علّة وداع شهر رمضان المبارك وأهمّيته
“فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا، وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ“.
- أهمّية العواطف في السلوك الفرديّ والاجتماعيّ
بعدما تطرّق الإمام السجّاد (عليه السلام) إلى الحديث عن الصفات الإلهيّة التي تُساهم في تخصيص المؤمنين والأمّة الإسلاميّة برحمة وفيوضات خاصّة، طرح مسألة الهداية الإلهيّة التي أتاح الله تعالى بواسطتها للإنسان إمكانيّة الظفر بالسعادة الأبديّة، كما بيّن أيضًا أنّ البارئ عزّ وجلّ وضع شهر رمضان المبارك، وأوجب فيه الصيام، وأكّد فيه على الاهتمام بالعبادات، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ثمّ قال (عليه السلام): “لقد حلّ بنا هذا الشهر، وأدّينا فيه الصيام بتوفيق من الله تعالى، وتمكّنا فيه من عبادة البارئ عزّ وجلّ بمقدار ما ألهمنا ذلك؛ وحينما انقضت مدّته، رحل عنّا؛ ولهذا، فإنّنا صرنا في مقام توديع هذا الشهر وهذا الضيف المبجّل”. وقد أنشأ الإمام (عليه السلام) هذا الدعاء في نهاية شهر رمضان المبارك، أو في عيد الفطر، مخاطبًا ربّه تعالى بهذه العبارات الجميلة ذات المعاني الراقية، إذ يقول في وصفه لوداع الشهر الفضيل: “نحن مودّعون هذا الشهر وداعَ الذي يشقّ عليه كثيرًا فراقه، حيث أدّى رحيله وانصرافه عنّا إلى إصابتنا بالغمّ والوحشة. فلقد انقضى، لكنّه أبقى لنا عدّة أمور: أوّلها عهد راسخ معه، والثاني: حرمته التي يتعيّن علينا مراعاتها، والثالث: حقّه علينا الذي يتوجّب علينا أداؤه”.
وبمناسبة الحديث عن هذه الفقرة، نطرح هنا بحثًا عن الوداع لكي يتّضح ما هو معناه من الأساس، وما هي حكمته، وما هو المصدر الذي نشأ منه. وفي الأخير، نُبيّن المراد من توديع شهر رمضان المبارك، والفضيلة والمنزلة اللتان يحظى بهما. ولإماطة اللثام عن أهمّية الوداع، نستعرض في البداية مقدّمة.
لقد غرس الله تعالى في وجود الإنسان مجموعة من القوى المحرّكة التي تُعينه في حركاته الاختياريّة من حيث كونها اختياريّة، بمعنى أنّه جهّز – من ناحية – وجودَه بسلسلة من الاستعدادات التي تُوفّر القابليّة والإمكانيّة اللازمتين لهذه الحركة، وأودع في نفسه – من ناحية أخرى – ثلّة من العناصر التي توجد الحركة، وتوصل تلك الاستعدادات إلى مرحلة الفعليّة. ولنضرب مثالًا موقفَ امرأة يُريد ابنها أن يُقدم على سفر طويل، فمن الطبيعيّ والمتعارف أن تلجأ هذه المرأة إلى توديع ابنها، حيث نشاهد وجود استعداد نفسيّ في الأمّ اسمه عاطفة الأمومة، لكنّه لا يكون نشطًا دائمًا، بل في ظروف خاصّة فقط؛ وحينما يتمّ تفعيله، ينبثق شعور خاصّ في نفس الإنسان. فمن باب المثال، عندما ترى الأمّ ابنها، فإنّ العاطفة تُحرّكها لكي تأنس به، فينبثق الشعور بلذّة الأنس في وجود الأمّ، وهو شعور عابر ومؤقّت، بخلاف العاطفة التي تكون متجذّرة وراسخة. فالعاطفة عبارة عن أمر فطريّ ينبثق منه في ظروف معيّنة الشعورُ بالمحبّة والأنس، شأنها في ذلك شأن شجرة تُزهر بالثمار. ولهذا، فإنّ الأمّ تُحبّ أن تأنس بولدها أكثر، وتتحدّث معه، وتستضيفه.
وأمّا إذا انفصلت هذه الأمّ عن ابنها لسبب ما، فلم تره لفترة طويلة (كأن يرغب الابن في الهجرة إلى مدينة أخرى طلبًا للعلم، أو السفر إلى جبهات القتال لكي يُجاهد)، فإنّ نفس تصوّر أنّها ستُحرم من رؤيته والأنس به لمدّة من الزمان يُصيبها بالغمّ، حيث يظهر هذا الشعور السلبيّ في الإنسان حين ابتعاده عن المحبوب، بخلاف الإحساس بالسرور الذي ينبثق فيه جرّاء الأنس بهذا المحبوب. فحينما يريد الابن أن يفترق عن أمّه، فإنّ هذه الحالة تشتدّ، وتبلغ أوجها، ممّا يفضي إلى ظهور شعور قويّ عند الأمّ، فتسيل دموعها، ويكون مصدر هذا الشعور والبكاء تلك العاطفة بعينها. نعم، إذا رحل الولد عن أمّه دون أن يُودّعها، فإنّها ستنزعج فترةً من الزمن، إلّا أنّها ستعتاد على الفراق تدريجيًا، ولن يشقّ عليها الأمر بعد ذلك كثيرًا، لكن، إذا ودّع أحدهما الآخر، فإنّ هذه الحالة ستبقى حاضرة في وجودها دائمًا، ولو أنّ مرور الأيّام قد يترك تأثيره في هذه الحالة الخاصّة، فيُضعفها. فوداع الابن يُؤدّي إلى تثبيت هذه العاطفة والمحبّة الصادرة عنها، بحيث إنّ الأمّ ستظلّ تتذكّر ابنها طيلة المدّة التي غاب فيها عنها. ويُعدّ هذا مثالًا على ما يحدث على مستوى الشعور الفردي للأمّ تجاه ابنها.
هناك إذًا العديد من العواطف التي تنشأ منها نشاطات مختلفة في حياتنا. ولو فرضنا عدم وجود العواطف والأحاسيس، لكان مجرّد العلم بواقعيّة ما والالتفات إليها غير كافٍ للتحريك نحو هذه الواقعيّة. فمصدر عامّة أفعالنا يتمثّل في أمور عاطفيّة تكون بمثابة محرّك مكنون في وجودنا، وتصدق هذه الحقيقة على المسائل الاعتباريّة والاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها. وإنّ الوداع والعواطف المكتنفة به لا يختصّ بالأمّ والابن، بل تحصل هذه الحالات أيضًا لصديقَين يفترقان عن بعضهما ويُودّع أحدهما الآخر. وحينما تصل هذه العمليّة إلى مستوى المجتمع، فإنّها تخرج من حالتها الفرديّة، وتتّخد طابعًا اجتماعيًّا، فتتبلور بصورة جماعيّة وفقًا للأهداف والعواطف المشتركة والأحاسيس الخاصّة الموجودة بين الأفراد. فالأحاسيس والعواطف الدينيّة سواء كانت على شكل عزاء (نظير ما نُشاهده في أيّام محرّم)، أو على شكل فرح وسرور، هي نماذج عن تلك العواطف والأحاسيس الاجتماعيّة. وحينما يتكرّر حصول هذه الأمور في المجتمع، تنبثق عنها مجموعة عادات وتقاليد. ومن هنا، فقد تبلورت للوداع ثلّة من العادات والتقاليد التي ظهرت على شكل أعراف دينيّة كوضع القرآن على رأس المسافر، أو في قالب تقاليد عرفيّة كإحضار الماء والعشب الأخضر للمسافر [وإلقاؤهما أمامه].
- العقل والشرع عنصران مسيطران على العواطف
لا تعرف العواطف والأحاسيس بذاتها أيّ حدّ؛ فلا يمكن للعاطفة أن تُعيّن لنفسها المحلّ الذي لا ينبغي أن تنوجد فيه، أو الظروف التي ينبغي أن تتحقّق فيها، وأين تكمن نقطة ذروتها، وما هي الحالة التي تنتهي فيها، بل إنّ الظروف الفرديّة والاجتماعيّة المتعدّدة، والعلاقات الاجتماعيّة، والاعتبارات العقليّة والعرفيّة تتعاضد فيما بينها، فتُؤدّي إلى إيجاد أرضيّات مختلفة تُساهم في تأثير العواطف والأحسايس في أعمالنا. وبما أنّ العواطف لا تخضع بذاتها إلى أيّ حدّ معيّن، فإنّنا قد نقع أمامها في الإفراط أو التفريط. وباعتبار أنّ الإنسان موجود مكلّف، وينبغي عليه اختيار نوعيّة سلوكه، فإنّه يحتاج إلى عنصر آخر يقيه من الوقوع في الإفراط أو التفريط عن طريق تعيين حدّ لعواطفه وأحاسيسه، إذ من شأن هذين الأخيرين إلحاق الضرر به.
ومن هنا، أودع الله تعالى في وجود الإنسان قوّة العقل ليُسيطر على عواطفه وأحاسيسه. ولا يخفى أنّ للعقل معانٍ اصطلاحيّة مختلفة، غير أنّ المراد منه هنا القوّة المسيطرة على العواطف والأحاسيس. فحين تناول الطعام، يقول هذا العقل: “مع أنّك لا زلت تشتهي الطعام، إلّا أنّه ينبغي عليك مراعاة الحدود، فلا تُفرط في الأكل حتّى لا تُصاب بقسوة القلب، ولا تُفرّط فيه، فتُصاب بالضعف والعجز عن أداء التكاليف”، فشأن هذه القوّة هو خدمة العواطف والأحاسيس، وهدايتها؛ وبوسعنا تشبيه العقل بإنسان يمتطي فرسًا جموحًا، فيكون مضطرًّا للإمساك بلجامه جيّدًا، فيُرخيه في الوقت المناسب، حتّى يتحرّك الفرس، ويشدّه في الوقت المناسب، فنرى هنا أنّ القوى الإنسانيّة تخضع لسيطرة هذا الراكب الذي ينبغي عليه التحكّم فيها.
يتمتّع الإنسان إذًا بهذه النعمة، كما أنّه يُدرك بنحو عامّ وظيفة العقل هذه. لكن، بما أنّ العقل عاجز عن تعيين الحدود بشكل صحيح في جميع الظروف، فإنّه يحتاج إلى إرشادات الوحي؛ ممّا يعني أنّ التعاليم الإلهيّة هي صاحبة القرار الأخير. والمسألة الأخرى أنّ كلّ من يُحسن الاستفادة من قوّة العقل وأوامر الشرع، فإنّه يحصل على نوع آخر من السيطرة على أفعاله، وهي عبارة عن سيطرة إلهيّة؛ إذ يكون الله تعالى هو المدبّر لأعمال هذا الإنسان، فيُفهمه أشياء أرقى من المفاهيم الذهنيّة والعقليّة، ويُطلعه على كلّيات المسائل المبثوثة في الكتاب والسنّة، حيث يتمكّن أفراد هذا حالهم من إدراك مجموعة من الحقائق بالشهود، ويتعرّفون على أمور تُعينهم على العثور على الطريق الصحيح، والظفر بالمصالح الواقعيّة.
- المبادئ النظريّة للثقافات ومصدرها الصحيح أو الخاطئ
وقوع الخطأ في الاستدلالات العقليّة أو الاستنباطات الشرعيّة قد يكون سببًا لإنشاء مجموعة من العادات والتقاليد الخاطئة. فإذا لم يُؤدّ العقل، الذي يقع على عاتقه وضع هذه العادات والتقاليد، وظيفته بشكل صحيح، أو أنّ المُستَنِدَ في معرفة من المعارف إلى الوحي قصّر أو أخطأ في فهم هذا الوحي، فإنّ هذا الخطأ قد يكون سببًا في إيجاد عادات وتقاليد مجانبة للصواب ومخالفة لما يقتضيه كلّ من العقل والوحي. فعند الاستعانة بالعقل، يتعيّن في العديد من الموارد إقامة الدليل، ومن الممكن وقوع الخطأ عند صياغة الاستدلال، كالأخطاء التي يُبحث عنها في باب المغالطات من المنطق. وعليه، قد يسلك العقل جرّاء وقوعه في الخطأ مسارًا خاطئًا في الموضع الذي تقع فيه على عاتقه مهمّة القيادة. كما أنّ هذا الخطأ قد يقع في المجال الديني أيضًا، وذلك حينما يتعامل الذين لا يسلكون طريقًا ومنهجًا قويمًا في الفقه وفهم الدين مع المصادر الدينيّة بنحو سطحيّ، فرغم كونهم يفتقرون للكفاءة اللازمة، إلّا أنّهم يستعجلون في الحكم، ويُصدرون فتاوى متسرّعة، أو أنّهم يُخطئون في الاجتهاد بسبب نقص المصادر، أو لأيّة علّة أخرى، حيث يعملون في الحقيقة على وضع أسس خاطئة لبناء العادات والتقاليد.
فإذا صارت هذه الأخطاء الواقعة في مجال النظريّات العقليّة والدينيّة مصدرًا لتبلور العادات والتقاليد، فإنّ هذه العادات والتقاليد ستكون خاطئة. وعلى العكس من ذلك، إذا أحسن العقل أداء وظيفته في الهداية، وتمكّن جيّدًا من السيطرة على العواطف، فإنّه سيقوم حين ولوجه إلى المجتمع بتوفير أسس صلبة تقوم عليها الاعتبارات الاجتماعيّة، ويُساهم في تبلور عادات اجتماعيّة مفيدة. فكما نعلم، تندرج العادات والتقاليد في مقولة الثقافة، فتُشكّل العادات والتقاليد المختلفة ثقافات مختلفة. وهنا، تتّضح الإجابة على السؤال التالي: هل نحن نمتلك ثقافة خاطئة أم لا؟ حيث بوسعنا القول في الجواب: ينبغي علينا البحث عن مصدر تشكّل العادات والتقاليد الاجتماعيّة التي تتبلور في الثقافات الفرعيّة، فإذا أدّى العقل المهمّة الملقاة على عاتقه في مجال وضع الأسس والقواعد بنحو جيّد، وتمكّن من توفير مبادئ صحيحة عند صياغة العادات والتقاليد، بحيث تتشكّل هذه العادات والتقاليد الاجتماعيّة وفقًا لما يقتضيه العقل والشرع، فإنّ الثقافة هنا ستكون صحيحة، وإلا ستكون خاطئة.
ومن باب المثال، جاء في القرآن الكريم أنّ الأنبياء حينما خطّؤوا المشركين وعبّاد الأوثان، ونهوهم عن عبادة الأصنام، فإنّ هؤلاء أجابوهم بقولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُون﴾[1]؛ وباصطلاح سوسيولجيّ، إنّهم ردّوا عليهم بأنّ هذا العمل يندرج في ضمن عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعيّة، ويُشكّل جزءًا من هويّتنا الاجتماعيّة، حيث كان آباؤنا وأسلافنا يؤدّون الأعمال ذاتها، وقد كان مجتمعنا يحترمهم ويُقدّسهم. وعليه، فإنّ المراد من الآية الآنفة الذكر أنّ عبادة الأوثان قد برزت في تلك المجتمعات على شكل ثقافة؛ فأصل هذه العبادة يرجع في جذوره إلى أفكار خاطئة صارت مصدرًا لعواطف اجتماعيّة ودينيّة خاطئة، ممّا أفضى إلى ظهور ثقافة فاسدة. ولهذا، فقد كان الأنبياء (عليهم السلام) يقولون: “هل يجب عليكم اتّباع آبائكم، ولو كانت أعمالهم مخالفة للعقل والحقّ؟”.
- حبّ الله تعالى منشأ لحبّ شهر رمضان المبارك
ولنعُد الآن إلى البحث عن مسألة توديع شهر رمضان المبارك وأهمّيتها. فنحن – بصفتنا منتمين للأمّة الإسلاميّة – لا نُدرك عظمة الله تعالى إلّا بمقدار ما نعرفه. وعندما نتعرّف على النعم الإلهيّة، فإنّ محبّة البارئ عزّ وجلّ تنبثق في قلوبنا شئنا أم أبينا، فلا يُقال في علم النفس لهذا النوع من العلاقة مع الله تعالى عاطفة، بل حقيقتها هي المحبّة. وإننا نؤدي على أساس هذه المحبة مجموعةً من الأعمال، بعضها يُدرك العقل ارتباطه بهذه المحبّة، فيُجيزه؛ لكنّ معظمها يخرج عن حيطة العقل، فيكون الله تعالى ورسوله هما المحدّدان له. إنّ هذه العلاقة حاضرة في كافّة سلوكياتنا الاجتماعيّة وتقاليدنا الدينيّة، كما أنّنا قادرون على اكتشافها.
فجميع هذه الأمور تُساهم – بنحو ما – في هداية القوى المحرّكة التي غرسها الله تعالى في وجودنا، حيث إنّ هذه القوى لا تتمتّع – بحدّ ذاتها – بالشعور والإحساس، كما أنّها لا تقدر على تحديد اتّجاهها وحدودها الخاصّة، بل هي لا تصير فعّالةً، ولا تتعيّن حدودها، إلّا بواسطة العقل والوحي. يقول الله تعالى لعباده: “عليكم أن تسعوا في كلّ سنة ولمدّة شهر واحد إلى تعديل غرائزكم المرتبطة بالأفعال الحيوانيّة (الأكل والشرب والنكاح و…) وفقًا لما ورد في أحكام الصوم”؛ فهذه هداية وهبها الله تعالى لنا لكي نتمكّن عن طريقها من تعديل القوى المحرّكة في باطننا. ومن هنا، يُعدّ صيام شهر رمضان المبارك من الأسباب التي تُساهم في تحقيقنا للسعادة؛ ومن الطبيعيّ – والحال هذه – أن نُحبّ كلّ شيء يُفضي إلى سعادتنا، حيث تنشأ هذه المحبّة من محبّة الله تعالى. فمحبّة الله تعالى تتفرّع عنها محبّة دينه، ومحبّة دين الله تنشأ منها محبّة أحكام الدين، كما تنبع من محبّة هذه الأحكام محبّة متعلّقاتها (نظير زمان ومكان تطبيقها). وبهذا، فإنّ شعاع المحبّة الإلهيّة يُشرق إلى أن يصل إلى شهر رمضان المبارك؛ فكلّما قويت هذه المحبّة، ازدادت محبّة الدين، والشعائر الإسلاميّة، وشهر رمضان المبارك، والصيام، و…، وتُعدّ هذه المعادلة طبيعيّة.
نعم، يبقى أنّ أفراد الإنسان لا يتساوون، فممّا لا شكّ فيه أنّ معرفتنا بالله تعالى والشعائر الإسلاميّة ومحبّتنا لهما لا يُمكن مقارنتها بمعرفة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ومحبّتهما، إذ يوجد بيننا وبينهم فارق شاسع في هذا المجال، بحيث لو أدركنا هذا الفارق بحقّ، قد نُصاب باليأس من أنفسنا. ولهذا، من الأفضل أن لا نُفكّر كثيرًا في حساب هذا الفارق. يقول أئمّتنا المعصومون (عليهم السلام): “خياركم بالنسبة إلينا مثل نور أصغر نجمة بالنسبة إلى نور الشمس”. ومن ناحية ثانية، فإنّنا – نحن الناس العاديّون وغير المعصومين – نختلف مع بعضنا من حيث معرفتنا بالله تعالى ومحبّته أيضًا، فبعضنا ثبتت أقدامهم في مقام العمل، فتجدهم مستعدّين للتضحية بأرواحهم في سبيل الحفاظ على حكم إلهيّ واحد؛ لكنّ البعض الآخر لا يُقدّم أيّ شيء لدين الله تعالى بأجمعه، بل تراه يصحب الدين ما دام لم يوقعه في أيّ تعب أو مشقّة.
- صعوبة فراق شهر رمضان المبارك بالنسبة لأحبّاء الله تعالى
يحكي بعض المقرّبين من السيّد الخمينيّ (رضوان الله تعالى عليه) عنه هذه القصّة: “حينما كان يتوضّأ، فإنّه وعوضًا عن الوقوف أمام صنبور الماء، كان يقف جانبًا، ويتوضّأ؛ فدفعنا فعله هذا إلى التساؤل، إلى أن تمكّنت في الأخير من سؤاله عن علّة ذلك، فأجابني قائلًا: “أريد من ذلك أن أواجه القبلة””. ومن هنا، نفهم أنّه (قدّس الله سرّه) كان يُراعي الأحكام الشرعيّة كثيرًا إلى درجة أنّه كان يسعى إلى التوجّه نحو القبلة حين الوضوء. فإنك تجد من ناحية شخصًا محبًا لمراعاة الأحكام الدينيّة إلى هذا الحدّ، وتجد من ناحية أخرى شخصًا لا يهتمّ حتّى بمراعاة العديد من الأحكام القطعيّة.
وإنّ محبّتنا لشهر رمضان المبارك تختلف بهذا النحو، حيث يوجد بيننا من يشقّ عليه اقتراب هذا الشهر والصبر على صومه، ويشعر بثقل كبير عند حلوله، مثلما أنّ حلول وقت الصلاة لا يكون مرحّبًا به عند الكثير من الناس الذين لا تجدهم يشتاقون كثيرًا إليها، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعينَ﴾[2]، فالصلاة بمقتضى هذه الآية كبيرة وثقيلة بالنسبة لعامّة الناس، باستثناء أهل الخشوع والأنس بها، فهم فقط الذين يلتذّون بها، بخلاف الآخرين الذين لا يأنسون بهذه الفريضة الإلهيّة، بل يُؤدّونها بمشقّة، وتراهم حين أدائها ينتظرون وقت انتهائها؛ هذا، مع أنّ لله تعالى عبادًا لا يملّون من الصلاة، وبعد انقضاء هذه العبادة ينهمكون في أداء التعقيبات، ولا يرغبون في الانقطاع عن التوجّه إلى الله تعالى ومناجاته. وقد شاهد صاحب هذه الكلمات بأمّ عينيه كيف كان سماحة السيّد القائد وكذلك بعض العظماء ينهمكون بعد الصلاة في أداء التعقيبات، من دون أن يُحرّكوا وجوههم لفترة من الزمن.
إنّ حلول شهر رمضان المبارك ووقت الصيام له مثل هذه العلاقة بالناس، فتجد بعضهم وكأنّهم يستوحشون عند اقتراب مجيئه، فهم في قلق دائم من أنّهم لن يتمكّنوا في هذا الشهر الفضيل من الأكل والشرب بكلّ راحة؛ لكنّك ترى البعض الآخر ينتظرون قدومه قبل شهرين من وقت حلوله، ويصومون هذَين الشهرَين احتفاءً به. في إحدى السنوات، كنت متواجدًا في شهر رجب في دولة كينيا، فأخبرني الأصدقاء في السفارة أنّ أحد الموظفّين المحلّيين العاملين في السفارة يصوم كلّ سنة الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان، فهذا الأخ المسلم الذي يرجع أصله إلى الهند كان يصوم في قلب إفريقيا كلّ سنة ثلاثة أشهر، ويستبق الصيام لشهرَين رعايةً لحرمة شهر رمضان المبارك. إنّ انقضاء شهر رمضان المبارك بالنسبة لهؤلاء الوالهين بالشهر الفضيل هو مثل فقد إنسان عزيز عليهم، أو على الأقلّ مثل ذهاب هذا العزيز في سفر طويل، بحيث لن يتمكّنوا من رؤيته طيلة سنة كاملة. فبعض الأفراد نجدهم في الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك يبكون حقيقةً بسبب لوعة الفراق، ويحزنون بحقّ متى ما تذكّروا أنّ أيّامًا قليلة تفصلهم عن نهايته. إن من الممكن أن تُثير هذه الحالة تعجّبنا ونتساءل مع أنفسنا: ما هو سبب حزن هؤلاء؟ فقد أدّوا ما عليهم من صيام، وأنجزوا تكاليفهم على أحسن وجه، وعليهم الآن أن يتوقّعوا الحصول على الجزاء، أي ينبغي أن يعيشوا حالة الدائن، فلماذا يبكون ويحزنون لانقضاء هذا الشهر؟! إنّ هذا التساؤل والتعجّب ناشئ من قلّة معرفتنا بالله تعالى وبدينه، وضُعف محبّتنا لهما، بحيث يسري ذلك حتّى إلى الشعائر والتعاليم الدينيّة أيضًا. فهذا الضعف في معرفة الأحكام الدينيّة ومحبّتها نابع عن نقص في معرفة البارئ عزّ وجلّ ومحبّته سرى إلى المراتب الأدون. وفي الحقيقة، فإنّ هذا المنبع هو الذي يُنظّم أفعالنا وسلوكياتنا. وبعبارة أخرى، إنّ أفعالنا تجلّيات لذلك المنبع. يقول الإمام السجّاد (عليه السلام) عن شهر رمضان المبارك: “فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا”. والوحشة تقع في مقابل الأنس، فحينما يأنس الإنسان بأحد، ثمّ يفترق عنه، فإنّه يشعر بالوحدة، ويُعبّر عن هذا الشعور بالوحدة والغربة الناتج عن فراق المحبوب بواسطة الفعل “أوحش”.
- علاقة العادات الاعتباريّة بالواقع
“وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ”؛ ما هي العلاقة القائمة بين هذه العادات والتقاليد الاجتماعية بصفتها أمورًا اعتباريّة، وبين الواقع وحكم العقل؟ بل ولماذا يضع العقلاء – في الأساس – هكذا عادات وتقاليد؟ كأن يُعيّنوا مثلًا أحد الأيّام كعيد، فيملؤوا المدينة بالزينة، أو يعتبروا في المقابل يومًا آخر يوم حزن وعزاء، فيغمروا كلّ مكان بالسواد؛ فما هي علاقة هذه الأمور بحكم العقل؟ الجواب هو: بشكل عامّ، تُوضع الاعتبارات العقلائيّة دائمًا على أساس مجموعة من المصالح؛ ومن باب المثال، حينما يشتري الإنسان بضاعة، ويبذل مقابلها مالًا، فإنّ هذه البضاعة تُصبح منذ ذلك الحين فصاعدًا مملوكة له، ويصير المال مملوكًا للبائع، حيث يُشكّل هذا الأمر نموذجًا عن العقود. فهذه العقود والاعتبارات العقلائيّة تتبلور بهدف تحقيق مصالح، أي إنّ هكذا اعتبارات إنّما توضع لأجل هذه المصالح، كما أنّ العقل يقول: لا يُمكن تحقيق مصالح المجتمع، إلّا عن طريق وجود مبادلات اجتماعيّة، وإلّا، لو أراد كلّ واحد أن يسدّ حاجاته بنفسه، فلن يتقدّم المجتمع. فصحيح أنّ هذه العقود اعتباريّة ولا تتمتّع بواقعيّة خارجيّة، إلّا أنّها مقدّمة لتحقيق مجموعة من الواقعيّات. فحينما نعتبر إحدى المعاملات، فإنّنا نستفيد أيضًا من آثارها ونتائجها الواقعيّة. وعلى سبيل المثال، عندما نعتبر مبادلة بين الخبز والنقود، فإنّنا نأكل الخبز الذي يطبخه الخبّاز، فأكل الخبز فعل حقيقيّ، لكنّه مترتّب عن عقد اعتباريّ.
وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للعادات والتقاليد الاجتماعيّة التي تُعتبر بسبب وجود مصالح، بحيث إذا كانت صحيحة (أي موضوعة أو مؤيّدة من قبل العقل أو الشرع)، فإنّها ستكون منشأً لمجموعة من المصالح الواقعيّة.
وبدورها، فإنّ مراسم الوداع عبارة عن عقد وعادة اجتماعيَّين تتمّ صياغتهما على أساس مصالح أبرزها ترسيخ العواطف والأحاسيس، وترتيب آثار عمليّة عليها. فحينما تُودّع الأمّ ابنها حين سفره، فإنّ ذلك يُفضي إلى ترسيخ ذكر الابن في ذهنها، فتدعو له كلّ يوم؛ فمع أنّ الوداع مسألة اعتباريّة، لكنّها تُصبح منشأً لأمور واقعيّة، إذ يُؤدّي الوداع إلى أن يكون قلب الإنسان في ذكر دائم لأحبّته، فيدعو لهم، ولا يغفل عن تفقّدهم وخدمتهم. فهذه المسائل تستتبع بالنسبة للذين يُؤدّونها بدافع دينيّ جزاءً أخرويًّا أيضًا، حيث إنّ الدموع التي تنهمل حين وداع شهر رمضان المبارك لها ثواب يُحصّل نتائج واقعيّة للإنسان في الآخرة. فشعاع التأثير العاطفيّ لهذا الوداع يبقى في وجود الإنسان مدّة طويلة، ويمنعه لفترة من ارتكاب المعاصي، كما يزيد من رغبته في العبادة. وعليه، صحيح أنّ هذه العادات والتقاليد اعتباريّة، لكنّها إذا كانت صائبة، فإنّها ستستتبع مصالح اجتماعيّة عظيمة، شأنها في ذلك شأن بقيّة الاعتبارات العقلائيّة.
يحظى تعظيم شعائر الله تعالى بأهمّية بالغة، حيث يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[3]، فإذا ما نُسيت هذه الشعائر في المجتمع، ولم تلق العناية اللازمة، فإنّ الناس الذين يتعيّن عليهم الاستفادة منها سيُحرمون منها، ممّا سيُعرّضها للاندثار تدريجيًّا. فلو اختفت مجالس العزاء من البلد لسنة واحدة، لحُرم الناس من آثار وبركات هذه المجالس بشكل طبيعيّ، وقد صادفت مرحلة طفولتي منع عقد مجالس العزاء من قبل رضا خان، وأتذكّر كيف كان عملاء الحكومة يتصدّون لإقامة هذه الشعيرة الإلهيّة. وبطبيعة الحال، حينما يبقى الوضع كذلك، فإنّ الناس يُحرمون تدريجيًّا من بركات هذه الشعائر. إنّ إحياء الشعائر من أعظم العبادات، كما أنّ الله تعالى اعتبرها في كتابه الكريم نابعة من التقوى وطهارة القلب.
وخلاصة القول، إنّ الوداع – بما هو عادة وعقد اجتماعيّ – يستتبع نتيجة عقلائيّة، حيث بوسعنا مشاهدة مثل هذه النتيجة الواقعيّة في وداع شهر رمضان المبارك أيضًا. وفي الحقيقة، فإنّ ذلك سيُؤدّي إلى ترسيخ الميثاق الذي عقدناه مع الشهر الفضيل، والعهد الذي أخذه الله تعالى علينا، ويُقوّي عبوديتنا للبارئ عزّ وجلّ. وهذا هو معنى كلام الإمام السجّاد (عليه السلام) الذي قول فيه: “وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ”. وعندما تُستخدم في عبارات نظير هذه ألفاظ بصيغة اسم المفعول، فإنّها تكون بمعنى: “من شأنه أن يُفعَل”، أي إنّ مقتضى الحقّ هو أداء هذا العمل، نظير ما ورد في الآية القرآنيّة الكريمة التي يقول البارئ تعالى فيها: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا﴾[4]، أو الآية التي جاء فيها: ﴿وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾[5]. ومن هنا، فإنّ المراد من كلمة “المحفوظ” في تلك العبارة من الدعاء أنّه ينبغي أن يبقى محفوظًا، كما أنّ كلمة “المرعيّة” الواردة في تتمّة العبارة تعني: تلزم مراعاتها، و”المقضيّ” تعني أنّه يتوجّب قضاؤه.
[1] سورة الزخرف، الآية 22.
[2] سورة البقرة، الآية 45.
[3] سورة الحجّ، الآية 32.
[4] سورة الأنفال، الآية 42، والآية 44.
[5] سورة الأحزاب، الآية 38.
** من كتاب وداع الربيع الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المقالات المرتبطة
الحمد والشكر
من جملة النعم المعنوية التي يشير إليها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الدعاء ويأتي على حمدها وشكرها: نعمة شهر رمضان المبارك وبَحر النعم التي جعلها الله لعباده في هذا الشهر.
مسألة الشر عند الفيلسوف الشيخ مصباح اليزدي
يمثل الشر ظاهرة إنسانية ارتبطت بوجود الإنسان على الأرض منذ بدء الخليقة، وهو من أقدم المباحث التي طرحها الفلاسفة والمفكرين
عناية الله بالشاكرين
لا شكّ في أنّ الحمد والثناء بذاتهما نعمةٌ عظيمة لا ينالها جميع الأشخاص. نحن جميعًا مغمورون بالنعم، ولكنّ التوجّه إلى تلك النعم وبيانها ونشرها ليس بالعمل الذي نوفّق إليه جميعنا.