مطالعة في كتاب جدلية الدين والسياسة في الفلسفة الإسلامية: دولة الشريعة عند ابن سينا
يربط كثيرون من الباحثين بين السياسة والشأن الاجتماعي، ويلاحظون انشغال البحث النظري فيها في عموم الحضارات والثقافات، ومن ضمنها الحضارة الإسلامية التي انصرف مفكروها إلى مقاربتها وفاقًا للنموذج الشرعي. ولم يشذ عن ذلك الفيلسوف أبو علي الحسين بن عبد الله الملقب بابن سينا والمعروف بالشيخ الرئيس (370 – 428 هـ/ 980 – 1077 م ). وغرض الباحث، علي عباس مراد، الأستاذ في جامعة بغداد، في مؤلفه “جدلية الدين والسياسة في الفلسفة الإسلامية: دولة الشريعة عند ابن سينا”، تحديد ملامح دولة الشريعة عنده بعيدًا من القراءات الضيّقة أو المتحيزة له. وإلى المقولة التقليدية التي ترى الفكر ثمرة طبيعية للواقع، فإن مراد من القليلين المدركين، من غير انتساب إلى النظرية المادية الجدلية، لأثر البناء الفوقي (السياسة، الحقوق الفلسفة… إلخ) في الوقائع، وشاهِدُه في ذلك دولة المماليك والخلافة العباسية، فعلى الرغم من انحلال واضمحلال هذه الأخيرة، كانت الحياة الأدبية والعلمية فيها مزدهرة وراقية، وقد حمل القرن الرابع الهجري في داخله تناقضًا حادًّا: نمو الصناعات وتدهورها في آن، نتيجةَ تضخم الإقطاع العسكري، ونشوء الدويلات المتنافسة المحتاجة إلى الشعراء والعلماء والفلاسفة، بمثابة توكيد على شرعيتها وأهميتها.
يرسم الباحث شخصية الشيخ الرئيس وسمتها التديّن، ما تجلى في نسقه الفلسفي الكوني الذي جعل مبتدأه ومنتهاه الله سبحانه وتعالى، وانعكس في سلوكه الشخصي. وهو لم يكتب نظرية سياسية جامعة في كتاب منفرد، بل بث آراءه في مؤلفاته، ومنها “رسالة في السياسة” (أو تدبير المنازل) و “رسالة المغربان” أو “الموجز في الحكمة العملية”.
يرى ابن سينا أن الفلسفة أداة هدفها الوقوف على حقائق الأشياء: “على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه” ( الشفاء/ المنطق)، وهي متفقة مع الشريعة، فليس فيها “ما يُخالف الشرع، فإن الذين يدّعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع، إنما يضلّون من تلقاء أنفسهم ومن عجزهم وتقصيرهم، لا أن الصناعة تُوجِبه، فإنها بريئة منهم” (تسع رسائل، رسالة في أقسام العلوم العقلية). ويرتبط النسق الفلسفي السينوي بالله تعالى بوصفه سببًا وغاية لوجود كل موجود، بيد أن العناية الإلهية أخص بالإنسان من سائر الكائنات، لأنه أولًا، “أشرف أنواع هذا العالم وأنفَسُها”، وثانيًا، لأنه “أحوج إلى السياسة والحفظ وعناية المدبر له من سائر أنواع الحيوان” (رسالة ابن سينا في تأويل الأحلام). ويربط أبو علي العلوم العملية بالدين في ربطه بين علمي الأخلاق والسياسة المدنية من جهة، والدين من جهة أخرى، ويُطابق في نظرته بين الحكمة العملية والسياسة التي غرضها “تقويم النفوس في أفعالها (…) وكل ذلك يتم بإيداع النفوس الخبرات الحكمية المانعة من التظالم، وإزالة الشرور بالحكمة سواء وقعت من داخل أو من خارج” (رسالة المغربان).
وكسائر الفلاسفة، يدرك ابن سينا ضرورة الاجتماع الإنساني، ويقول متأثرًا باليونان “الإنسان مدني بالطبع”، ولكنه يلتزم الأصل الإسلامي في اعتبار أن الله تعالى خلق الناس ومنّ عليهم بفضله، فجعل حظوظهم من العقل والرأي والثروة والمنزلة مختلفة، ليكون الاختلاف سببًا لتعاونهم. ويُقدِّر أبو علي أن الحكمة واللطف الإلهيان يديران أمور المجتمع، ويأخذ الاجتماع البشري عنده شكلان: المدن والاجتماعات، وشروطهما الأساسية “السُّنة (الشرع) والعدل” و “القانون المشروع”، فهما ضمان المصلحة ومصدر تحديد الحقوق والواجبات الإنسانية في محيط التعامل الاجتماعي. والحال أن ابن سينا لم يُكرِّس مبحثًا خاصًّا للدولة الفاضلة، بل نجد أفكاره حولها في بعض كتبه، مثل “الشفاء” و “النجاة”، وإلى انشغاله بالنظم السياسية اليونانية، فإنه اهتم أيضًا بالأصول الإسلامية، ويرى د. رضوان السيّد في “الأمة والجماعة والسلطة”، أن الشيخ الرئيس بقي في الوقت نفسه “مشدودًا إلى المصطلح الإغريقي، ومرتبطًا إلى أبعد حد بالتجربة التاريخية للأمة الإسلامية في حركية جماعتها وتجددها الداخلي عبر قرون التكوّن والانفتاح والاستيعاب” (السيّد، الصفحة 205).
ويربط ابن سينا بين أنواع الرياسات والسياسات وما يصيبها من تبدلات، وبين السُّنة/ الشريعة، وهو قد حاول تطبيق رؤيته على واقع عصره، فوجد أن تلك السياسة “مُركبة من سياسة التغلب مع سياسة القلة مع سياسة الكرامة وبقيةٍ من السياسة الجماعية. وإن وجد فيها شيء من سياسة الأخيار، فقليل” (الحكمة العروضية، الصفحة 42). والشريعة هي معيار التمييز لديه في الرياسات والمدنيات، وتتحدد أنواع المدن وفق الشرائع التي تحكمها وتُنظم أحوالها وشؤونها، وبذا تكون أولى المدن “المدينة الفاضلة”، أي مدينة السنّة/ الشريعة الإلهية، ويبقى تصوره محكومًا بالتجربة التاريخية الإسلامية التي قامت في بدئها المدينة النبوية.
يُشدّد ابن سينا على الصلة بين الديني والسياسي، فلا بدّ أن يكون النبي “قد دبر لبقاء ما يسنه في أمور المصالح الدنيوية تدبيرًا عظيمًا” (الشفاء/الإلهيات، الصفحة 343)، والمقصود المعاملات، ومن الضروري في نظره وجود سلطة قادرة على الحكم، فالخلق في حاجة “إلى من يضبط أمورهم”، من دون إضفاء صفة القداسة عليها. وفي شكل عام يقول الشيخ الرئيس بحاجة المجتمع لمعرفة الخالق وإثبات أمر المعاد، وحاجته في اجتماعه إلى سُنة وعدل. يستنتج الباحث أن أبا علي اهتم أكثر في نظريته السياسية بالطابع العملي التفصيلي وعينه شاخصة إلى النماذج الإسلامية السالفة، ولا سيّما “المدينة الإسلامية النبويّة الفاضلة المهتدية بالشريعة الإلهية”، ما يجعل منه فيلسوفًا ومفكّرًا “سلفيًّا وواقعيًّا في آن”، بتعبير علي عباس مراد.
المقالات المرتبطة
شارات المُلك في قصور الحمراء
حدّثنا العلامة ابن خلدون في مقدّمته عن الشارات الخاصة بالملك والسلطان فقال: “أعلم أن للسلطان شارات وأحوالًا تقتضيها الأبهة والبذخ
الخيال الخالق في تصوّف ابن عربي
بدايةً، ورد في التعريف عن هذا الكتاب، أنّ كوربان “يقدّم لنا الخيال الخالق على أنّه الجارحة، الحاسّة الداخليّة، التي يستطيع الإنسان عن طريقها الولوج إلى عالم المثال، وهو عالم مستقلّ.
قراءة في كتاب إلهيات المعرفة (القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية)
أعترف بداية، أنني بقدر ما وجدت متعة في قراءة الكتاب موضوع البحث، وجدت صعوبة في الكلام عليه. حالي في ذلك،