by الدكتور أحمد ماجد | يوليو 22, 2021 8:00 م
تعتبر الوجوديّة مدرسةً فكريّةً هامّةً شغلت الساحة الثقافيّة والفكريّة لفترة زمنيّة، وكان لها ممثّلوها ومنظّروها ومجلّاتها. إذ حاولت أن تقدّم نفسها بديلًا فكريًّا ملائمًا للمجتمعات العربيّة الإسلاميّة. سيقدّم هذا البحث قراءةً نقديّةً لهذا المشروع عبر أبرز ممثّليه، وهو عبد الرحمن بدوي. لم يكن هذا الاختيار، في الواقع، عبثيًّا، إنّما انطلق من خصوصيّة هذه الشخصيّة التي عملت على تسويغ المشروع في إطار إسلاميّ عبر إيجاد أصول فكريّة إسلاميّة له، تقدّم الدعامة المرجعيّة والتراثيّة له، ما جعله مقبولًا خارج الحاضنة التي ولد فيها. هذا فضلًا عن تقديمها الكثير من الأفكار التي ميّزته عن الوجوديّة الغربيّة، ما جعله فيلسوفًا له مساحة من التمايز والخصوصيّة يستطيع هذا البحث أن يبني عليها، ليتكلّم عن مشروع فكريّ له خصائصه، ورؤيته، ومواقفه المتميّزة.
أوّلًا: فلسفة بدوي الوجوديّة وأركانها
لن نبدأ الكلام على عادة بعض الأبحاث بالحديث عن العامّ، أي عن الفلسفة الوجوديّة، لا سيّما في سياق هذا البحث – ولكن قد نعود في المسار الموسّع إلى مثل هذا الأمر – وذلك رغبةً بالاقتضاب، من جهة، والميل باتّجاه الذهاب مباشرةً إلى الموضوع، من جهة أخرى. ولذلك سنبدأ باستعراض سيرة حياة هذا الفيلسوف بشكل مختصر، ثمّ ننتقل إلى عرض مقولاته الفلسفيّة والإضافات التي قدّمها، بالإضافة إلى محاولته تسويغ هذه الفلسفة في مجتمع يختلف ببنيته عن السياق الذي ولدت فيه هذه المدرسة.
أ. سيرة عبد الرحمن بدوي
ولد عبد الرحمن بدوي في الرابع من شباط، فبراير، عام 1917، في قرية شرباص على النيل[1][1]، وقد كان والده من أصحاب الملكيّات الكبيرة. حصل في أيّار، مايو، عام 1929 على شهادة إتمام الدراسة الابتدائيّة من مدرسة فارسكور الابتدائيّة[2][2]، والتحق بالمدرسة السعيديّة الثانويّة في الجيزة، وهي للطبقة الراقية والحاكمة[3][3]. وهناك بدأ بدوي رحلته العلميّة الفعليّة، حيث بدأ يتعرّف إلى الآداب العالميّة من خلال مكتبة المدرسة، فباشر بقراءة الأدب الإنجليزيّ في نصّه الأصليّ، وهو في الرابعة عشرة من العمر، فاطّلع على ديوان جون ملتونJ. Milton [4][4]، وشعر برسي شلي P. B. Shelley[5][5]، واللورد بايرن Lord Byron [6][6]، مع اهتمامه بأعلام الرومانسيّة الفرنسيّة[7][7]، وفي الخامسة عشرة من العمر تعرّف إلى الأدب الألمانيّ من خلال أبحاث عن يوهان غوتة J. Wolfgang von Goethe[8][8]، كتبها محمّد حسين هيكل[9][9] وأحمد حسن الزيّات[10][10]، وهذه الأبحاث هي التي حفّزت في نفسه الرغبة لتعلّم اللغة الألمانيّة.
تركت المرحلة الثانويّة التي أمضاها بدوي في ثانوية السعيديّة أثرها العميق في نفسيّة الطالب سلبًا وإيجابًا، فهي سمحت له بالاطّلاع على أعمال كبار الأدباء، ولكنّها حفلت بالمشاحنات، وفي هذا المجال، لا يخفي بدوي امتعاضه جرّاء بعض التصرّفات العدائيّة التي مارسها أغلب المدرّسين ومعهم أغلب نظّار المدرسة، مؤمنًا أنّ اللؤم، والخسّة، والنذالة، والولوع بالأذى، هي الصفات المميّزة للإنسان، مقدّمًا لنا شواهد عدّة من خلال سيرة حياته.
تخرّج عبد الرحمن بدوي من المرحلة الثانوية في عام 1934، بعدما كان قد أشبع بالأفكار الفلسفيّة والأدبيّة التي اطّلع عليها في المدرسة، وهنا وقع الشقاق بينه وبين والده، الذي أراد له دخول كلّيّة الحقوق، لأنّها تخرّج الوزراء، وعلى أقلّ تقدير، رؤساء لمحاكم النقض، على مثال عبد العزيز فهمي الذي كان والده شديد الإعجاب به، لكنّ بدوي أصرّ على دخول كلّيّة الآداب، ما دفع الوالد إلى رفض دفع التكاليف الدراسيّة، ممّا اضطره إلى الالتجاء للشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي درّسه مادّة المنطق في السنة الأولى لتزكية طلبه للمجانيّة بحجّة التفوّق[11][11].
وهكذا، أخذ بدوي ينهل العلم في كلّيّة الآداب من خلال عدد من الأساتذة كأندريه لالاند[12][12] A. Lalande وكوارييه، وتخرّج من الجامعة في أيّار 1938، وحصل على الإجازة بدرجة امتياز. وبعد إنهائه الدراسة، عُيّن في الجامعة كمعيد، لينهي بعد ذلك دراسة الماجستير في آذار عام 1941، بعنوان “مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة”. وتابع بعدها بحثه للدكتوراه بعنوان “الزمان الوجوديّ”، وقد علّق عليها طه حسين أثناء مناقشته لها في 29، أيّار، مايو، 1944، قائلًا: “أشاهد فيلسوفًا مصريًّا للمرّة الأولى”.
بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، عمل عبد الرحمن بدوي مدرّسًا بقسم الفلسفة بكلّيّة الآداب، جامعة القاهرة (فؤاد سابقًا)، وذلك عام 1945، ثمّ صار أستاذًا مساعدًا في القسم نفسه والكلّيّة نفسها في سنة 1949. ثمّ ترك جامعة القاهرة عام 1950، ليقوم بإنشاء قسم الفلسفة في كلّيّة الآداب في جامعة عين شمس[13]. وبعد ثورة 23 تمّوز، يوليو، اختير مع 50 شخصيّةً في لجنة صياغة الدستور التي كلفت، في عام 1953، لكتابة دستور جديد لمصر، والذي تمّ الانتهاء منه عام 1954، لكنّ الدستور أهمل واستبدل بدستور سنة 1956. ومن ثمّ عمل مستشارًا ثقافيًّا ومديرًا للبعثة التعليميّة في بيرن[14] في سويسرا[15]، في آذار، مارس، ما بين عامي 1956 و1958. وأصبح أستاذ كرسيّ عام 1959.
غادر بدوي إلى فرنسا في عام 1962، بعد أن جرّدت الثورة عائلته من أملاكها. ومن هناك بدأ رحلاته العلميّة في الجامعات اللبنانيّة، والكويتيّة، والإيرانيّة، والليبيّة، ليستقرّ في نهاية الأمر في باريس، حيث أصيب بإغماءة في أحد شوارع باريس، نقل على أثرها إلى المستشفى، وبقي خمسة وعشرين يومًا في غيبوبة كاملة لم يعرفه أحد، وعندما أفاق عرّف عن نفسه، فتمّ إبلاغ السفارة المصريّة به. وعلى إثر هذه الوعكة الصحّيّة عاد بدوي إلى وطنه بعد غياب دام ثلاثين عامًا، وبعد قرار وزير الصحّة المصريّ دخل إلى مستشفى معهد ناصر نتيجة تجمّع دمويّ في المخّ، كما أصدر عاطف عبيد، رئيس وزراء مصر، تعليماته بأن تتولّى الدولة المصريّة رعاية الفيلسوف الكبير عبد الرحمن بدوي. ولكنّ الخيبة صارت ملازمةً لبدوي حتّى في لحظة الموت، إذ توفّي في 25 تمّوز من العام 2002 في ذروة الاحتفال بالثورة، التي حمل في قلبه الكثير من الحقد عليها، فمرّ خبر وفاته باهتًا، فهمّشته أخبار الثورة كما فعلت الثورة المصريّة به من قبل.
ب. معنى الفلسفة عند عبد الرحمن بدوي
تأثّر عبد الرحمن بدوي بالبيئة الفلسفيّة الفرنسيّة التي تلقّى فيها علومه، بالإضافة إلى الظروف التاريخيّة والأوضاع الاجتماعيّة التي عايشها، حيث ساهمت هذه الأمور في تعزيز مقبوليّته للفلسفة الفردانيّة التي تمجّد القيم الذاتيّة، وتضع العاطفيّ والانفعاليّ والمثاليّ المعاش (من مثل القلق، والمشاعر المرضيّة، وسوداويّة الوجوديّة الفرنسيّة) في منزلة بارزة ومؤثّرة، تحوّلت مع الوقت إلى معياريّة دقيقة للفكر. ولذلك، نراه ينساق إلى تعريف الوجود من خلال الرؤية التي قال بها الفلاسفة الوجوديّين، حيث يصبح هذا المفهوم متعلّقًا بوجود الإنسان في الواقع، وبمعزل عنه لا نستطيع أن نفهم حقيقته، ويعتبر بدوي بهذا الخصوص وجود الإنسان هو ما يفعله، فأفعال الإنسان هي التي تحدّد وجوده وتكوّنه، ولهذا يُقاس الإنسان بأفعاله. وذلك ضدّ مذهب القائلين “بالماهيّة”، أي الذين يفترضون ماهيّةً سابقةً على وجود الإنسان، وعنها تنشأ أفعاله، ووفقًا لها يحكم عليه، وبها يحدّد[13][16].
دفعه هذا الفهم إلى تعريف الفلسفة الوجوديّة بأنّها: “أحدث المذاهب الفلسفيّة، وفي الوقت نفسه هي من أقدمها”[14][17]. أحدثها لأنّ لها مركز الصدارة والسيادة في الفكر المعاصر [في ذلك الوقت]، وهي من أقدم المذاهب الفلسفيّة لأنّ العصب الرئيس للوجوديّة هو أنّها فلسفة تحيي الوجود، وليست مجرّد تفكير في الوجود، ويعدّ هذا التعريف شديد الأهمّيّة، لأنّه يعكس، لا سيّما في شقّه الثاني، رؤية بدوي للفلسفة، والتي لا تقوم على أرضيّة النظر المسبق أو التنظيريّ، إنّما تقوم على عيش الوجود، باعتبار الإنسان كائنًا فرديًّا يعيش في العالم.
تصوّر عبد الرحمن بدوي في حركيّته الفكريّة أنّه قادر على رفع الإنسان من الاستلابات والانقهارات، والعلائق الاجتماعيّة غير العادلة واللامتّزنة، وهذا الأمر لن يتمّ إلّا من خلال ثورة تعمّق قيمة الفرد، ولم يجد هذا الشيء إلّا في الوجوديّة التي دعت إلى الحرّيّة، وجعلتها مقياسًا. وهكذا، يصبح الإنسان بما يعمل ويسعى، لا بما يفكّر. وبعبارات أخرى، إنّ الفضاء الأوضح والأوفى بات في عيش الإنسان للوجود وللعمل به، بعيدًا عن مصطلحات الماهيّة التي تحدّد الإنسان، وعن الرؤى المجرّدة المطلقة التعميميّة للفكر والوجود.
ولذلك، إذا نظرنا إلى أعمال بدوي، نراها تعجّ بالثورة والتمرّد والذاتيّة، فهو يقول في قصيدة “مزاج سوداويّ”: ولدت ألف الأحزان، لا تكاد تبتسم لي مرّةً حتّى تغلبني الكآبة أعوامًا طوالًا. لهذا كان طبعي أقرب إلى الجانب الأسيان في الوجود“[15][18] ، ويقول شعرًا:
حار في أمره وخاب الرجا | فطغى الشكّ واشتهاه الفناء |
نسجه الضدّ والتوتّر فيه | جوهر خالد وفيه البقاء[16][19] |
فعندما نزح بدوي إلى الوجوديّة وجد فيها مذهبًا يلائم القلق والألم والخيبة، ألم رافقه ورافق خياراته منذ تخرّجه من مدرسة السعيديّة، ولذلك لا نستغرب أنّه عبّر عن كلّ ذلك من خلال خياره الفكريّ، الذي سيلازمه طوال حياته، وإن رأى بعض الدارسين هجرته له.
مصادر البحث:
[1][20] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة 1، 1984)، الجزء 1، الصفحة 295.
[2][21] عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي، (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، الطبعة 1، لا تاريخ)، الجزء 1، الصفحة 31.
[3][22] المصدر نفسه، الصفحة 32.
[4][23] يعدّ جون ميلتون (1567-1608) من كبار الشعراء الإنكليز، عمل منذ تخرّجه من جامعة كامبردج على كتابة ملحمة النعيم المفقود Paradise Lost، دعا في أعماله إلى حرّيّة الكنيسة، وحرّيّة الصحافة، والحرّيّة الفرديّة.
[5][24] يعدّ پرسي شلي (1792-1822) واحدًا من أشهر الشعراء الرومانسيّين الإنكليز[25]. يُعرف بقصائده القصيرة، من مثل أوزيماندياس Ozymandias، وأغنية الريح الغربيّة Ode to the West Wind، وإلى قُبّرة To a Skylark، وثورة الإسلام[26] The Revolt of Islam، وأدوناي Adonais، وبروميثيوس طليقًا Prometheus Unbound، وعمله غير المنتهي انتصار الحياة.
[6][27] ولد اللورد جورج غوردن بايرون (1824-1788) في لندن، وعاش حياته في اسكتلندا. حينما أصبح في سنّ السادسة عشر، حصل على لقب “اللورد”، ثمّ انتقل إلى إنكلترا، ودرس في جامعة كامبردج[28] في عام 1807، انتهى من أوّل كتاب شعر له وكان اسمه ساعات الكسل Hours of Idleness. وفي عام 1812 نشر كتابه الشعريّ رحلة تشايلد هارولد Child Harold’s Pilgrimage.
[7][29] سيرة حياتي، مصدر سابق، الصفحتان 34 و35.
[8][30] وُلد يوهان غوتة (1749-1832) في فرانكفورت حيث ترعرع في كنف والده الغنيّ الذي وفّر له تعليمًا مدرسيًّا خاصًّا، كما أدّى اهتمام والديه بالنواحي الأدبيّة والثقافيّة دورًا في تكوين شخصّيّته الأدبيّة في ما بعد، كان غوتة عاشقًا للشرق، فقرأ ألف ليلة وليلة، ونسج على منوالها كتاب نزوة العاشق، بالإضافة إلى كتابه الديوان الشرقيّ للمؤلّف الغربيّ والذي تطرّق فيه كثيرًا إلى الثقافة العربيّة والإسلاميّة.
[9][31] محمّد حسين هيكل (1888-1956)، شاعر وأديب وسياسيّ مصريّ كبير، تأثّر بالشيخ محمّد عبده وقاسم أمين، وغيرهم. وقد كان أحد مستشاري الملك فاروق. تولّى أيضًا تمثيل السعوديّة في التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945، كما رأس وفد مصر في الأمم المتّحدة[32] أكثر من مرّة.
[10][33] أحمد حسن الزيّات (1885-1968)، التحق الزيّات بالجامع الأزهر، ولكنّه لم يكمل دراسته فيه، وإنّما التحق بالجامعة الأهليّة، فكان يدرس بها مساءًا ويعمل صباحًا.
[11][34] عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي، مصدر سابق، الصفحتان 55 و56.
[35] [12]الفيلسوف الفرنسيّ أندريه لالاند (1897-1963)، ولد في ديجون، ودرس في مدارس ريفيّة عدّة، إلى أن انتقل إلى مدرسة هنري الرابع، فدار المعلّمين العليا، ما بين عامي 1883 و1888. نال شهادة التبريز في الفلسفة عام 1888، وشهادة الدكتوراه في الآداب عام 1899. وفي سنة 1909 صار أستاذًا مساعدًا في الفلسفة (في السوربون)، وأستاذ كرسيّ عام 1918، ثمّ أستاذ زائر سنة 1937. يعدّ أندريه لالاند في أعماله الفلسفيّة أبرز ممثّل للعقلانيّة الكانطيّة في ظلّ الجمهوريّة الثالثة في فرنسا، ومن موضوعاته الرئيسة التي عالجها: النوايا أو المقاصد، والحرّيّة، والحقيقة، وماهيّة العقل في وجهيه المكوّن والمتكوّن، وقانون الطبيعة وتمثّله، أخلاق العقل، والاستيعاب والاجتماعيّات والجماليّات، والحال.
[13][36] للمزيد، انظر، عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجوديّة (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1981)، الصفحات 9 إلى 22.
[14][37] المصدر نفسه، الصفحة 19.
[15][38] عبد الرحمن بدوي، مرآة نفسي، (القاهر: دار النهضة المصريّة، الطبعة 1، 1946)، الصفحة 54.
[16][39] المصدر نفسه، الصفحة 62.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13415/badawi1/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.