أعظم شهور الله وعيد أحبابه
“فَنَحْنُ قَائِلُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ وَيَا عِيدَ أَوْلِيَائِهِ”.
- تحليل لوداع الموجودات غير الشاعرة
توديع الأصدقاء والأقارب وذوي الحقوق من الآداب الاجتماعيّة السائدة في جميع المجتمعات، والتي أقرّها الدين الإسلاميّ، وعمل بها قادتنا، أي الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام). وقد تحدّثنا سابقًا عن أصل مسألة الوداع وفوائدها، وخلُصنا إلى أنّه متى ما أحبّ الإنسان شخصًا، وتقرّر أن لا يراه فترة معيّنة، فإنّ نوعًا خاصًّا من التركيز والانتباه يحصل له تجاهه، ممّا يُفضي إلى ترسيخ العواطف التي يُكنّها له؛ وبالتالي، ستترتّب على هذا الأمر مجموعة من اللوازم العاطفيّة، كالذكر والتبجيل. ولوجود هذه الفوائد والمصالح، فإنّ العقلاء يُؤسّسون تقاليد اجتماعيّة مرتبطة بالوداع، كما أنّ الشعوب والأمم تسعى لمراعاة هذه التقاليد.
ومن فوائد الوداع الاعتراف بالجميل أمام الطرف المقابل؛ فمن باب المثال، يُعتبر الوداع أثناء رحيل شخص اشتغل في محلّ معيّن لمدّة من الزمن، أو تربطه علاقة صداقة مع أصحاب ذلك المحلّ، نوعًا من ردّ الجميل لهذا الشخص، وتبجيله، ولهذا السبب، يُؤتى في مقام الوداع بعبارات تدلّ على هذا الأمر، نظير: “لقد تفضّلتم علينا”، “لقد أتعبتم أنفسكم” و”كم كان تواجدكم مفيدًا بالنسبة إلينا!”. وبسبب هذا التبجيل والاعتراف بالجميل، فإنّ الطرف المقابل سيُسرّ، ويُعرب عن شكره، ويُشكّل له ذلك دافعًا لتقديم خدماته إذا سنحت له الفرصة مرّة أخرى.
لكن، يبقى أنّ شهر رمضان المبارك ليس موجودًا عاقلًا وشاعرًا حتّى نودّعه، ونقول له: “لقد أتعبت نفسك كثيرًا لأجلنا، ونحن لا نستطيع ردّ جميلك”، فيفرح، بل إنّ وداع هذا الشهر الفضيل هو في الحقيقة نوع آخر من الأمور الاعتباريّة. بيان ذلك: أنّ الإنسان يُسري في بعض الحالات الأمورَ المرتبطة بالعقلاء إلى غير العقلاء، فيضع هنا اعتبارًا جديدًا نوعًا ما، حيث إنّ الحكمة والمصلحة في هكذا اعتبار تتمثّل في أنّ الأصل هو أداء حقّ الموجود الشاعر الذي تتعلّق به الأفعال وشكره، لكنّ المخاطب في الظاهر وفي مقام الحوار موجود غير عاقل. ويبقى أنّ هذا الكلام يصحّ ما لم ننتبه إلى حقيقة أنّ كافّة الموجودات تمتلك شعورًا وإدراكًا بنحو ما، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ﴾[1][2]. ولكن حتّى الذين لا يعتقدون بهذه الحقيقة نجدهم يقومون بالعمل ذاته (أي يُسرون الأمور المرتبطة بالعقلاء إلى غير العقلاء).
والسرّ في ذلك أنّ وداع الأشياء هو في الحقيقة نوع من الاعتراف بالجميل لصاحب هذه الأشياء أو الأمكنة أو الأزمنة التي استفاد منها الإنسان. ووداع شهر رمضان المبارك يبتني على المسألة ذاتها، فإنّ المخاطب الرئيسيّ في وداع شهر رمضان المبارك هو الله تعالى، أي خالق شهر رمضان، وهادي الإنسان لبركات هذا الشهر الفضيل وتكاليفه، لكن بما أنّ متعلّق التكليف هو شهر رمضان المبارك، وبما أنّ العقلاء قد يعتبرون للأشياء شعورًا وإدراكًا، فيُبرزون محبّتهم تجاهها، فقد جُعل شهر رمضان مخاطبًا هنا. وإلّا فإن صفحة قلب الإمام (عليه السلام) هي في الحقيقة مع الله تعالى، منهمكة بشكره والإطراء عليه.
ومن الفوائد الأخرى للوداع أنّه يكون سببًا لتوجّه المودّع إلى الآثار والبركات التي يحظى بها الشخص أو الشيء الذي يُودّعه، وسببًا لسعيه للحفاظ عليها، لأنّ الإنسان لا يعرف قدر النعم الإلهيّة، إلّا إذا انتبه إلى آثارها وبركاتها، وأمّا إذا غفل عنها، فإن الوداع بالنسبة إليه وحزنَ الفراق لا يعني شيئًا. فهذه الآثار تترتّب على الوداع. وما جعل عقلاءُ العالم هذه العادات والتقاليد إلّا لأجل تلك الفوائد والمصالح. ومن هنا، واعتمادًا على هذه الحقائق، يقول الإمام السجّاد (عليه السلام): “يا شهر رمضان، لقد رحلت، لكنّنا بقينا مدينين لك، ومتمسّكين بالميثاق الذي عاهدناك عليه؛ فأنت رحلت، لكنّ حرمتك لا زالت محفوظة، وسنسعى لمراعاتها”.
- شهر الله تعالى الأعظم
في تتمّة الدعاء، يُخاطب الإمام (عليه السلام) شهر رمضان المبارك، مستعرضًا بالتفصيل ذلك العهدَ والحرمة والحقّ من خلال كلماته وتسليماته، حيث بوسعنا أن نكتشف من هذه التسليمات الحقوق التي لشهر رمضان المبارك علينا، وكيفيّة المحافظة عليها.
“فَنَحْنُ قَائِلُونَ [الآن بعدما تحتّم علينا وداع شهر رمضان]: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللَّهِ الْأَكْبَرَ وَيَا عِيدَ أَوْلِيَائِهِ”؛ ففي هذا السلام، يُودّع الإمام (عليه السلام) شهر رمضان المبارك، ويُخاطبه بصفتَين: شهر الله الأكبر، وعيد أولياء الله تعالى؛ وأمّا المسائل الواردة في الكلمات والتسليمات اللاحقة، فهي تفصيل لهاتَين العبارتَين؛ فالصفتان الرئيستان لشهر رمضان المبارك مكنونتان في هاتَين الجملتَين، حيث يتوجّب علينا الالتفات لهاتَين الصفتَين إذا أردنا أداء حقّ هذا الشهر، ومعرفة قدره، والحفاظ على بركاته؛ فهو أعظم شهور الله تعالى، وإذا تمكّنا من التعرّف على هذه الصفة، فإنّنا سنقدر أكثر على أداء شكره، كما سنحزن أكثر – بطبيعة الحال – على فراقه.
- الشرف الإلهيّ الذي يتمتّع به شهر رمضان المبارك
وفي هذا المقام، يُطرح علينا التساؤل التالي: ما هو معنى “شهر الله”؟ فحينما ننسب شخصًا أو شيئًا إلى شيء آخر، فإنّ هذه النسبة تتحقّق بدواعي مختلفة. فعلى سبيل المثال، قد ننسب جزء شيء إلى ذلك الشيء، كما قد يكون المضاف من آثار المضاف إليه ومتعلّقاته. لكن، أحيانًا، قد تكون النسبة ناشئةً من أنّنا نريد تسليط الضوء على منزلة المضاف وقدره، ولهذا السبب، فإنّنا ننسبه إلى شيء أو شخص له مكانة عالية جدًّا، حتّى تتبيّن في ظلّها منزلة المضاف، ويُقال لهذه النسبة: الإضافة التشريفيّة، لأنّ المضاف يكتسب شرفًا من المضاف إليه. وعلى سبيل المثال، يُطلق على المسجد الحرام اسم “بيت الله”، مع أنّ الله تعالى لا يحتاج بتاتًا إلى أيّ بيت، بل ويستحيل أن يحويه تعالى ظرف مكانيّ، فالغاية الحقيقية من ذكر هذه النسبة هو بيان أهمّية هذا المكان للمستمعين حتّى تنكشف لهم منزلته. فالله تعالى اعتبر المسجد الحرام بيته، لكي يجعله محلًا آمنًا لعبادة عظيمة، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمينَ﴾[3]، وبذلك، فقد رتّب البارئ عزّ وجلّ العديد من الآثار والبركات التكوينيّة والتشريعيّة على هذا المكان؛ ولأجل أن يعرف الناس قدره، ويُدركوا عظمته في ظلّ عظمة خالقهم تعالى، فإنّه قال: “إنّ هذا المكان بيتي”. ومن الجدير بالذكر أنّ مثل هذه النسبة مطروحة أيضًا بشأن الزمان، ببيان أنّ الأزمنة التي خلقها الله تعالى لا تحظى لوحدها ومن دون اعتبار مسائل أخرى بأيّ شرف، بل تكون في ذلك مضاهيةً لبقيّة الأشياء الأخرى؛ لكنّنا نجد أنّ بعض الأزمنة – وكذلك بعض الأمكنة والأتربة والأخشاب والمعادن و… – تتّصف بالشرف بسبب انتسابها إلى الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، فتصير حينئذ وسيلةً لشفاء الأمراض وقضاء الحوائج؛ أي إنّ الله تعالى يُنجّي المرضى عن طريق هذه الأشياء، حيث تُعدّ هذه المسائل من الحقائق التي يتعذّر علينا إدراكها بنحو حقيقيّ.
يقول الشيخ آية الله خزعلي: “بعدما صار كربلائي كاظم حافظًا للقرآن ومطّلًعا على بركات آيات هذا الكتاب السماويّ بمعجزة إلهيّة، كانوا يأتون به عند العلماء لكي يمتحنوه؛ فأحضروه – في ضمن ذلك – عند آية الله البروجرديّ رحمة الله عليه، وقد تعدّت شهرته حدود إيران، حيث ذهبوا به إلى جامعة الأزهر بمصر، واختبره العلماء المصريّون. لقد كان إنسانًا عجيبًا جدًّا: كان قرويًّا بسيطًا جدًّا، وكان يرتدي لباسًا غايةً في البساطة، ويجلس بكلّ راحة على التراب، أعلى الله تعالى مقامه، وجعلنا من المشمولين بدعائه في ذلك العالم. حينما أتى إلى قمّ، كتبت على ورقة واوَين: إحداهما بنية أنّها من القرآن، والأخرى بنية أنّها من الحروف العادية، فوضع كربلائي كاظم يده على تلك التي كتبتها بنية أنّها من القرآن، وقال: “هذه لها نور، والأخرى لا نور لها!”. وقال آية الله الشيخ مرتضى الحائريّ رحمة الله عليه: “لقد وضعت أمامه كتاب جواهر الكلام؛ ومع أنّه كان أمّيًا، إلاّ أنّه كان يضع يده على الآيات القرآنيّة، ويقول: هذه لها نور، لكنّ بقيّة الكلمات لا نور لها!””.
فما هي العلاقة القائمة بين النية والكتابة، بحيث يكون لدينا حرفان متشابهان كُتبا بالقلم ذاته، وعلى نفس الورقة، لكنّ أحدهما نورانيّ، والآخر غير نورانيّ؟ وما الذي يحدث للخشب والمعدن المستعملَين في بناء حرم سيّد الشهداء، والمنتسبين إليه (عليه السلام)، بحيث تصير لهما آثار وبركات لم تكن لهما من قبل؟ فهذه الأمور هي من الحقائق التي لا يتسنّى كثيرًا لعقولنا إدراكُها. ولا يخفى أنّه لا ينبغي ذكرها في أي مكان وأمام أيٍ كان، إذ قد يُؤدّي ذلك إلى تكذيب وسخريّة بعض الذين لا يُمكنهم فهمها واستيعابها.
فما يُدركه الجميع – حتّى الكفّار – هو أنّه: حينما ينتسب شيء إلى شخصيّة عظيمة، فإنّه يُصبح في عرف العقلاء أمرًا ذا قيمة في ظلّ شرف تلك الشخصيّة وأهمّيتها. ومن هنا، نجد أنّ منازل الشخصيّات الكبيرة تحظى بأهمّية بالغة، بل وتُدرج أحيانًا في ضمن المآثر الثقافيّة والتاريخيّة. والحقيقة أنّ المواد المستعملة في بناء هذه المنازل لا تفترق عن تلك المستخدمة في بناء المنازل الأخرى؛ وإذا كانت لها قيمة، فبسبب انتسابها إلى شخصيّة ذات مكانة عالية.
وإن من شأن زمان معيّن أيضًا أن يتّصف بشرف تفتقر إليه بقيّة الأزمنة، وذلك بسبب انتسابه إلى أشرف شرفاء العالم، أي الله تعالى مصدر كافّة أنواع الشرف. فالأشهُر الإثني عشر مخلوقة بأجمعها لله تعالى، إلّا أنّ لبعضها خصائص لا يمتلكها حتّى شهر رمضان المبارك، ومن باب المثال، فإنّ القتال محرّم في الأشهر الحرم، بينما لا يحرم ذلك في الشهر الفضيل، حيث حدثت معركة بدر فيه. وفي المقابل، فإنّ لشهر رمضان المبارك ميزة لا يتوفّر عليها أيّ شهر آخر، إذ اقتضت مشيئة البارئ عزّ وجلّ أن يتمتّع الناس فيه بفيوضات أكثر بواسطة نزول القرآن الكريم فيه، وفتح الله تعالى فيه أبواب رحمته أمام الناس، ولهذا قال: “هذا الشهر شهري”، وإنّ مثل هذه الأمور متداولة في عرف العقلاء، كأن يُعيّن شخص عظيم بيتًا أو منطقة، ويُعلن بأنّ كلّ من يلتجئ إلى هناك، يكون آمنًا، وكلّ من له حاجة، تُقضى له هناك.
إنّ شهر رمضان المبارك ينتسب بدوره إلى الله تعالى؛ وقد جعله وسيلةً وبابًا للولوج إلى بحر رحمته اللامتناهية، وأضفى عليه – عمومًا – مجموعة من الخصائص التي لا يتّسم بها أيّ شهر آخر، بل ولم ولن يوجد نظيرها في العالم في أيّ زمان آخر، وصار نزول القرآن الكريم فيه سببًا لاكتسابه شرفًا إلى الأبد. إنّ لهذا الانتساب آثارًا عينيّة تُشبه تلك الآثار التي تترتّب على الكلمات إذا كُتبت بنية أنّها من القرآن، فمنذ بداية الخلقة وإلى نهايتها، حظيت ليلة واحدة فقط من بين جميع الأزمنة بشرف نزول القرآن فيها، ألا وهي ليلة القدر التي تحكي إحدى الروايات أنّ مجموع القرآن نزل فيها إلى البيت المعمور، حيث قال الإمام الصادق (عليه السلام): “نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ”[4]، كما جاء في الكتاب العزيز أيضًا: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[5]، لكنّ ذلك ورد في هذه الآية بالنحو التالي: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ﴾[6]، حيث بُيّن نزول الملائكة بواسطة الفعل المضارع الذي يدلّ على الاستمرار، وقد رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه أوصى الشيعة بأن يُخاصموا المخالفين ويستدلّوا على وجود الإمام بسورة القدر[7]، لأنّها تدلّ على استمرار نزول الملائكة في ليلة القدر، وممّا لا شكّ فيه أنّ الملائكة تتنزّل على أحدٍ، وتوصل إليه الحقائق، فلا بدّ أن يوجد في كلّ زمان من يمتلك الأهليّة لكي تتنزّل عليه الملائكة في ليلة القدر، ألا وهو الإمام.
ففي وداع شهر رمضان المبارك، نلحظ حقيقة أنّ الله تعالى حبانا وقتًا هو أحسن وقت في السنة، وقدّر في هذا الشهر ليلة أفضل من ثلاثين ألف ليلة، فإذا وضعنا ثلاثين ألف ليلة في كفّة، وليلة القدر في كفّة أخرى، فإنّ كفة ليلة القدر سترجح، إذ الوارد في القرآن الكريم أنّ هذه الليلة “خَيرٌ” من ألف شهر، لا أنّها تساوي ألف شهر، فالبارئ عزّ وجلّ وضع بين أيدينا ليلة كهذه حتّى نستفيد من بركاتها، ونودّع في الأخير هذا الشهر. وعلى أيّ تقدير، فإنّ من مميّزات شهر رمضان المبارك هو تخلّل ليلة القدر لياليه، ممّا أكسبه شرفًا ورفعةً، وأهّله لإطلاق اسم “شهر الله” عليه.
- إشارة إلى عظمة القرآن
أيّة مكانة وعظمة يحظى بها القرآن، لكي يُضفي نزوله كلّ هذا الشرف على الزمان؟ وما هي المنزلة العظيمة التي يتمتّع بها مُنزل هذا الكتاب السماويّ، حتّى يصير كلامه مصدرًا لهذه البركات والخيرات؟
يقول أهل الاختصاص في اللغة العربيّة بخصوص الآية الكريمة التي يقول فيها الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى﴾[8] أنّ جواب الشرط محذوف، وأنّ معنى الآية هو بالنحو الآتي: “وَلَو أنَّ قرآنًا كذا، لَكَانَ هذا”؛ أي إنّ هذا القرآن له القابليّة على تحريك الجبال، وإحياء الموتى، و…، حيث إنّ الذين يطوون الأرض، ويقطعون مسافة كبيرة في مدّة قصيرة إنّما يتمكّنون من ذلك ببركة هذه الآية الشريفة.
فكيف يُمكن لهذا القرآن – بما هو حبر على ورق أو بما هو هواء يخرج من أفواهنا حينما نقرؤه – أن يتحلّى بهذا الفضيلة، بحيث لا يجوز لنا أن نمسح عليه من دون وضوء، ويكون قادرًا على شفاء المرضى؟ إنّ السبب في ذلك بأجمعه يعود إلى انتساب هذه الأمور [أي الكتابة أو الهواء] إلى القرآن، وحكايتها عن الكلام المنزل على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي عن نفس ذلك الصوت الذي سمعه النبيّ، وعين تلك الكتابة التي سُطّرت بيد ﴿كِرامٍ بَرَرَةٍ﴾[9]، وكان يُشاهدها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ﴿في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾[10]؛ فلا تظنّوا أنّه حينما نقول “إنّها تحكي عن القرآن” أنّنا نتحدّث عن الاعتبار والمجاز، بل إنّ العلاقة بينهما حقيقيّة. ولهذا السبب، فإنّ هذه الكتابة تكون نورانيّة، ويُدرك نورَها أصحاب البصيرة الباطنيّة، فيرون مثلًا تلك “الواو” التي تكون من القرآن مختلفةً عن الواو التي ليست منه.
فهذا الشهر يتحلّى بتلك الفضائل، حيث إنّ البارئ عزّ وجلّ اختصّ الأمّة الإسلاميّة به، وحبانا شرف الانتماء إلى هذه الأمّة. لقد هيّأ لنا تعالى مجموعة من المقدّمات (أعمّ من الأجداد والبيئة التربويّة والعائلة والحكومة الإسلاميّة والعديد من الوسائل الأخرى) التي تآزرت فيما بينها، لكي نطّلع نحن على القرآن، لكننا، مع الأسف، نسينا هذه النعم الإلهيّة. فعلى سبيل المثال، نشأتُ في مدينة يزد الملقّبة بدار العبادة والتي تُعدّ من المدن الدينيّة في إيران، وكنت أذهب إلى المدرسة هناك، حيث لم نكن نتوفّر غالبًا على معلّم في دروس القرآن، وكان علينا أن نقرأه لوحدنا؛ وقد عجزت في إحدى المرّات عن قراءة كلمة بشكل صحيح، وعجز جميع المعلّمين الذين سألتهم عن قراءة تلك الآية، ولو من المصحف، اللهمّ إلّا معلم زرادشتيّ كان اسمه رستم، وكان الوحيد الذي يعرف قراءة القرآن من المصحف، في حين أنّ المعلّمين المسلمين كانوا عاجزين عن ذلك! فهذه هي الوضعيّة التي كانت حاكمةً على فترة القمع التي عشناها آنذاك، بينما نلاحظ الآن مقدار التطوّر الذي وصلنا إليه في مجال ترتيل القرآن وحفظه وقراءته، وكذلك في نطاق التجويد، والتفسير، وبيان شأن نزول الآيات القرآنيّة، والمسابقات القرآنيّة و… فلا ينبغي علينا أن نغفل عن هذه النعم الإلهيّة التي صرنا نتمتّع بها ببركة الثورة الإسلاميّة. أطال الله تعالى في عمر سماحة السيّد القائد الذي ننعم في ظلّه بهذه البركات، حيث لم يحظَ أيّ أحد مثلنا بهذا المستوى من الاهتمام بالقرآن، فنحن مكلّفون بشكر هذه النعمة والثناء على سبب حصولها.
- السرور في شهر رمضان شعاع من محبّة الله تعالى
الصفة الأخرى لشهر رمضان المبارك أنّه عيد لأولياء الله تعالى يتكرّر حصوله كلّ سنة. والعيد هو يوم الفرح والسرور الذي يتكرّر حصوله، بمعنى أنّ أولياء الله تعالى يكونون في شهر رمضان مسرورين، ومفعمين بالنشاط، والبسمة تعلو وجوههم، ويُظهرون المحبّة لبعضهم أكثر، وهذه الصفة تختلف قليلًا عن الصفة السابقة. إنّ شهر رمضان المبارك شهر الله الأكبر، وهو شهر ينتسب إليه تعالى، ويعمّ كافة عباده. إنّ هذا الشهر عبارة عن باب رحمة فتحه الله تعالى في وجه الجميع، فإن أغفل أحد الاستفادة منه، فإنّ اللوم سيقع عليه هو؛ وإلّا، فإنّ البارئ عزّ وجلّ لم يختصّ به أيّ أحد، بل حتّى مرتكبو الكبائر العظمى يُدعون إليه، فإذا أغفل أحد إجابة هذه الدعوة، فإنّ ذلك راجع إلى تقصيره. إنّ هذا الشهر عيد لأولياء الله تعالى، وبعض الناس يرونه كذلك حقًا[11]، بينما نجد بعضًا آخر لا يُحبّونه بتاتًا، فإنّ مستوى محبّة هذا الشهر المبارك يتوقّف على إدراكنا لأهمّيته والمنافع والمصالح المترتّبة عليه.
وكما أسلفنا الذكر، فإنّ أفعالنا الاختياريّة تنشأ من عنصر إحساسيّ وعاطفيّ، فحينما يُحبّ الإنسان شيئًا ما، فإنّه يتحرّك نحوه. ولهذا، فإنّ الذين يحبّون هذا الشهر هم من يعتبرونه عيدًا، والإنسان لا يصير محبًّا لشهر رمضان المبارك إلّا إذا أدرك أنّه وسيلة للقرب من الله تعالى ورحمته، والراغب في قرب الله تعالى هو من يُحبّ الله؛ وبالتالي، فإنّ أصل كافّة هذه العلاقات هي معرفة الله تعالى ومحبّته، حيث تصير هذه المحبّة علّةً لمحبّة شهر رمضان المبارك والقرآن والرسول والأئمّة و…، لأنّ جميع هذه الأمور تنتسب بنحو ما إلى البارئ عزّ وجلّ، فإذا وُجدت تلك المحبّة الأساسيّة، فإنّ شعاعها سيسطع على جميع ما ينتسب إليه، ولو كان من خلال عدّة وسائط. لكن إذا لم يمتلك الإنسان أيّ حظّ من ذلك الأصل، فإنّ كلّ ما يتوفّر عليه سيكون عاريةً، والعارية ليست أمرًا ثابتًا.
إنّ محبّة الله تعالى من الأمور التي ينبغي أن تكون مكنونةً في بواطننا. لكن، بحقّ، لماذا يُحرم بعض الناس من هذه المحبّة؟ أفهل يوجد شيء محبوب يفتقده البارئ عزّ وجلّ؟ وهل هناك شيء نحتاج إليه لم يُوفّره هو لنا؟ وهل يوجد أيّ سبب للخير والسعادة لم يُقدّمه لنا؟ فإذا تأمّلنا في هذه المسألة بنحو صحيح، فإنّ محبّة الله تعالى ستتجذّر في قلوبنا. ففي المرحلة الأولى، علينا أن نتعرّف بشكل أفضل على الله تعالى وصفاته وبركاته وفيوضاته، حتّى تزداد محبّتنا له. وحينئذ، ستسري هذه المحبّة إلى الأمور الأخرى بمقدار ما تنتسب إليه.
[1] سورة الإسراء، الآية 44.
[2] وقد ورد في الروايات أنّ القرآن الكريم مثلًا يأتي في يوم القيامة على شكل رجل بأبهى صورة، “عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: يَا سَعْدُ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا الْخَلْق” [الكافي، الجزء 2، الصفحة 596]؛ كما توجد روايات أخرى تدلّ على أنّ للعبادات حقيقةً ملكوتيّةً يطّلع عليها المؤمن عند وفاته: “عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِهِ والزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ والْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ ويَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيَةً فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والْبِرِّ دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَأَنَا دُونَهُ” [بحار الأنوار، الجزء 68، الصفحة 73]؛ ولهذا، لا يُستبعد أن يكون الإمام (عليه السلام) متوجّهًا في خطابه لشهر رمضان المبارك إلى نفس حقيقته الملكوتيّة الشاعرة. [المترجم]
[3] سورة آل عمران، الآية 96.
[4] محمد بن يعقوب الكلينيّ، الكافي، الجزء 2، الصفحة 629.
[5] سورة القدر، الآية 1.
[6] سورة القدر، الآية 4.
[7] محمد بن يعقوب الكلينيّ، الكافي، الجزء 1، الصفحة 364.
[8] سورة الرعد، الآية 31.
[9] سورة عبس، الآية 16.
[10] سورة عبس، الآية 13.
[11]سيأتينا مزيد بيان لهذه المسألة.
* من كتاب وداع الربيع الصادر عن دار المعارف الحكمية لآية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المقالات المرتبطة
حوار العشق مع شهر رمضان المبارك
على الإنسان أن يسلك سبيل الاعتدال، أي عليه أن يكون مسرورًا في الموضع المناسب، وحزينًا في موضع آخر، فيضحك في الوقت المناسب، ويبكي في الوقت المناسب، على أنّ المراد من الوقت المناسب الوقت الذي يُؤيّده كلّ من العقل والشرع.
التوحيد والإلحاد في التوحيد
العمل الصالح لا يكون ذا قيمة ومؤثّرًا في إيصال الإنسان إلى السعادة إلّا إذا كان مستندًا إلى الإيمان؛ بل أكثر من ذلك، العمل الصالح أساسًا لا يجعل الإنسان سعيدًا إلا حينما يؤدّي إلى تقوية إيمان الإنسان ورفع درجاته: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.
الإله القريب جدًّا
إنّ هذه العبارات تُلفت نظرنا إلى مسألة أنّ حلول شهر رمضان المبارك، ووجوب صيامه، والتوفّق لأداء هذا الواجب الإلهيّ تُعدّ بأجمعها من النعم الإلهيّة العظيمة جدًّا؛ فأصل تخصيص هذا الشهر الفضيل بالأمّة الإسلاميّة هو فضل وشرف حبا الله تعالى أتباع هذا الدين إياه