادة هو الخوف والإنذار. ومن هنا، نجد البارئ عزّ وجلّ وبعدما حضّ على الدعاء، فإنّه يُحذّر بقوله: “إذا لم تستجيبوا، فإنّكم ستلجون جهنّم بذلّة”.
يقول الإمام السجّاد (عليه السلام) مناجيًا ربّه: “فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً”؛ ففي بداية الآية الآنفة الذكر، كان الحديث يدور حول الدعاء، لكن بعد ذلك يقول البارئ عزّ وجلّ: “إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيردون جهنّم أذلّاء”، فلا يُمكننا أن نجد أيّ ارتباط بين هاتَين الآيتَين، إلّا أن يكون المراد من العبادة خصوص الدعاء. ومن هنا، يقول الإمام (عليه السلام): “لقد سمّيت دعاءك عبادةً”، “وتَرْكَهُ اسْتِكْبَارًا، وتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”.
- محفّزات الإنسان للحركة باتّجاه السعادة
في تتمّة دعاء الوداع، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): “فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، ودَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَبًا لِمَزِيدِكَ، وفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ”.
فبعد حديثه عن ألطاف الله تعالى ونعمه، نظير الرفق بالعصاة، وقبول التوبة، ومنح الثواب الجزيل على الأعمال التي استعرضنا قائمةً بها آنفًا، يناجي الإمام (عليه السلام) ربّه قائلًا: “إلهي، لقد وهبت هذه الألطاف إلى عبادك، فصار ذلك سببًا في انتفاع البعض من هذه الإرشادات، ليحظوا بقربك. لقد أوصيتهم بذكرك حتّى تذكرهم أنت أيضًا، فسعيهم لذكرك معلول لمنّة عظيمة أنعمت بها عليهم؛ فالناس الذين يُؤدّون شكرك إنّما وُفّقوا لذلك بسبب أنّك شجّعتهم بقولك: “إذا شكرتم، فإنّني سأزيدكم نعمًا”. كما أنّ دعاءهم إيّاك راجع إلى أنّك أمرتهم بذلك، واكتشفوا من أمرك أنّ هذا الطريق سبب لتفضّلك على عبادك. كما أنّ الثواب الذي جعلته على الإنفاق حفّزهم على التصدّق والإنفاق من أجل بلوغ هذا الثواب الجزيل. وفي الحقيقة، فإنّ جميع وصاياك هذه وسائل لنجاتهم من العذاب، ونيل السعادة والثواب”.
- حقّ الحمد الإلهيّ
وجاء في تتمّة هذه الفقرة: “ولَوْ دَلَّ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَلْتَ عَلَيْهِ عِبَادَكَ مِنْكَ كَانَ مَوْصُوفًا بِالْإِحْسَانِ، ومَنْعُوتًا بِالِامْتِنَانِ، ومَحْمُودًا بِكُلِّ لِسَانٍ، فَلَكَ الْحَمْدُ مَا وُجِدَ فِي حَمْدِكَ مَذْهَبٌ، ومَا بَقِيَ لِلْحَمْدِ لَفْظٌ تُحْمَدُ بِهِ، ومَعْنًى يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ“.
يناجي الإمام السجّاد (عليه السلام)، في هذه العبارات، ربّه المتعالي قائلًا: “لو وجدنا إنسانًا عاديًّا يُرشدنا إلى إحدى هذه الطرق التي أرشدتنا إليها، فإنّنا سنذكره بكلّ خير، كأن نعثر مثلًا على أحد يقول لنا: “إذا بعتني البضاعة الفلانيّة، فإنّني سأعوّضك عنها بعشرة أضعاف من الأجر”، أو أنّه يضع تحت تصرّفنا أرضًا وبذورًا ينتج من زرعها سبعمئة ضعف، أو أن يقول لنا: “إذا عرفتم حقّ نعمي، وانتفعتم بها جيّدًا، فإنّني سأهبكم نعمًا أكثر””.
بمعنى أنّه إذا دلّ مخلوق مخلوقًا آخر على إحدى الطرق التي فتحها الله تعالى في وجه عباده، فإنّنا سنستعمل في حقّه أقصى عبارات المدح ونقول: “ما أكرمه من إنسان! كم هو سخيّ!”، هذا مع علمنا بكونه مخلوقًا محتاجًا، شأنه في ذلك شأن بقيّة المخلوقات، وكون كلّ ما لديه من الله تعالى. وفي هذه الحالة، كم يبنغي لنا أن نمدح البارئ عزّ وجلّ الذي ينبع منه كلّ الوجود، ومصدر كلّ وجودنا وحياتنا وشعورنا وعقلنا وإيماننا، وهو الذي أنزل علينا القرآن، وبعث الأنبياء لهدايتنا، وأشرع أمامنا أبواب التوبة والشكر، وغيرها كثير! فلو أنّ إنسانًا قدّم لنا إحدى هذه الخدمات، لاعتبرنا أنفسنا مدينين له طيلة حياتنا، ولَلَهِج لسانُنا بمدحه؛ وحينئذ، كم يا تُرى من المدح سيستحقّ إله العالم؟ وهو الذي فتح لنا طرق النعم، وأحسن إلينا كلّ هذا الإحسان! فهو الذي منحنا كلّ هذه الأشياء من عنده، ولم يأخذ في مقابلها أيّ شيء، واستبق دعوتنا إلى الدعاء، ثمّ شجّعنا بعد ذلك بقوله: “إذا شكرتم، سأشكركم” (“تشكُرُ مَن شَكَرَكَ”)، حيث وهبنا بنفسه النعم، ووضع بأيدينا وسيلة الشكر، وأوصانا بأن: “إذا شكرتم، سأزيدكم النعم”؛ بل والأرقى من ذلك أنّه قال: “إذا شكرتم، سأشكركم أنا أيضًا”؛ في حين أنّ شكرنا يتحقّق بواسطة اللسان الذي أنعم هو به علينا؛ وحتّى حينما نذكره، فإنّ هذا العمل نُؤدّيه عن طريق القلب الذي وهبنا إيّاه هو. وبحقّ، كم من المدح سيستحقّ هذا الإله! يقول الإمام السجّاد (عليه السلام): “ينبغي حمد هذا الإله ما دام هناك معنى للحمد يخطر على البال، وما دام هناك لفظ يُمكننا أن نعثر عليه للحمد، وما بقي هناك طريق للحمد”.
إلى هنا، يكون الإمام (عليه السلام) قد أشار إلى مجموعة من المسائل التي تُمكّن الإنسان من بلوغ الاستعداد اللازم لمناجاة الله تعالى ونيل فيوضاته الخاصّة. ومن الآن فصاعدًا، سيسعى (عليه السلام) إلى التمهيد لذكر خصائص شهر رمضان المبارك وبركاته.
- المعرفة والسكينة والمحبّة باعتبارها ثمار التفكّر في النعم الإلهيّة
وفقًا لهذه الكلمات، فإن ما يمنح عمل الإنسان القيمة، ويُؤدّي إلى الزيادة في قربه إلى الله تعالى ليس هو حجم هذا العمل، بل اللطافة التي يحملها فكر ذلك الإنسان وفهمه. لقد تعلّمنا منذ الصغر أن نقول حينما يهبنا الله تعالى نعمة: “الحمد لله”، كأن نقول مثلًا بعد الانتهاء من الأكل: “شكرًا لك يا إلهي”؛ وهي عادة حسنة جدًّا، بل وعبادة تستحقّ الثواب، وتُؤدّي إلى زيادة النعم.. نرجو من الله تعالى أن يغمر آباءنا وأمّهاتنا وأجدادنا برحمته لتأديبهم إيّانا بهذه الآداب الشرعيّة. لكن، شتّان بين هذا الشكر، والشكر المقرون بالمعرفة العميقة! أي تلك المعرفة التي تتمثّل في أنّ الله تعالى أنعم علينا كثيرًا من خلال دعوتنا إلى الشكر، ففضلًا عن أنّه تعالى وهبنا نعمه، وهيّأ لنا أسباب الشكر، وبيّن لنا ثوابه، فإنّه دعانا أيضًا إلى شكره، وشجّعنا بقوله: “إذا شكرتم، سأزيدكم نعمًا”. وبعبارة أخرى، علاوةً على أنّ البارئ عزّ وجلّ اعتبر شكر عبدِه عبادةً، وجعل عليه ثوابًا أخرويًّا، فإنّه زاد من نعم عبده الشاكر في هذه الدنيا، ولم يُخصّص هذه الزيادة بالآخرة فقط. وبالإضافة إلى كلّ ذلك، فقد اعتبر الله تعالى نفسه شاكرًا للعباد الذين يُؤدّون شكره، وهذا معنى لطيف جدًّا لا يُدرك قيمته إلا أصحاب القريحة اللطيفة، والفهم الدقيق؛ فيعرفون أنّه ينبغي شكر الله تعالى كثيرًا على حقيقة: “تشكُرُ مَن شَكَرَكَ”. إنّه لمن اللازم علينا أن نشكر البارئ عزّ وجلّ على أصل النعم التي وهبنا إيّاها، وكذلك على الأسباب التي بواسطتها يتسنّى لنا شكره، بل وعلى التوفيق الذي حبانا به، فصرنا مؤهّلين لشكره. أفهل كلّ من له لسان يُوفّق لشكر الله تعالى؟! إنّ قول عبارة “شكرًا لله” واحدة يحتاج إلى توفيق إلهيّ؛ لكن، مع أنّ إعداد الأرضيّة اللازمة للشكر هو توفيق من الله تعالى، كما أنّ الأمر الذي يدفعنا عادةً لأداء الشكر هو السعي نحو نيل نعم مضاعفة، فإنّ الإله الواحد قال: “إذا شكرتموني، فإنّني سأشكركم”. وبحقّ، فإنّ هذه النعمة أروع وأرقى وألطف من كافّة النعم، بل وأعلاها مضمونًا، وأشدّها تحفيزًا.
فكلما تأمّلنا في هذه النعم، زادت معرفتنا بالله تعالى، ما يُؤدّي إلى أن تزداد أيضًا محبّته في كياننا، حتى تبلغ هذه المحبّة درجةً لا يطلب معها الإنسان من الله تعالى – وعن وعي – أي منفعة، ولو كان في أعماق باطنه ما يزال يُريد أن يحصل منه تعالى على ثواب أكثر. فهؤلاء العباد الوالهون غارقون في الكمال والجمال الإلهيّين إلى درجة أنّهم ينسون طلب شيء لأنفسهم. فإذا جلسنا، وتأمّلنا في مقدار النعم التي حبانا الله تعالى إياها، فإنّنا سنجني الكثير من البركات، وأوّلها أنّ الإنسان متى ما أدرك العطايا الإلهيّة وقيمتها، فإنّه لن يهتمّ للنقائص التي قد توجد في حياته، ولن يحزن لوجودها، بل سيقول: “ما هو الداعي للأسى مع وجود هكذا إله؟”؛ وهذا نظير المائدة الكريمة الملأى بأصناف الأطعمة الشهيّة، والتي لا يُلقى فيها بال لقطعة خبز محروقة، وحتّى لو انتبه إليها أحد، فإنّ الآخرين سيلجؤون إلى توبيخه. ومن هنا، فإنّ النقائص تكون من لوازم هذا العالم، بل هي بحدّ نفسها نعم، لكن يحتاج إدراكها إلى نوع من الدقّة.
فحينما يُواجه العبد المؤدّب النقائص والمصاعب الدنيويّة – التي جُعلت عادةً وسيلة لاختبار الناس – ويُقارنها بنعم الله تعالى، فإنّه يخجل، حيث تُعدّ هذه البصيرة أوّل ثمرة يحصل عليها نتيجة التأمّل في النعم الإلهيّة. إنّ هذه الرؤية العميقة تُخلّص الإنسان من الأسى على عدم وجود بعض الملذّات، وتُنبّهه إلى غرقه في نعم الله تعالى.
وأمّا الأثر الثاني للتفكّر في النعم الإلهيّة، فهو تأجّج محبّة الله تعالى في قلب الإنسان. إذ من الطبيعيّ أن يُحبّ الإنسان ويتعلّق بكلّ من قدّم له خدمة. ومحبّة الله تعالى تدفع الإنسان إلى شكره، ليصبح هذا الشكر سببًا لتضاعف النعم، وتستمرّ هذه العمليّة بهذا النحو. ومن هنا، وكما جاء في أدعية شهر رمضان المبارك أيضًا، لا يُمكن لأيّ أحد شكر الله تعالى بنحو تامّ، ولو على نعمة واحدة من نعمه. ومن باب المثال، إذا أراد الإنسان أداء الشكر على نعمة التنفّس، سيلزمه التوفّر على لسان، وتذكّر أنّ التنفّس نعمة إلهيّة، وهذه بحدّ ذاتها نعم أخرى وهبها الله تعالى للإنسان، وكذلك، حينما يلهج لسانه بالذكر، ويقول: “الحمد لله”، فإنّ البارئ عزّ وجلّ يكون قد منحه في الحقيقة نعمة أخرى تحتاج بدورها إلى شكر، وعليه، لو قام الإنسان بأداء الشكر إلى يوم القيامة، فإنّ المسألة لن تنتهي عند هذا الحدّ، لأنّ كلّ شكر يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا، تستمرّ هذه السلسلة إلى ما لا نهاية له. ومن هنا، لا يكفي عمر الإنسان لشكر نعمة من نعم الله تعالى بنحو تامّ، ناهيك عن أن يتمكّن من شكر جميع النعم الإلهيّة، والتي لا يقدر أحد على عدّها، بل ولا حتّى تصنيفها.
فإذا كان الإنسان يتعامل مع هكذا إله، فكيف ينبغي أن يكون خضوعه له؟ إنّ الالتفات إلى عظمة الله تعالى ورأفته ولطفه يدفع الإنسان إلى الالتذاذ فقط بالخضوع أمام ربّه، وينسى بتاتًا ما كان يريد أن يطلبه منه، ويقول من أعماق قلبه: “إذا كنت أتعامل مع إله يتّصف بكلّ هذا العطف واللطف، فإنّني لا أستطيع أن أقوم بأيّ شيء، سوى الخضوع أمامه، والسجود له”. وهذه الحالة هي بعينها التي وصف بها الله تعالى في القرآن الكريم عباده المتميّزين: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعًا﴾[6].
[1] سورة البقرة، الآية 261.
[2] سورة فاطر، الآية 60.
[3] سورة فاطر، الآية 60.
[4] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 90، الصفحة 300.
[5] محمد بن يعقوب الكلينيّ، الكافي، الجزء 2، الصفحة 466.
[6] سورة الإسراء، الآية 109.
**من كتاب وداع الربيع الصادر عن دار المعارف الحكمية
المقالات المرتبطة
خير ليلة في خير شهر
إنّ الوجه في عظمة هذه الليلة يتمثّل في نزول هذا الكتاب الشريف والعظيم فيها، بملاحظة أنّ القرآن كلام الله تعالى، وتجسّم للعلم الإلهيّ، ووسيلة لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة؛ أفهل يُمكن أن يوجد شيء يحظى بكلّ هذا الفضل والعظمة؟
قدرة العقل على معرفة الله
هل يمكننا، بالاستعانة بالأدلّة العقليّة، وبالبراهين والمسائل الفلسفيّة والكلاميّة، أن نعرف الله تعالى بنحوٍ نستغني به عن تعاليم الدين، أم لا؟
ساحة الرحمة لها باب اسمه التوبة
تتمثّل الخاصّية العجيبة لهذه الساحة في غفران كافّة ذنوب العاصي عند دخولها؛ ولو كان قد لوّث روحه وجسده بالعصيان لمائة سنة؛ والأرقى من ذلك أنّ كلّ هذه المعاصي سوف تُستبدل بالحسنات، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾