by السيد حسن طالقاني | أغسطس 6, 2021 8:44 ص
أهداف الدرس
1- تقديم تعريفٍ لمصطلح <المدرسة> وإيضاح مكانتها في تحليل تاريخ الفكر الإمامي؛
2- تقديم الأدلّة الواضحة على وجود مدرسة فكريّة شيعيّة في المدينة؛
3- تبيين أهميّة مدرسة المدينة في تاريخ الفكر الإمامي.
مدخل
سنقوم، بُغية دراسة تاريخ الكلام عند الإماميّة، بتقديم إطلالة وصورة عامّة عن تاريخ هذا الفكر الكلامي، وسنستعرض بشكل مختصر المدارس الكلاميّة التي ظهرت على مرّ تاريخ التشيّع، مع الإشارة إلى مكانة كلّ واحدة من هذه المدارس ودورها.
تعريف المدرسة
يُطلق اصطلاح المدرسة محلّ الكلام في هذه الأبحاث على مجموعة المتخصّصين الذين يعملون في مجال علميّ مشترك، بحيث يقومون بإنتاج موادّ علميّة جديدة من خلال تفاعلهم مع بعضهم البعض في محيط جغرافيّ معيّن.
فالمدرسة في تاريخ الكلام والفكر ليست بمعنى مكان التدريس، كما أنّ ارتباط المدارس بأسماء مدن أو أماكن جغرافيّة معيّنة لا يعني أنّنا نهدف إلى حدّ هذه المدرسة بهذه المنطقة الجغرافيّة، بل وكما أشير في التعريف فإنّ المدارس تتشكّل عادةً في محيط جغرافيّ محدّد تتمحور حوله، غير أنّ المقصود من المدرسة هو الفكر الذي يتشكّل وينشأ في هذا المحيط الجغرافي، وهكذا فإنّ مجموعة المتخصّصين والعلماء الذين يدورون في فلك هذا الفكر ويتفاعلون علميًّا فيما بينهم منشغلين بإنتاج الميراث العلميّ، سيشكّلون أعضاء هذه المدرسة.
كمثال على ذلك، نحن إذا استحضرنا مدرسة الكوفة، سنجد أنّه من غير الضروري أن يسكن جميع متخصّصي هذه المدرسة وعلمائها في مدينة الكوفة، بل كثيرون هم أولئك الذين عاشوا في البصرة أو بغداد أو مدن أخرى ومع ذلك يُعدّون جزءًا من مدرسة الكوفة؛ نتيجةً للارتباط العلمي الذي جمعهم مع متكلّمي مدينة الكوفة، كأن يكونوا قد تتلمذوا فيها وكان لهم أساتذة كوفيّون، أو ارتبطوا علميًّا مع متكلّمي الكوفة ومشايخها بطريقة أخرى فكانوا ينشطون علميًّا في ميدان الحركة الفكريّة الموجودة في الكوفة.
المسألة الأخرى التي نودّ التذكير بها كمقدّمة، هي أنّنا عمدنا في الدروس الأولى، في إطار بيان أدوار تاريخ الكلام الإسلامي، إلى تقسيمه إلى أربعة مراحل أساسيّة، أولها مرحلة الأصالة والاستقلال التي بدأت من البدايات واستمرّت حتّى منتصف القرن الثالث للهجرة، وذكرنا بعدها مرحلة التنافس والاختلاط، ومن ثمّ مرحلة الأفول، وفي النهاية مرحلة التجديد والإحياء، وقمنا أيضًا بتقسيم بعض هذه المراحل إلى حقبات زمانيّة أصغر.
وسنتبع هنا أيضًا، في بحثنا ودراستنا لتاريخ الفكر الإمامي، التقسيم المذكور نفسه، وسنبدأ في البحث عن تاريخ الكلام الإمامي من مرحلة الأصالة والاستقلال، وتحديدًا من حقبتها الأولى، حقبة ظهور المباحث الكلاميّة وتشكّلها. في هذه الحقبة التي بدأت من العقود الأولى للإسلام، ومع رحيل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، كانت المدينة تمثّل مركز الفكر الكلامي عند الشيعة. ومن هنا، سنتحدّث في هذا الدرس عن حضور مدرسة فكريّة كلاميّة للشيعة في المدينة المنوّرة، وهكذا تكون مرحلة تشكّل الكلام الإمامي متزامنةً ومتطابقةً مع مدرسة المدينة.
إن من الدقة اعتبار مدرسة المدينة أولى المدارس الكلاميّة عند الإماميّة ومركز الفكر الإمامي، فلقد عرفت هذه المدرسة نشاطًا منذ بدايات طرح المباحث الكلاميّة في العقود الأولى للإسلام وحتّى أواخر عصر الحضور، أي فترة الإمامَين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، وقد تشكّلت في المدينة حركة فكريّة واجتماعيّة للشيعة تتمحور حول شخصيّة الأئمّة.
وكما هو معلوم، فإنّ أئمّة الشيعة كانوا يحضرون في المدينة في غير أوقات الاضطرار، كما أنّهم كانوا يشدّدون ويؤكّدون على الحضور والتواجد فيها. لقد كانت المدينة في العقود الأولى للإسلام تمثّل المركز الأساس للعلوم الإسلامية على الصعيدَين الثقافي والعلمي، كما أنّ الفكر الشيعي في المدينة تشكّل وانتشر استنادًا إلى محوريّة أهل البيت. فكان الشيعة يراجعون أهل البيت (عليهم السلام) لطرح المعضلات التي تواجههم وعرض أسئلتهم عليهم، ومن ثمّ يعكفون على نشر معارف أهل البيت في المجتمع والقيام بتحليلها، وهكذا كانوا يساهمون في زيادة الميراث الكلامي الإمامي.
يُعتبر الإمام من وجهة نظر الشيعي – لا سيّما الإمامي – المصدر الوحيد لتلقّي المعارف الدينيّة، سواء في مجال الأحكام الشرعيّة أو في مجال العقائد والأخلاق. ومن هنا، كان الشيعة يرجعون إلى أئمّتهم في جميع المسائل الدينيّة من أجل طرح ما عندهم من أسئلة والحصول على أجوبة عنها، وقد أدّى وجود هذه الخاصّيّة في المجال الاعتقادي إلى توفّر مجموعة من المواضيع الكلاميّة التي أجاب عنها أهل البيت، فشكّلت المحور والنواة الأساسيّة للفكر الشيعي في المدينة. وانطلاقًا من هنا، نحن نتعامل مع مدرسة المدينة على أنّها الموطن الأساسي للفكر الشيعي ومركز توليد المعارف الشيعيّة.
الشواهد على وجود مدرسة المدينة
ثمة مؤشّرات وآثار عدة تدلّ على وجود مدرسة فكريّة شيعيّة في المدينة، بحيث يمكن استنادًا إليها الإفصاح عن وجود هذه المدرسة الفكريّة في القرن الأوّل للهجرة وإثبات ذلك.
من أهمّ المؤشّرات على تشكّل الكلام الشيعي في المدينة الميراثُ الذي بقي ووصل إلينا عن هذه المرحلة في روايات الفريقَين. فقد كان المحور الأساس في المدينة يكمن في بيان المعارف الاعتقاديّة من قبَل أهل البيت (عليهم السلام)، ووجود هذه المباحث في الروايات من شأنه أن يشير إلى وجود الكلام الشيعي وحضوره في المدينة.
ولعلّ مما لا يخفى، بالالتفات إلى الاضطراب السياسي والظروف التي عاشها أهل البيت في مرحلة بني أميّة والعباسيّين، أنّ الفرصة لم تكن سانحةً لأهل البيت ولا لأصحابهم للقيام بتدوين جميع معارف القرآن، كما أنّ تعداد الشيعة ونفوذهم حينها لم يكونا بحيث يتاح لهم المحافظة عى تلك المعارف التي صدرت عن الأئمّة (عليهم السلام). وبعبارة أخرى، لقد شكّلت الظروف السياسيّة والاضطرابات الاجتماعيّة في مرحلة الحضور مانعًا أمام أهل البيت (عليهم السلام) لناحية العمل بحريّة على بيان جميع الأبعاد المعرفيّة للقرآن والفكر الإسلامي.
فقد كان بيان المعارف والأحكام والمعتقدات الدينيّة يحصل في ظلّ ظروف صعبة ولعدد قليل من الشيعة، كما أنّ هذا المقدار من المعارف الذي بيّنه أهل البيت (عليهم السلام) لم يُنقل هو الآخر بشكل كامل إلى الأجيال اللاحقة؛ ذلك أنّ عدد الشيعة وإمكاناتهم في نقل معارف أهل البيت ونشرها كانت محدودةً جدًّا، وتعيقها العديد من الموانع والمشاكل. وبما أنّ الشخصيّات الأساسيّة عند الشيعة كانت تخضع لمراقبة شديدة من قبل حكّام الجور، فإنّ ما نملكه اليوم من معارف أهل البيت وعلومهم وفكرهم في مدرسة المدينة وصلنا بشكل أساسي عن بعص الشخصيّات والأفراد القريبين من التشيّع لا عن الشخصيّات الشيعيّة الأساسيّة.
وكمثال على ذلك، فإنّ الشخصيّات الأساسيّة والبارزة في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، كسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد وحذيفة بن اليمان، لم ينقلوا إلينا سوى القليل من فكر الإمام وعلمه (عليه السلام). فالواقع أنّ الظروف السياسيّة الحاكمة والرقابة المفروضة، التي أدّت إلى الحدّ من نشاط هؤلاء الأفراد في المراحل المختلفة، منعت من انتقال معارف أهل البيت عن طريقهم إلى الأجيال اللاحقة. وفي القابل، سنحت الظروف لأشخاص لم يُعرفوا رسميًّا بكونهم شيعة، ممن كانوا يسبحون في فلك التشيّع واستفادوا من علوم أهل البيت (عليهم السلام)، أن ينقلوا إلينا هذا التراث العلمي من المرحلة الأولى. وبالخلاصة، نجد اليوم ضمن مجموعة الآثار الواصلة عن الفريقَين العديدَ من الروايات المنقولة عن تلك المرحلة والتي تحمل في طيّاتها معالم الفكر الشيعي، بحيث يمكن من خلالها التعرّف على الفكر الاعتقادي والتراث الكلامي للشيعة في مدرسة المدينة.
مؤشّر آخر من مؤشّرات وجود مدرسة الشيعة في المدينة كان حضورَ التيّارات الفكريّة ضمن آل النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأبناء الإمام عليّ (عليه السلام) في المدينة، ومن النماذج المهمّة لهذه التيّارات الفكريّة يمكن ذكر مدرسة محمد بن الحنفيّة. وقد كان ابن الحنفيّة، أحد أبناء الإمام عليّ (عليه السلام)، والذي عُرف كواحد من المحدّثين الكبار ومفسري القرآن في المدينة، مؤسّسَ واحدة من أوائل المدارس العلميّة الإسلاميّة، ونعني بالمدرسة هنا وجود مركز علمي ديني، إذ يذكر المؤرّخون والراصدون لتاريخ الفكر الإسلامي في المراحل الأولى حضور مدرسة علميّة لمحمّد بن الحنفيّة في المدينة. إنّ الرجوع إلى النقولات والأخبار الموجودة عن مدرسة ابن الحنفيّة والتعاليم التي انتشرت من جانبه وجانب تلامذته تشير إلى أنّ المعتقدات الأساسيّة للتشيّع كانت قد طُرحت في هذه المدرسة، ومن جملتها الاعتقاد بالتوحيد والعدل الذي تشير النقولات إلى أنّه قد عرف طريقه إلى واصل بن عطاء والمعتزليّين عن طريق محمّد بن الحنفيّة[1][1]. إضافةً إلى هذا، فقد طُرحت في هذه المدرسة مسألة الاعتقاد بالوصاية والنصّ والتنصيب الإلهيّ في نظريّة الإمامة، والتي تُعتبر جزءًا من الأفكار الأكثر محوريّةً في التشيّع. وكذلك نرى أنّ موضوعات كالغيبة والمهدويّة والبداء، والتي تُعدّ من التعاليم المهمّة والأساسيّة عند الشيعة بل المختصّة بهم، كانت قد طرحت في مدرسة ابن الحنفيّة أيضًا. وهكذا، فإنّ مجموعة المعتقدات والأفكار هذه تشير إلى وجود مدرسة فكريّة شيعيّة في المدينة في القرون الأولى للهجرة.
من الشواهد التاريخيّة الأخرى على حضور الفكر الإمامي في القرن الأوّل للهجرة أنّنا نجد مخالفي الشيعة قد ذكروا العقائد الأساسيّة للشيعة في نقولاتهم، فكثير من هذه المعتقدات كالاعتقاد بالوصاية والنص والتنصيب الإلهي ومسألة الغيبة ومسألة البداء وتعاليم أخرى من هذا القبيل قد نُسبت في المصادر القديمة ومن قبل المخالفين إلى الشيعة، وقد وقعت كثير من هذه الأفكار موردًا للّعن والطعن بسبب نسبتها إلى شخصيّات من خارج الإسلام كعبد الله بن سبأ، الذي يُدّعى أنّه شخص ذو نسب يهوديّ. والحقيقة أن المصادر الأساسيّة تحدّثت وذكرت حضور هذه الأفكار في القرن الأوّل للهجرة. ومع ذلك، نجدهم في نهاية المطاف يسعون إلى الطعن والتشويش وتخريب هذه الأفكار من خلال نسبتها إلى أشخاص خارجين عن الإسلام، بمعنى أنّهم يشكّكون في أصالة هذه العلوم والأفكار من خلال نسبتها إلى أشخاص من اليهود أو من الإيرانيّين. يرى آخرون أنّ اسم عبد الله بن سبأ، الذي يُشار إليه في المصادر أحيانًا بابن السوداء، كان اسمًا مستعارًا لمالك الأشتر أو عمار بن ياسر؛ ذلك أنّهم كانوا يذكرونهم بهذه الأسماء سعيًا إلى طمس أسمائهم ومحي ذكراهم.
وعلى أيّ حال، فإنّ قصّة عبد الله بن سبأ أو ما ذُكر في مصادر أهل السنّة من قبل مخالفي الشيعة حول الجذور اليهوديّة أو الإيرانيّة في الفكر الشيعي ينطوي على بُعدَين:
الأوّل أنّ بعضًا من هذه المقولات تقوم على أساس ما وصل إليه تحليل أصحاب هذه المصادر، من نسبة هذه الأفكار إلى مصادر خارجة عن الإسلام، في حين أنك تجد في مقابل هذه التحليلات نظريّات وتحليلات مقابلة ومغايرة، مضافًا إلى الشواهد التاريخيّة القادرة على إبطال تلك التحليلات.
والبعد الآخر لهذه المقولات يكمن في إشارتها وإثباتها لوجود هذه المجموعة من المعتقدات في القرن الأوّل للهجرة، وفي المدينة المنوّرة تحديدًا، وهذا من شأنه أن يُشكّل شاهدًا على وجود مدرسة فكريّة للشيعة في المدينة. وبعبارة أخرى، فإن بالإمكان أن نستفيد من نفس هذه المقولات والنقولات التاريخيّة في مصادر المخالفين للاستدلال على كون الأفكار الأساسيّة للفكر الشيعي كانت مطروحةً في القرن الأوّل للهجرة في المدينة المنوّرة، وعلى أنّ هذه الأفكار والتعاليم ليست وليدة القرون اللاحقة، بل هي تعاليم شيعيّة أصيلة تمّ بياها في القرن الأوّل للهجرة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)، وتواجدت في المدارس والحلقات الدراسيّة المنتسبة إليهم (عليهم السلام) كمدرسة محمّد ابن الحنفيّة، وقد أثبتت بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت والنقولات الواردة في مصادر الفريقَين وجود هذه الأفكار والعلوم. فنفس تلك النقولات التاريخيّة التي تُثبت وجود تيّار باسم السبئيّة ينادي بنفس المعتقدات الشيعيّة، تُثبت وتؤشّر إلى وجود تيّار التشيّع ومدرسةٍ فكريّةٍ للشيعة في المدينة المنوّرة.
الأدوار الفكريّة
المسألة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها هي أنّ بالإمكان تقسيم مدرسة المدينة، بلحاظ بروز الهويّة الاجتماعيّة للشيعة وظهورها، إلى مرحلتين؛ الأولى حدُّها منذ البداية حتّى نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وواقعة عاشوراء، نُطلق عليها اسم <المدينة الأولى>، وفيها كانت الخطّة الأساسيّة للأئمّة واستراتيجيّتهم تقوم على أساس إصلاح المجتمع الإسلامي من داخله، حيث لم يكن لدى الأئمّة إصرار على إظهار الهويّة المتمايزة للشيعة، ومن هنا كان الشيعة وأفراد المجتمع الشيعي مبعثرين ومشتّتين في المجتمع الإسلامي، ولم يحظوا بهويّة متمايزة. وقد تمركز سعي الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم في هذه المرحلة على إصلاح المجتمع الإسلامي وإرجاعه إلى مساره الأساسي.
وأما بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، ومع تغيّر استراتيجيّة الأئمّة ناحية تشكيل مجتمع الصالحين، فقد تهيّأت الأرضيّة المناسبة لظهور هويّة اجتماعيّة للشيعة وتمايزهم، وهكذا باتت الهويّة الشيعيّة تتمايز شيئًا فشيئًا. فبعد عاشوراء، ولا سيّما من القرن الثاني للهجرة وما بعد، بات الشيعة يُعرفون في المجتمع الإسلامي بوصفهم فرقةً ومجموعةً متمايزة، لها فقهها وعقائدها وكلامها الخاصّ بها. من هنا، وبسبب وجود ظروف متفاوتة، فإنّ مدرسة المدينة في مرحلة ما قبل عاشوراء تختلف كثيرًا عن مدرسة المدينة بعدها، بحيث يُمكن تقسيم هذه المدرسة إلى دورَين ومرحلتَين: المدينة الأولى والمدينة الثانية.
النقطة الثانية التي ينبغي ذكرها هنا هي أنّ المدينة تُعدّ أصل ومنشأ جميع التيّارات الشيعيّة، ذلك أنّ جميع التيّارات حتّى تلك التي تشكّلت في المراحل اللاحقة، كالزيديّة والإسماعيليّة ومُرجئة الشيعة والتيّارات المختلفة التي انفصلت وانقسمت عن المجتمع الشيعي فيما بعد، كانت قد وُجدت وحضرت في مدرسة المدينة، ولا بدّ من عدّ المدينة الأصل والمنشأ لجميع هذه التيّارات الشيعيّة. بل يمكن القول أيضًا إنّ سائر التيّارات الكلاميّة والفكريّة في الإسلام قد تأثّرت هي الأخرى بالفكر الشيعي في هذه المرحلة من مراحل مدرسة المدينة، وكمثال على ذلك فإنّ البحث والتحقيق في الجذور الفكريّة لواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مؤسّسَي مدرسة المعتزلة، التي تُعدّ واحدةً من أوائل المدارس الفكريّة والكلاميّة الكبيرة في الفكر السنّي، من شأنه أن يشير إلى تأثّر هؤلاء بالفكر الشيعي في مدرسة المدينة. لقد بدأ حضور واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد في مدرسة محمد بن الحنفيّة وتعرّفهما على أفكار الإمام علي في التوحيد والعدل من المدينة المنوّرة، وهكذا يمكن عدّ الفكر الشيعي في المدينة الأصل والجذر لهذه الأفكار.
خلاصة الدرس
ـ يُطلق اصطلاح المدرسة في تاريخ الفكر على مجموعة المتخصّصين الذين يتفاعلون فيما بينهم ضمن مجال علميّ محدّد وفي إطار محيط جغرافيّ معيّن، مشتغلين في توليد آثار علميّة جديدة.
ـ تُعدّ مدرسة المدينة أولى المدارس الكلاميّة الشيعيّة ومركز الفكر الشيعي الذي استمرّ منذ بداية عصر حضور الأئمّة حتّى نهايته. وقد تشكّلت الحركة الفكريّة والاجتماعيّة للشيعة في مدرسة المدينة استنادًا إلى محوريّة أئمّة الشيعة (عليهم السلام).
ـ يشكّل كلّ من الميراث العلمي الباقي عن أهل البيت (عليهم السلام)، ووجود التيّارات الفكريّة في أسر أهل البيت وعوائلهم، التي عملت على تبليغ أصول الفكر الشيعي، بالإضافة إلى التقارير والنقولات التاريخيّة المشيرة إلى وجود الأفكار الشيعيّة الأساسيّة في هذه المرحلة من المدينة، شواهد على وجود مدرسة فكريّة إماميّة في المدينة المنوّرة.
ـ يمكن تقسيم مدرسة المدينة بلحاظ بروز الهويّة الاجتماعيّة للشيعة وظهورها إلى مرحلتَين: مرحلة المدينة الأولى ومرحلة المدينة الثانية.
أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)
1- على أيّ معنى يُطلق اصطلاح <المدرسة> في تاريخ الفكر؟
2- في أيّ مرحلة من مراحل تاريخ الكلام تشكّلت مدرسة المدينة؟ وما هو وجه أهميّة تشكّل هذه المدرسة في تاريخ الفكر الإمامي؟
3- هل عرفت مدرسة المدينة تحوّلات على صعيد الظهور الاجتماعي على طول فترة نشاطها؟ أوضح ذلك.
[1][2] تذكر بعض المصادر أنّ واصل بن عطاء تتلمذ عند محمد بن الحنفيّة، فيما تذكر مصادر أخرى أنّه تتلمذ عند عبد الله بن محمد بن الحنفيّة لا أبيه. انظر: أحمد محمود صبحي، في علم الكلام (بيروت: دار النهضة العربية، الطبعة الخامسة، 1405)، الجزء 1، الصفحة 181. [المترجم]
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13512/kalam9/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.