تاريخ علم الكلام | الدرس الثامن | كلام أهل السنّة من القرن الرابع حتّى القرن التاسع: تاريخ الماتريديّة وعقائدها
أهداف الدرس
1- بيان تاريخ نشوء مدرسة الماتريديّة الكلاميّة والعوامل المؤثّرة في ظهور هذه المدرسة؛
2- تبيين أهمّ معتقدات الماتريديّة؛
3- تحليل التحوّلات الأساسيّة في الفكر الماتريدي.
تذكرة
تبيّن في الدرس السابق أنّ بدايات القرن الرابع، ونتيجةً لإفراط المعتزلة في نزعتها العقليّة من جهة، ومبالغة أهل الحديث في تمسّكهم بالظواهر وابتعادهم عن العقل والاستدلال من جهة أخرى، قد شهدت تأسيس مدرسة الأشاعرة الكلاميّة بهدف تحقيق الإصلاح في الفكر السنّي. وذكرنا أنّ أبا الحسن الأشعري قد أجاز – خلافًا لأهل الحديث – الاعتماد على الاستدلالات العقليّة والدخول في المباحث الكلاميّة، كما أنّه كان يعتقد خلافًا للمعتزلة أنّ العقل لا ينفع في معرفة حُسن الأشياء وقُبحها.
سنتعرّف في هذا الدرس على مدرسة أخرى من المدارس الكلاميّة عند أهل السنّة، وهي مدرسة الماتريديّة، التي ظهرت في الفترة الزمانيّة نفسها لظهور مدرسة الأشاعرة، وحملت الأهداف نفسها.
مدرسة الماتريديّة الكلاميّة
هُم أتباع أبي منصور محمّد بن محمّد بن منصور الماتريدي المتولّد في منتصف القرن الثالث للهجرة في بلدة تُدعى <ماتريد> أو <ماتريت>، وتُعدّ من توابع سمرقند. تلقّى أبو منصور الماتريدي العلوم الإسلاميّة في سمرقند وبُخارا فحضر عند مشايخ يُعدّون من تلامذة أبي حنيفة – أحد أئمّة الفقه السنّي – بواسطة أو واسطتَين؛ فوقع بهذا ضمن سلسلة تلامذة أبي حنيفة.
يعتبر أبو منصور الماتريدي نفسه وارث أبي حنيفة وشارح علومه، وقد كان من أتباعه ليس في الفقه وحسب بل في العقائد أيضًا، ومع هذا فقد أسّس مدرسةً ونظامًا فكريًّا جديدًا متمايزًا عن فكر أبي حنيفة. ذهب أبو منصور، كما أبو الحسن الأشعري وخلافًا لأهل الحديث، إلى القول بحجيّة العقل النظري فكان يؤمن بالنظر والاستدلال، وقد خالف المعتزلة أيضًا فامتنع عن التعامل مع العقل على أنّه المصدر الوحيد للمعرفة، بل كان يعتقد أنّ الكتاب والسنّة مصدران من المصادر الأساسيّة في استنباط المعارف الدينيّة، أمّا تمايزه الأساسي عن أبي الحسن الأشعري فكان في اعتقاده بالعقل العملي وقبوله لمسألة الحسن والقبح العقليَّين.
تقدّم في الدرس السابق أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباع مدرسته أنكروا الحسن والقُبح العقليَّين واعتبروا أنّ طريق إدراك حُسن الأفعال وقُبحها لا يكون إلّا من خلال الوحي والأدلّة السمعيّة. أمّا الماتريديّ فقد كان يقبل حُكم العقل في إدراك حُسن الأفعال وقبحها ضمن شروط وظروف معيّنة، ومن هنا يُمكن عدّ الماتريدي ومدرسة الماتريديّة أقرب إلى النزعة العقليّة، وبتعبير آخر يُمكن القول: إذا كان تيّار الأشاعرة يقف بين مدرستَي المعتزلة وأهل الحديث، فلا بدّ من اعتبار الفكر الماتريدي فكرًا وسطيًّا بين الأشاعرة والمعتزلة، فالماتريديّة أقرب إلى المعتزلة وأبعد عن أهل الحديث.
عاصرت الماتريديّة مدرسة الأشاعرة إلا أنّهما ظهرتا في مكانَين مختلفَين من العالم الإسلامي. فقد نشأت الأشعريّة في البصرة وبغداد، مركزَي العالم الإسلامي، في حين أنّ الماتريديّة تأسّست في شرق العالم الإسلامي في مدينة سمرقند. واستنادًا إلى الشواهد الموجودة، يُمكن القول بعدم وجود أيّ علاقة وارتباط فكريّ بين مؤسِّسَي هاتَين المدرستَين، إلّا أنّ تقاطع الأهداف بين كلّ من أبي منصور وأبي الحسن وسعيَ كلّ منهما إلى خلق التوازن في الفكر السنّي أدّى إلى وجود مشتركات عدة بين هذَين الفكرَين الكلاميَّين. وكما هو معلوم، فقد كانت مواجهة الأشعريّ في مركز العلم الإسلامي، أي البصرة وبغداد، مركّزةً مع الفكر المعتزليّ، في حين كان أبو منصور الماتريدي يواجه في المنطقة الشرقيّة من العالم الإسلامي النزعة النصيّة وتيّار الحديث بشكل أساسيّ. وعلى الرغم من ذلك، عمل الماتريدي على نقد الفكر المعتزلي أيضًا، ورفض عقائدهم بشدّة، مع أن مدرسته كانت في الوقت عينه ذات نزعة عقليّة تقوم في قبال النزعة النصيّة الإفراطيّة، إلا أنّها نزعة عقليّة معتدلة.
مصادر المعرفة وطُرقُها
من الموضوعات التي تستحق الإشارة في النظام الفكري والكلامي لأبي منصور الماتريدي الأبحاثُ المرتبطة بمصادر تحصيل العلم والمعرفة أو طرقه، ففي قبال النظامَين الفكريَّين المتمثّلَين بالمعتزلة وأهل الحديث، اللذَين ذهب أحدهما إلى قَصْر مصادر المعارف الدينية على العقل واقتصر الآخر على الاعتماد على النقل والأخبار، نجد أبا منصور الماتريدي قد طرح ثلاثة مصادر للمعرفة، ولا سيّما الدينيّة منها.
يرى الماتريدي أنّ أهمّ طرق المعرفة وعمدتها تكمن في الإدراكات المباشرة للإنسان عن طريق الحواسّ، وقد اصطلح على هذا الطريق بـ <العيان>، والمقصود من هذا الاصطلاح: المعرفة التي يكتسبها الإنسان بشكل مباشر، ودون واسطة، عن طريق إحدى حواسّه الخمسة. كان أبو منصور يعتبر هذا الطريق من المعرفة المباشرة أهمّ طُرق المعرفة وأكثرها قيمةً، فالمعارف الحسيّة هي المعارف الأساسيّة الموجبة للعلم والقابلة للاعتماد.
ثاني طُرق المعرفة هي الأخبار أو ما يُعرف اصطلاحًا بالطريق النقلي، فلو أنّ حواسّنا عجزت عن الوصول إلى معرفة ما، واستحصل شخص آخر على هذه المعرفة عن طريق حواسّه ثمّ عاد فأخبرنا بها ونقل نتيجتها إلينا، فإن نقله أو إخباره هذا يكون طريقًا معرفيًّا آخر. فالخبر الذي ينقله إلينا شخص ما دون واسطة، بحيث يكون هو بدوره قد تلقّى المعرفة من طريق حواسّه وبشكل مباشر، يُعدّ خبرًا موجبًا للعلم وحجّةً في مجاله. ومثاله في المباحث الدينيّة ما لو سمعنا مباشرةً خبرًا عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، فالخبر الصادق الذي نأخذه بشكل مباشر دون أيّ واسطة عن الشخص الذي يمتلك المعرفة يكون خبرًا موجبًا للعلم ومحلًّا للثقة والاعتماد، في حين أنّ موقفنا يختلف في شأن الخبر الذي ينتقل إلينا بالواسطة. فإذا كان الأشخاص الذين يتوسّطون بيننا وبين المخبِر الأساسي متعدّدين – أي إنّ الخبر قد نقله كثيرون عن كثيرين فكانت الكثرة متحقّقةً في مختلف طبقات الوسائط – وهو ما يُعرف اصطلاحًا بالخبر المتواتر، فالخبر هذا يكون أيضًا موجبًا للعلم ومحلًّا للثقة، وهكذا جعل الماتريدي الخبر المتواتر جنبًا إلى جنب مع المعرفة المباشرة في مقام الحجيّة. وأمّا في الموارد التي ينتقل إلينا الخبر فيها عن طريق الآحاد، بمعنى الخبر الذي ينقله شخص واحد أو ينفرد بإخباره شخص واحد في إحدى طبقات المخبرين، فالخبر هذا لا يكون حجّةً ولا يصحّ الاعتماد عليه. وعلى الرغم من هذا، فإنّ أبا منصور الماتريدي لم يُقصِ الخبر الواحد نهائيًّا، بل ذهب إلى ضرورة إخضاع خبر الواحد إلى ميزان العقل، وحينها إذا أيّد العقل والاستدلال محتوى هذا الخبر فمن الممكن الاعتماد على خبر الواحد بوصفه طريقًا من طرق المعرفة. وهكذا يتّضح كيف أنّ أبا منصور الماتريدي قد مهّد طريق الأخبار والروايات في ميدان المعرفة الدينيّة.
أمّا ثالث طُرق المعرفة من وجهة نظر الماتريديّة فهو العقل، غير أنّ الماتريدي لم يذهب كما ذهبت المعتزلة، فلم يجعل من العقل طريقًا إلى العلم والمعرفة بشكل مطلق دون أيّ شروط وقيود. فقد كان الماتريدي يعتقد بحجيّة العقل وإمكان الاعتماد عليه بشكل مستقلّ في استنباط المعارف الدينيّة في الموارد التي نفتقد فيها إلى الدليل الشرعي، أي حين لا يكون بين أيدينا خبر مباشر أو غيره ممّا تواتر إلينا أو حظي بتأييد العقل. وبهذا البيان بات حدّ الاعتدال والوسطيّة التي طرحها أبو منصور، بين الرؤية الإفراطيّة للمعتزلة من جهة وأهل الحديث من جهة أخرى، أمرًا ملحوظًا. وبهذا يكون الماتريدي قَبِل العقل النظريّ، وقدّم النقل والدليل السمعي بوصفه طريقًا لإدراك المعرفة الدينيّة.
أهم الموضوعات الكلامية لمدرسة الماتريدية
الوجوب العقلي في معرفة الله
تناول أبو منصور الماتريدي مجموعةً من الموضوعات الكلاميّة، وعمل على عرض النظريّات والأفكار في المجالات الكلاميّة المختلفة. وكان من جُملة ما طرحته الماتريديّة من عقائد مسألة الوجوب العقلي في معرفة الله.
أنكر أهل الحديث والأشاعرة كون معرفة الله أمرًا واجبًا عقلًا، وذلك لأنّهم كانوا ينكرون الحسن والقبح العقليَّين، فلم يبقَ عندهم مجال للحديث عن أيّ وجوب عقليّ قبل قبول الدين والدخول في الشرع، ومن هنا، فما لم يَثبت وجوبٌ شرعيّ فلا يمكننا الحديث عن وجوب عقليّ[1]. لذا لم يُطرح في النظام الكلامي للأشاعرة بحث عن الوجوب العقلي للمعرفة. أما الماتريدي، فقد ذهب بقبوله للحسن والقبح العقليَّين إلى اعتبار معرفة الله واجبًا عقليًّا، والقول بالوجوب العقلي للمعرفة.
الصفات الخبريّة
من المسائل التي وقعت موردًا للبحث في النظم الكلاميّة ومحلًّا للاختلاف بين المعتزلة وأهل الحديث مسألة الصفات الخبريّة.
وقد طرح متكلّمو الماتريديّة في هذه المسألة نظريّتَين، فذهبت مجموعة منهم إلى القول بضرورة ترك معنى هذه الصفات وإرجاعه إلى الله تعالى، وعُرفت نظريّتهم هذه بـ <التفويض>، والمقصود به إرجاع الأمر وتفويضه إلى الله تعالى. فرأت هذه الفئة من متكلّمي الماتريديّة أنّ قبول أصل الصفات الخبريّة كاليد والسّاق والوجه والاستواء على العرش وغيرها أمرٌ لا بدّ منه؛ لورودها في القرآن والسنّة ونسبتها إلى الله تعالى، لكن لمّا كان معناها الظاهري مناف للتوحيد من جهة، وكانت نسبة معانٍ غيرها إلى الله ممنوعةً من جهة أخرى، بات الواجب علينا أن نوكِل أمر معناها ونفوّضه إلى الله تعالى. أمّا الفئة الأخرى من متكلّمي الماتريديّة فقد تبنّت في هذه المسألة مقولة المعتزلة وقالت بالتأويل العقلي لهذه الصفات الخبريّة.
علاقة الذات بالصفات
وقعت هذه المسألة بدورها محلًّا للبحث والاختلاف بين المتكلّمين، وكنّا قد ذكرنا سابقًا أنّ المعتزلة لجؤوا بُغية نفي التعدّد والتركيب في الذات الإلهيّة إلى إنكار الصفات الإلهيّة، فطرح بعضهم نظريّة النيابة وآخرون نظرية العينيّة. أمّا الماتريدي، فقد عدّ الصفات الإلهيّة ذاتيّةً وقديمةً، معتقدًا أنّ لله أوصافًا كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، لكنّه قيّد اعتقاده هذا بالقول بأنّ هذه الصفات الذاتيّة والقديمة لا هي عين الذات ولا هي غيرها، فلا هي هو ولا هي غيره، فكان الماتريدي في هذه المسألة حال قبوله للصفات الإلهية يسعى إلى نفي تعدّد الموجودات القديمة ونفي التركيب عن الذات الإلهيّة.
حُسن الأفعال وقُبحها
ممّا وقع محلًّا للاختلاف والنزاع بين التيّارات الكلاميّة أيضًا قضيّة حُسن الأفعال وقُبحها. وكنّا قد ذكرنا فيما مرّ أنّ أهل الحديث والأشاعرة لم يعتقدوا بالحسن والقبح العقليَّين واعتبروا ملاك الحسن والقبح منحصرًا بالإرادة الإلهيّة التي يمكن التعرّف عليها من خلال الأدلّة النقليّة. أما الماتريدي فقد اقترب في هذه المسألة من الفكر المعتزلي معتقدًا بالحُسن والقبح العقليَّين للأفعال. وكما يُفهم ممّا وصلنا من آثارٍ وأفكارٍ عن الماتريدي وتلامذته، فهو لم يقبل ببعض لوازم مسألة الحسن والقبح العقليَّين التي كانت تُطرح من قبل المعتزلة، في حين أنّه كان يقبل أصل مسألة إدراك العقل لحسن الأفعال وقبحها، ويستفيد منها في العديد من الموضوعات الكلاميّة. انطلاقًا من هذا، كان الماتريدي يعتقد أنّ أفعال الله معلّلةٌ بالأغراض وأنّ من الممكن فرض أهداف وأغراض للأفعال الإلهيّة.
الجبر والاختيار
من المسائل المهمّة أيضًا والتي اختلفت فيها المدارس الكلاميّة مسألة خلق الأفعال والعلاقة بين أفعال الناس وإرادة الله وفعله. وقد تبيّن سابقًا أنّ أهل الحديث والأشاعرة اعتبروا أنّ الله هو خالقُ أفعال العباد، وأنّهم لم يعتقدوا بأيّ أثر أو دور لإرادة الإنسان في الفاعليّة وخلق الأفعال.
ذهب أبو منصور الماتريدي، كما الأشاعرة وأهل الحديث، إلى الاعتقاد بكون أفعال العباد مخلوقةً من قبل الله تعالى، كما أنّه كان يعتقد استنادًا إلى نظريّة اشتهرت بعنوان <التوحيد الأفعالي> أنّ أفعال العباد مخلوقة لله وقد حدثت بقدرته وإرادته، لكنّه قال في الوقت عينه ببطلان الجبر وبأنّ للإنسان دورًا في إيجاد أفعاله. انطلاقًا من هنا، اهتمّ من خلال طرح نظريّة الكسب بالدفاع عن فاعليّة الإنسان واختياره. هذا وقد اختلف التقرير الذي قدّمته الماتريدية لنظريّة الكسب عن ذلك الذي عرضه أبو الحسن الأشعري والمتكلّمون الأشاعرة، ويمكن القول باختصار إنّ ما طرحه الماتريدي وسعى إلى تقريره في نظريّة الكسب هو العلاقة الطوليّة بين الله والإنسان. وبهذا التوضيح، يكون للإنسان دور لناحية القدرة والإرادة اللذَين يشكّلان السبب والمسوّغ لكسب الأفعال، فيما يكون خلق الفعل وإيجاده من الله تعالى.
الإيمان والكفر
من الموضوعات الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في النظام الفكري للماتريدي نظرته في مسألة الإيمان والكفر، فبما أنّ أبا منصور كان من أتباع أبي حنيفة، ومعلومٌ أنّ أبا حنيفة يُعدّ من كبار القائلين بالإرجاء ورؤوسهم، فقد كان أبو منصور من أتباع نظريّة الإرجاء في مسألة الإيمان والكفر، حيث كان يعتقد أنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي وأنّه لا دور للعمل فيه.
أشهر المتكلّمين الماتريديّين
يمكن في هذا السياق ذكر العديد من المتكلّمين الذين أثّروا في الفكر الماتريدي، ومن بينهم القاضي أبو اليسر البَزْدَوي صاحب كتاب أصول الدين، الذي عاش في القرن الخامس للهجرة، وكان من الشخصيّات المهمّة والمؤثّرة في الفكر الماتريدي.
أبو المعين ميمون بن محمد النّسَفي هو بدوره أحد الشخصيات المهمّة جدًّا والمؤثّرة في الكلام الماتريدي أيضًا، وقد دوّن العديد من المؤلّفات في بيان أفكار أبي منصور والنظام الكلامي الماتريدي. يُعدّ كتاب تبصرة الأدلّة أهمّ كتاب كلامي من بين آثاره العلميّة، وهو يعتبر أهمّ المصادر الكلاميّة الرئيسية للفكر الماتريدي بعد كتاب التوحيد الذي دوّنه أبو منصور.
شخصيّة أخرى هي نجم الدين عمر بن محمد النّسَفي، الذي ألّف كتابًا يُعرف اليوم بعنوان العقائد النسفيّة، وقد كتبت عليه العديد من الشروحات ويُدرّس في المراكز الدينيّة الماتريديّة بوصفه متنًا لدراسة الكلام.
متكلّم آخر يمكن ذكره هو كمال الدين ابن الهُمام صاحب كتاب المسايرة، والذي سعى من خلاله إلى نشر الفكر الماتريدي.
ومن الشخصيّات التي يمكن ذكرها أيضًا كمال الدين أحمد البيّاضي والذي يعدّ من الماتريديّين المتأخّرين في القرن الثاني عشر للهجرة، له كتاب بعنوان إشارات المرام من عبارات الإمام وهو من المصادر المهمّة ضمن الآثار الكلاميّة للماتريديّة.
وكما ذكرنا، فقد ظهر الفكر الكلامي لأبي منصور الماتريدي في شرق العام الإسلامي وعرف نموًّا وتوسّعًا في هذه المنطقة، وبما أنّ مؤسّس هذه المدرسة كان متّبعًا لمذهب أبي حنيفة الفقهيّ، عرفت هذه المدرسة قبولًا واسعًا بين الحنفيّين وشيئًا فشيئًا بات معظم الحنفيّين من أتباع هذا الفكر الماتريدي.
ويمكن القول اليوم إنّ جميع الماتريديّين في العالم حنفيّو المذهب، كما أنّ أكثر من 79% تقريبًا من الحنفيّين يتبعون المدرسة الماتريديّة كلاميًّا. وبالنظر إلى أنّ الكثافة السكّانيّة في مناطق شرق العالم الإسلامي، ولا سيّما جنوب شرق آسيا، مرتفعة جدًّا، وإلى كون المذهب الطاغي في هذه المناطق هو الماتريديّة، فإنّ تعداد الماتريديّين على مستوى العالم الإسلامي بأكمله يقارب تعداد الأشاعرة. فعلى الرغم من أنّ ملاحظة الانتشار الجغرافي تشي بأن أكثر المناطق والبلدان الإسلامية تتبع المذهب الأشعري، إلّا أنّ ملاحظة عديد الأفراد التابعين يشي بوجود تساوٍ بين الأشعريّين والماتريديّين.
خلاصة الدرس
ـ تُعدّ مدرسة الماتريديّة واحدةً من أكبر المدارس الكلاميّة عند أهل السنّة، وقد تأسّست في بدايات القرن الرابع للهجرة من أجل الدفاع المنهجيّ عن فكر أهل السنّة.
ـ كان أبو منصور الماتريدي ذا نزعة عقليّة أكبر من الأشعري، وقد اختلف مع الأشاعرة من خلال قبوله المحدود للحسن والقبح العقليَّين.
ـ عرفت مدرسة الماتريديّة انتشارًا وتوسّعًا كبيرَين في شرق العالم الإسلامي وبين أتباع المذهب الحنفي، وتحظى اليوم بالكثير من المؤيّدين.
أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)
1- من كان مؤسّس مدرسة الماتريديّة؟ وفي أيّ زمان تأسست هذه المدرسة؟
2- ما هو الاختلاف القائم بين الأشاعرة والماتريديّة على الصعيد المنهجيّ؟
3- ما هي آراء الماتريديّة في مسألة طرق المعرفة المعتبرة؟
4- ما هو الفرق بين الأشاعرة والماتريديّة في مسألة الصفات الإلهيّة؟
مصادر البحث:
[1] مدار النقاش في هذه المسألة هو الجواب على القضية التالية: لو فرضنا أن الله سبحانه لم يرسل الرُسُل ولم ينزل الشرائع، فهل يمكن القول إن قضية معرفة الله سبحانه والإيمان به تبقى قضيةً واجبةً حتى وفق هذا الفرض؟ بعبارة أخرى: هل يحكم العقل بوجوب هذه المعرفة بشكل مستقل عن حكم الشرع بوجوبها؟ وبالتالي، هل يُحاسَب العباد على عدم إيمانهم بالله لو أن الله لم يرسل إليهم الرُسُل؟
ذهب الأشاعرة وأهل الحديث إلى إنكار هذا الوجوب، واعتبروا أن وجوب معرفةِ الله والإيمانِ به لا يتحقق إلا بعد ثبوت الشرائع وإرسال الرُسل، وعليه فالله لا يحاسب العباد على عدم إيمانهم به إلا انطلاقًا من كونه أرسل إليهم الأنبياء الهداة الذين دلوهم على الله وسدوا عليهم باب الاحتجاج بأنه لم يرسل إلينا من يرشدنا إلى معرفته. وبذلك، لم يقبلوا كون معرفة الله واجبةً بمعزلٍ عن ثبوت الشرع أولًا، واعتبروا أن الكلام على وجوب عقلي لهذه المعرفة لا معنى له، لأن العقل ليس مخوّلًا للحكم بالحسن والقبح حتى يحكم بوجوب شيء.
أما المعتزلة والماتريدية، وانطلاقًا من اعتقادهم بحجية العقل المستقل في مسألة التحسين والتقبيح، فقد تبنّوا القول بالوجوب العقلي لمعرفة الله حتى مع فرض عدم إرسال الرُسل، فمعرفةُ الله والإيمانُ به واجبان عندهما حتى وفق هذا الفرض، والإنسانُ يحاسب على عدم إيمانه بالله حتى لو لم تصل إليه أي شريعة، لأن العقل أوجب هذه المعرفة استقلالًا وقبل ثبوت الشرع. نعم الشرع أوجبها أيضًا، فباتت واجبةً بالوجهَين. [المحرّر]
المقالات المرتبطة
العلم وسؤال الحقيقة! هل يتعهّد العلم أن يكشف لنا كل الحقائق؟!
العلم اليوم لم يعد – بإطلاقه الصناعي – يمثّل راياتِ الكشف في طريق الحقيقة، بل أصبح راية “التجربة” في طريق الكشف. إنّ بزوغ نجم علم الطبيعة في القارة الأوروبية
إيقاعٌ بعدَ هُدوء
يجدر بنا توضيح الأسلوب الفني في قراءة هذا المقال بالنسبة للقارئ الكريم، أنَّ (الفعل بصيغة الجمع)، و(ناء الدالة على الفاعلين) يرجع “لكاتبة المقال”
الصلة بين العلوم الشرعية ونظرية المعرفة/الإبستمولوجيا
تبدو حاجة الأمة الإسلامية ماسة وضرورية لبناء منهاج جامع لعلوم الوحي/القرآني، وعلوم الإنسان/البشري…
1. تاسست مدرسة الماتريدية على يد ابو منصور الماتريدي في منتصف القرن الثالث للهجرة.
2. فقد قبل الماتريديون خلافا للاشاعرة, حكم العقل في ادراك حسن الافعال وقبحها ضمن شروط وظروف معينة.
3. وفي طرق المعرفة المعتبرة, قال الماتريديون ان الحواس اساس المعارف العلمية والقابلة للاعتماد, واخضاع الخبر الواحد الى حكم العقل اما الخبر المتواتر يعتمد عليه,كما ان حجية العقل مقبولة حين تنتفي الدلائل الشرعية.
4. في مسالة الصفات الالهية, اعتبر المتاريدية ان الصفات هي ذاتية قديمة فلا تمثل الله ولا هو هي. في حين ان الاشاعرة كما المعتزلة نفوا التعدد في الذات الاهية ونكروا الصفات الاهية.
الاشاعرة فى تأويلهم للصفات الخبرية لم يكونوا كالمعتزلة ففى حين قام المعتزلة بالتأويل العقلى نجد الاشاعرة اكتفوا بالتأويل السطحى للنص وهو ما يحيل الى التركيب والتعدد وهو مايتنافى مع الذات الالهية وبساطتها، وللتوضيح المعتزلة مثلاً أولو آيه ” يد الله فوق أيديهم” على أنها القدرة الألهية، بينما الأشاعرة أخذوا المعنى على ظاهرة فقالو أن لله يد ومعنى ذلك أن الله مركب ويفتقر لهذه اليد تعالى الله عما يقولون.
يعتبر أبو منصور محمد بن بن منصور الماتريدى الذى ولد فى بلدة ماتريد فى سمرقند
هو مؤسس المدرسة الماتريدية، وذلك فى منتصف القرن الثالث الهجرى .
واستخدمت المدرسة الماتريدية منهجا يعتمد على النظر والأستدلال العقلى وقبول حكم العقل فى أدراك الحسن والقبح الذاتى فى المسائل الكلامية بينما اعتمد الاشاعرة على منهج نقلى نصى ورأو أن الحسن والقبح هو أمر شرعى لا دخل للعقل به. ومن ثم يفترق المنهجان عن بعضهما الآخر.
واعتبر الماتريدية أن طرق المعرفة تتم من خلال ثلاث طرق هم: الحواس والاخبار أو النقل وأخيراً العقل ولكن ليس بشكل مطلق.
وافترقت الماتريدية عن الأشاعرة فى فى مسألة الصفات الالهية حيث قالوا أن الصفات الالهية قديمة وذاتية ولكن لا هى عين الذات ولا هى غيرها، ونفوا التعدد والتركيب عن الذات الالهية، أما الاشاعرة فرأو أن الصفات الالهية زائدة عن الذات ومن ثم يحيل ذلك الى التعدد والتركيب فى الذات الالهية وهو محال.وبالنسبة للصفات الخبرية انقسمت الماتريدية الى قسمين: الأول رأى ضرورة ترك معنى هذه الصفات وتفويضها الى الله، والثانى رأى ضرورة تأويل هذه الصفات تأويلاً عقلياً أن التأويل الظاهرى للنص يؤول الى التركيب وهو لا يجوز على الله ، أما الأشاعرة فقد قاموا بتأويل هذه الصفات على المعنى الظاهرى.