by السيد حسن طالقاني | يوليو 22, 2021 7:59 م
أهداف الدرس
1- بيان تاريخ نشوء مدرسة الأشاعرة الكلاميّة والعوامل المؤثّرة في نشوئها؛
2- تبيين أهمّ عقائد الأشاعرة؛
3- ذكر التحوّلات الأساسيّة التي طرأت على فكر الأشاعرة وتحليلها.
تذكرة
كما أشرنا في الدروس السابقة، فلقد شهد القرن الثالث للهجرة حضور تيّارَين فكريَّين متقابلَين، أوّلهما تيّار أهل الحديث الذي عمل على دراسة المعارف الدينيّة وتبيينها من خلال التأكيد على التمسّك بظواهر الكتاب والسنّة، متّبعًا منهجيّةً ذات نزعة نصيّة مفرطة إلى حدّ التخلّي عن التفكير والتعقّل والاستدلال. وقد أدّى هذا الطرز من التفكير إلى وقوعهم في العجز عن الإجابة على الشبهات والمسائل الكلاميّة الجديدة التي تُطرح في المجتمع الإسلامي؛ ذلك أنّهم قد منعوا كلّ نحو من أنحاء الاستدلال والنزاعات والجدل حول الموضوعات الدينيّة والكلاميّة.
وفي الجهة المقابلة، وقف التيّار الفكري للمعتزلة، الذي كان يعمل على البحث في المسائل الكلاميّة ويسعى للإجابة على الشبهات معتمدًا النزعة العقليّة والاستفادة أكثر ما يمكن من العقل، واضعًا العمل بالحديث والقرآن جانبًا. وعلى الرغم من أنّ المعتزلة تمكّنت عبر الاستفادة من العقل والاستدلال من الإجابة على الشبهات المطروحة، إلّا أنّ مشكلتها كانت كامنةً في تخلّيها عن المصادر النقليّة من قرآن وسنّة.
ولقد أدى إفراط هذين التيّارَين الفكريَّين وتفريطهما بهما إلى مواجهة العديد من المشاكل؛ لأنّ تخلّي أهل الحديث عن العقل وإفراطهم في التأكيد على ظواهر الكتاب والسنّة أوقعهم في القول ببعض الأمور المشكلة كالتشبيه والتجسيم والجبر، بالإضافة إلى عجزهم في مقام الإجابة على المسائل الكلاميّة. ومن جهتها، لم تحظَ مدرسة المعتزلة الكلامية بثقة المجتمع الإسلامي والمؤمنين بسبب تخلّيها عن الأحاديث وتأويلها للآيات القرآنيّة؛ إذ من الطبيعي أن يكون لكتاب الله والسنّة مكانة خاصّة في أيّ مجتمع مؤمن، والحال أنّ المعتزلة قد تخلّت عن منح القرآن والسنّة هذه المكانة. في ظروف كهذه ومع بدايات القرن الرابع للهجرة، شرعت مجموعة من الشخصيّات في أطراف العالم الإسلامي بالسعي إلى إيجاد طريق وسطيّ والقيام بعمليّة إصلاح في الفكر الكلاميّ لدى أهل السنّة، وقد هدفت هذه الجهود المبذولة إلى إيجاد تيّار فكريّ جديد يلتزم بالعمل وفق القرآن والسنّة مع اعتماده على العقل والاستدلال في الوقت عينه، ويكون بذلك مدافعًا عن أفكار أهل السنّة.
في بداية القرن الرابع للهجرة، بدأت شخصيّات ثلاثة في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي مساع في سبيل إصلاح الفكر السنّي وإيجاد تيّار وسطيّ بين إفراط أهل الحديث وتفريط المعتزلة، وأسّسوا بذلك مدارس كلاميّة. الشخصيّة الأولى هي أبو الحسن الأشعري الذي تواجد في البصرة وبغداد، أي في مركز العالم الإسلامي آنذاك، وقد أسّس مدرسة الأشاعرة. ثاني هذه الشخصيّات كان أبو منصور الماتريدي الذي تواجد في شرق العالم الإسلامي وتحديدًا في سمرقند مؤسّسًا مدرسةً كلاميّة عُرفت بالماتريديّة. أمّا ثالث الشخصيّات وآخرها فكان أبو جعفر الطحاوي في مصر مؤسّس مدرسة الطحاويّة الكلاميّة. ومن ضمن هذه المدارس الثلاثة، حظيت مدرستا الأشاعرة والماتريديّة بتوفيق أكبر وعرفتا توسّعًا على طول تاريخ الإسلام، وتبدّلتا لتصبحا في المراحل اللاحقة أكبر المدارس الكلاميّة عند أهل السنّة. ولا تزال هاتان المدرستان حاضرتَين حتّى زماننا هذا بوصفهما أكبر المدارس الكلاميّة السنّيّة في العالم الإسلامي، في حين أنّ مدرسة الطحاويّة لم تلقَ الكثير من القبول والترحيب، وسرعان ما خسرت أنصارها واندثرت.
سنعمل في هذا الدرس على بيان وتوضيح مسائل تتعلّق بمدرسة الأشاعرة لناحية تأسيسها وأفكارها الكلاميّة.
مدرسة الأشاعرة الكلاميّة
ولد أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري مؤسّس مدرسة الأشاعرة سنة 260 للهجرة في مدينة البصرة، وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري الشخصيّة المعروفة التي كان لها تأثير في العقود الأولى من القرن الأوّل للهجرة.
خسر أبو الحسن الأشعري أباه منذ الطفولة فنشأ في كنف أبي عليّ الجبّائيّ، الذي يُعدّ من كبار شخصيّات المعتزلة، فكان من الطبيعي أن ينخرط في مدرسة المعتزلة نتيجةً لدراسته للكلام المعتزلي. يُذكر أنّ الأشعري بقي على مذهب الاعتزال حتّى سنّ الأربعين من عمره، فكان يُدافع عنه، حتّى أنّه دوّن كتبًا في بيان هذا الفكر والدفاع عنه. لكن في سنّ الأربعين، أي في حدود العام 300 للهجرة، ونتيجةً لوقوع بعض الحوادث – وقد ذُكرت العديد من القصص في هذا الشأن في كتب تاريخ الكلام وكتب الأشاعرة – أعلن الأشعريّ براءته من عقائده السابقة، أي الاعتزال، ولأجل نصرة دين الله فقد أبدى اهتمامه بعقائد أهل الحديث التي كانت تُستقى من ظواهر القرآن والأحاديث. بعد هذه العودة وهذه البراءة، أعلن الأشعريّ أنّ ما كان يعتقد به من فكر اعتزاليّ غيرُ مجد وأنّ طريق الحقّ ومسير الهداية يكمن في منهج أهل السنّة، أي المحدّثين والفقهاء الإسلاميّين، في حين أنّ ما تقوم المعتزلة ببيانه استنادًا إلى العقل والاستدلالات العقليّة بعيد عن الكتاب والسنّة. ومن هنا، وضع جميع عقائده السابقة جانبًا وأعلن في بداية التحوّل الفكري أنّ عقائده هي عقائد الإمام أحمد بن حنبل إمام الحنابلة وأهل الحديث نفسها.
عمل أبو الحسن الأشعري في بداية هذا التحوّل الفكري على تأسيس منهج كلاميّ جديد، وراح ينظّم أفكاره ومعتقداته الكلاميّة اعتمادًا على هذا المنهج. وعلى الرغم من أنّه كان قد أعلن بادئ الأمر أنّ عقائده هي عقائد الإمام أحمد بن حنبل عينها، إلّا أنّ منهجه عرف الكثير من التمايزات عن منهج أحمد بن حنبل وتيّار أهل الحديث، فصحيح أنّ الأشعري كان يعتمد على ظواهر الكتاب والسنّة كما تيّار أهل الحديث والحنابلة، إلّا أنّه وخلافًا لأحمد بن حنبل وتيّار أهل الحديث عدّ الأبحاث الكلاميّة والاستدلالات العقليّة أمرًا جائزًا.
فأهل الحديث كانوا يعتبرون كلّ نحو من أنحاء الاستدلال والتفكّر والمناقشات والنزاعات التي تدور حول الأفكار الاعتقاديّة بدعةً، ويعتبرون علم الكلام علمًا مشوبًا بالابتداع ولا يجوز لأي مسلم الولوج فيه. أمّا أبو الحسن الأشعري فقد كان يجوّز الكلام والأبحاث الكلاميّة بل ويعدّها أمرًا لازمًا، فكتب رسالةً تحت عنوان استحسان الخوض في علم الكلام يتحدّث فيها عن حُسن الخوض في المباحث الكلاميّة[1][1]. لقد كانت هذه المسألةُ، أي جواز الانشغال بالمسائل والاستدلالات الكلاميّة، السببَ في انفصال الأشعري عن أهل الحديث، كما أنّها أوضحت التمايز الحاصل في المنهج المتّبع بين هذَين التيّارَين.
من ناحية أخرى، اتّخذ الأشعري مسافةً عن تيّار المعتزلة من خلال إنكاره لأحكام العقل العملي. فالمعتزلة، كما عرفنا، استخلصوا العديد من المسائل والموضوعات الكلاميّة اعتمادًا على الحسن والقبح العقليَّين، كما أنّ استدلالاتهم العقليّة كانت مبتنيةً على أحكام العقل العملي، أمّا الأشعريّ فلقد أنكر المباني الكلاميّة للمعتزلة باعتباره الحسن والقبح شرعيَّين، وابتعد بذلك عن المنهج الكلامي للمعتزلة.
وهكذا، يكون أبو الحسن الأشعري قد حيّد نفسه عن أهل الحديث من خلال قبوله للعقل النظري والاستدلالات في العقائد، وابتعد عن المعتزلة من خلال إنكاره للعقل العملي، وبالتالي أسّس طريقًا ومنهجًا وسطيًّا بين طريقة المعتزلة وطريقة أهل الحديث. لقد كانت طريقة الأشعري ومنهجه مبتنيَين على أساس النظر والاستدلال وقبول العقل النظري، غير أنّه لم يكن يرضى بالاحتكام للعقل العملي في مجال المباحث الكلاميّة، وبتعبير آخر كان يجعل من القرآن والحديث مادّةً لاستدلالاته.
عرض الأشعريّ مجموعةً من العقائد ضمن نظام منسجم اعتمادًا على هذه المنهجيّة الجديدة المبتنية على الكتاب والسنّة، والتي كانت ترافقها بالطبع الاستدلالات والمباحث العقليّة والكلاميّة. إنّ مجموعة المعتقدات التي طرحها أبو الحسن الأشعري في كتبه وعمل تلامذته على تبيينها شاملة لمختلف الموضوعات الكلاميّة، وفي ما يلي سنقدّم عرضًا لأهمّ هذه الأفكار والمعتقدات، والتي وقعت موردًا لاختلاف التيّارات الكلاميّة.
أهمّ آراء الأشعريّ
الصفات الخبريّة
كانت مسألة الصفات الخبريّة إحدى الاختلافات التي وقعت بين أهل الحديث والمعتزلة، والصفات الخبريّة هي تلك الصفات التي نسبها كلّ من القرآن والسنّة إلى الله تعالى غير أنّ حملها على معانيها الظاهريّة يحتوي على معان تشبيهيّة. فذهبت المعتزلة إلى تأويل هذه الصفات وتقديم معان مغايرة للظاهر في سياق بيانها، فيما نسب أهل الحديث هذه الأوصاف إلى الله تعالى كما هي وبمعناها الظاهريّ نفسه.
أمّا الأشعريّ فقد شارك بدوره أهل الحديث لجهة قبول المعاني الظاهريّة لهذه الأوصاف، ولكنّه تجنّب مشكلة الوقوع في التشبيه من خلال إضافة قيد <بلا كيف>، فكان يعتقد أنّ هذه الأوصاف، من قبيل اليد والرجل والوجه وأمثالها ممّا يلزم من ظاهرها القول بالتشبيه، ثابتةٌ في حقّه تعالى ما دامت قد وردت في القرآن والسنّة، ولكن بما أنّ التشبيه باطل فقد أضاف عليها قيد <بلا كيف>، فصار المعنى أنّ لله يدًا بلا كيف ووجهًا بلا كيف، بمعنى أنّ هذه الأوصاف كاليد والقدم والوجه أو غيرها من الأوصاف الخبريّة مفتقدة للكيفيّة أو أنّ كيفيّتها مجهولة.
علاقة الذات بالصفات
من المسائل الأخرى التي اختلف عليها تيّارَا أهل الحديث والمعتزلة مسألة علاقة الذات بالصفات، حيث كانت المعتزلة تعتقد بنفي الزيادة في الصفات. أمّا الأشعريّ فجارى أهل الحديث بقبوله وجودَ صفات قديمة ذاتيّة زائدة على الذات، أي إنّه كان يعتقد أنّ أوصافًا كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والإرادة والتكلّم مغايرة للذات لكنّها قديمة.
ولتجنّب الوقوع في شبهة تعدّد القدماء، ذهب الأشعريّ إلى أنّ هذه الصفات القديمة قائمة بالذات، بمعنى أنّها لا تتمتّع بوجود مستقلّ، والحال أنّ تعدّد الموجودات غير المستقلّة التي يكون وجودها قائمًا بغيرها لا يستلزم تعدّد القدماء.
الكلام الإلهي وخلق القرآن
مشكلة أخرى من المشاكل الكلاميّة التي وقعت في تلك المرحلة محلًّا للبحث والاختلاف بين التيّارات الكلاميّة ومن جملتها المعتزلة وأهل الحديث كانت البحثَ في الكلام الإلهي وهل أنّه مخلوق أو غير مخلوق.
ذهب أهل الحديث إلى القول بأنّ القرآن قديم وغير مخلوق، فيما كانت المعتزلة تعتقد أنّ الكلام الإلهيّ صفة فعل لله تعالى وبالتالي فهو مخلوق وحادث. ولأجل حلّ هذه المشكلة قسّم الأشعريّ الكلام الإلهيّ إلى قسمَين: الكلام اللفظي والكلام النفسي، وبحسب الأشعريّ فإنّ هذا الأخير هو حقيقة الكلام القائمة في ذات المتكلّم؛ ذلك أنّ الواقع يشهد بوجود حقيقة للكلام قائمة في ذات المتكلّم قبل تكلّمه، وحقيقة القرآن بدورها تُعدّ بوصفها كلامًا نفسيًّا صفةً ذاتيّة لله وهي قديمة وبالتالي غير مخلوقة، أمّا إذا كان مرادنا من القرآن تلك الألفاظ والأصوات القرآنيّة فهذا كلام لفظيّ متشكّل من أصوات وحروف، ويحتوي على خصائص الحدوث، وعليه فإنّ القرآن المقروء والمكتوب أي ألفاظ القرآن حادثة ومخلوقة، وهكذا سعى الأشعري إلى الإجابة على إشكاليّة خلق القرآن.
رؤية الله
ذهب أهل الحديث إلى القول بإمكان رؤية الله تعالى في الآخرة، واستدلّوا على ذلك بجموعة من الآيات والأحاديث النبويّة. أمّا المعتزلة فقد اعتبروا أنّ القول برؤية الله يستلزم الجسميّة والمكانيّة فأنكروا إمكان ذلك.
في هذه المسألة دافع الأشعريّ عن رأي أهل الحديث أيضًا، فكان يقول بإمكان رؤية الله في الآخرة، وبالطبع أقام استدلالات عقليّة على هذه المسألة كما هو الحال في العديد من المسائل الأخرى، وبالتالي فإنّ الاختلاف بينه وبين أهل الحديث في هذه المسألة يكمن في الاستدلال واعتماد المنهج الكلامي.
حُسن الأفعال وقبحها
كانت المعتزلة تعتبر حُسن الأفعال وقبحها أمرَين ذاتيَّين وعقليَّين، أمّا الأشعريّ فذهب إلى أنّ الأفعال لا تحتوي على حسن وقبح ذاتيَّين عقليَّين، بل إنّ ملاك الحسن والقبح فيها هو نفس الإرادة الإلهيّة، والطريق إلى معرفتها هو الرجوع إلى الشريعة. وهكذا، فإنّ الحسن والقبح شرعيّان وملاكهما إرادة الله وبُغضه.
الجبر والاختيار
من المسائل المهمّة جدًّا أيضًا مسألة الجبر والاختيار أو علاقة أفعال العباد بالله تعالى. وفي هذه المسألة أيضًا، أيّد الأشعريّ أهل الحديث بقولهم إنّ الله هو خالق أفعال العباد، فأفعال الإنسان هي الأخرى، كما الإنسان، مخلوقة لله تعالى، وقد استدلّ على قوله هذا بظاهر الآية الكريمة: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[2][2].
وبما أنّ القول بخلق الأعمال يستلزم الجبر، قدّم الأشعري نظريّةً يبيّن فيها دور الإنسان في أفعاله عُرفت بنظريّة الكسب. كان الأشعريّ يعتقد أنّ الله هو خالق الأفعال وأنّ الإنسان كاسب لها، بمعنى أنّه ليس للإنسان أي دور في خلق أفعاله غير أنّه يكتسب الفعل الذي يخلقه الله. وقد واجهت هذه النظريّة التي وصلتنا من خلال كتبه وما بقي من آثاره العلميّة إبهامًا كبيرًا، والحقيقة أنّ هذه النظريّة ليست إلّا فرضَ تزامنٍ بين خلق الله للفعل وخلقه للقدرة على الفعل في الإنسان، وبتعبير آخر ينبغي القول إنّ الكسب وفقًا لرأي الأشعري يعني خلق الفعل في الظرف الوجوديّ للإنسان، وهذا المقدار من كون الفعل قد خُلق في وجودي أنا دون غيري يؤمّن انتساب الفعل لي دون الآخرين. وفيما بعد، عرفت نظريّة الكسب تقريرات عديدة من قبل متكلّمي الأشاعرة غير أنّها خارجة عن محلّ بحثنا هنا.
الإيمان والكفر
وكان موضوع الإيمان ودور العمل فيه من الموضوعات التي وقعت موردًا للاختلاف بين المذاهب. فقد اعتبر الخوارج والمعتزلة أنّ دور العمل في الإيمان مهمّ، ومن هنا اعتقدوا أنّ مرتكب الكبيرة خارج عن الإيمان، حيث ذهب الخوارج إلى حدّ عدّه كافرًا، فيما قالت المعتزلة إنّه في منزلة بين الإيمان والكفر. أمّا الأشعريّ فذهب إلى أنّ العمل ليس له أي دور أو دخالة في الإيمان، بل الإيمان هو ذلك التصديق القلبي، والشخص الذي يحظى بهذا الإيمان القلبي يُعدّ مؤمنًا.
كبار متكلّمي الأشاعرة
بعد الأشعريّ، تابع تيّار الأشاعرة نشاطه عبر تلامذته، وشيئًا فشيئًا، ومع ظهور شخصيّات بارزة ومتكلّمين كبار بين الأشاعرة، راح هذا التيّار ينمو ويتّسع حتى بات يُطرح في المجتمع الإسلامي بوصفه منافسًا حقيقيًّا للفكر المعتزلي وباقي التيّارات الكلاميّة.
ومن بين متكلّمي الأشاعرة الكبار تمتّعت بعض الشخصيات بمكانة خاصّة وتركت أثرًا مهمًّا في الكلام الأشعري، ومن جملة هذه الشخصيّات القاضي أبو بكر الباقلانيّ المتوفّى سنة 403 للهجرة. وقد كان الباقلانيّ ثاني الشخصيّات المؤثّرة في كلام الأشاعرة بعد الأشعريّ، حيث استطاع أن يصل بالنظام الفكري والكلامي للأشاعرة حدّ التكامل والبلوغ العلمي، ولقد كان الباقلانيّ حقيقةً الشخص الذي استطاع من خلال بيان الموضوعات الكلاميّة المختلفة ودفاعه الكبير عن الفكر الأشعري أن يجعل من مدرسة الأشاعرة مدرسةً أساسيّةً في المجتمع الإسلامي تحظى بقبول الآخرين.
الشخصيّة التي تلت الباقلانيّ كانت عبد القاهر البغدادي المتوفّى سنة 429 للهجرة، وقد عمل هو الآخر على بيان عقائد الأشاعرة والدفاع عنها وكان له دور مهمّ في ذلك.
بعد البغداديّ جاء إمام الحرمَين الجويني المتوفّى سنة 478 للهجرة، والذي كان من كبار متكلّمي الأشاعرة، وقد حظيت آثاره العلميّة بموقعيّة خاصّة ضمن الآثار الكلاميّة للأشاعرة.
الشخصيّة التالية من الشخصيّات المعروفة جدًّا هو الإمام محمد الغزّالي المتوفّى 505 للهجرة. يُعدّ الغزّالي من كبار الشخصيّات الإسلاميّة وقد حظي بموقعيّة خاصّة في الكلام الأشعري، والغزّالي هو من أدخل المنطق الأرسطي في الفكر الكلامي، وشكّلت أعماله بدايةً للتحوّلات الكلاميّة عند الأشاعرة. لقد شكّلت الميول والاتّجاهات الفكريّة لأبي حامد محمد الغزّالي وآراؤه تجاه التصوّف والفلسفة والمنطق إضافةً إلى علم الكلام وبدايةً للتحوّلات في المسير الكلامي للأشاعرة.
بعد الغزّالي، عمل فخر الدين الرازي أحد كبار المتكلّمين والمؤثّرين في الفكر الكلامي الأشعري على إتمام المسيرة التي كان قد بدأها الغزّالي، وأحدث تحوّلًا كبيرًا في الكلام الأشعري من خلال الدمج بين الكلام الأشعري والفلسفة المشائيّة والمنطق الأرسطي. لقد شكّل الفخر الرازي نقطة تحوّل في تاريخ الفكر الكلامي عند الأشاعرة حيث يمكن بوضوح تشخيص التمايزات الجوهريّة والاختلافات في المنهج والمباني بين هاتَين المرحلتَين من الفكر الأشعري.
وبعد الفخر الرازي مشى سائر متكلّمي الأشاعرة على نهجه وطريقته وعرف الكلام الأشعري اتجاهًا مختلفًا. ومن الشخصيّات البارزة بعد الفخر الرازي يمكن الإشارة إلى القاضي عضد الدين الإيجي صاحب الكتاب الشهير المواقف. لقد كان الإيجي واحدًا من أواخر المتكلّمين أصحاب الفكر بين الأشاعرة، وبعد الإيجي وشرّاح كتابه بدأ الفكر الأشعري يخسر نشاطه وحيويّته تدريجيًّا، إذ لا نجد في القرون اللاحقة شخصيّات مؤثّرةً وأصحاب نظر في الفكر الكلامي عند الأشاعرة. بالطّبع لا يزال كلام الأشاعرة حتّى عصرنا الراهن يحظى بالكثير من الأتباع في مجتمعات أهل السنّة، وتُعرف هذه المدرسة الكلاميّة كواحدة من أهمّ المدارس والتيّارات الكلاميّة عند أهل السنّة، غير أنّ القرون الأخيرة لم تشهد ظهور متكلّمين مشهورين ومؤثّرين في هذه المدرسة الكلاميّة، واقتصر الفكر الكلامي في هذه الفترات على كونه شرحًا وحاشيةً على جهود القدماء في هذه المدرسة.
خلاصة الدرس
ـ أدّى إفراط المعتزلة في النزعة العقليّة وتطرّف أهل الحديث في تمسّكهم بظواهر الأحاديث وبُعدهم عن العقل والاستدلال إلى مواجهة كلّ من هذَين التيّارَين لمشكلات على صعيد التعرّف على المعارف الدينيّة والدفاع عنها، وقد هيّأ هذا الوضع الأرضيّة لظهور تيّارات إصلاحيّة.
ـ أجاز الأشعريّ خلافًا لأهل الحديث الاستدلالات العقليّة والأبحاث الكلاميّة، ولكنّه خلافًا للمعتزلة اعتبر أنّ العقل لا ينفع في معرفة الحسن والقبح فكان يستحصل على موادّ الاستدلالات من القرآن والسنّة.
ـ عرض الأشعريّ نظريّات جديدة لأجل حلّ بعض المسائل الكلاميّة وكان من جملتها: تقسيم الكلام إلى الكلام اللفظي والكلام النفسي في مسـألة خلق القرآن، ونظريّة الكسب في مسألة الجبر والاختيار.
ـ تابعت مدرسة الأشاعرة سيرها التكاملي بعد الأشعري من خلال الجهود التي بذلها متكلّمو هذه المدرسة، ولا شكّ أنّ العديد من التحوّلات قد ظهرت في الفكر الأشعري، وكان أهمّها التحوّل الذي حصل في نهاية القرن السادس مع دخول الفكر الفلسفي إلى الكلام الأشعري بواسطة الفخر الرازي.
أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)
1- من أسّس مدرسة الأشاعرة؟ وفي أيّ زمان تأسّست هذه المدرسة؟ وما كانت أهدافها؟
2- في أيّ شيء تختلف منهجيّة الأشاعرة عن كلّ من المعتزلة وأصحاب الحديث؟
3- أوضح رأي الأشاعرة في مسألة الكلام الإلهي.
4- اشرح نظريّة الكسب عند الأشاعرة باختصار.
[1][3] طُبعت هذه الرسالة وباتت في متناول الأيدي.
[2][4] سورة الصافّات، الآية 96.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13417/kalam7/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.