جذور التحوّل الثقافيّ مقاربة نظريّة

جذور التحوّل الثقافيّ مقاربة نظريّة

يتضمّن النص القرآنيّ العديد من الآيات والشواهد التاريخيّة، التي تؤكّد على ضرورة أن يراجع الإنسان أفعاله، وينقد ممارساته من أجل تقويمها بما ينسجم والقيم الإسلاميّة العليا. فالباري عزّ وجلّ يقسم بالنفس اللوّامة ويعلي من مقامها، لأنّها تمارس عمليّة اللوم والمراجعة والمحاسبة والنقد كي تصل إلى المستوى المثاليّ في التعامل مع الأمور والأشياء. فقد قال تعالى [وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[1]].

والقسم الربّانيّ بالنفس اللوّامة يوضح قيمتها في حركة الوجود الإنسانيّة في ارتفاعه إلى الأعلى، باعتبار بأنّها تعمل على تخفيف الأثقال الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة التي تشدّ الإنسان إلى الأسفل، لينطلق من موقع إنسانيّته في حالات الصفاء الروحيّ الذي ينفتح به على الله عزّ وجلّ.

وبذلك كانت تمثّل قمّة النموذج الإنسانيّ في أصالة التجربة الحيّة الواعية في حركة الحياة في داخله. فمقتضى عمق اللوم على الغفلة، وعلى التقصير، لا يترك النفس سادرة في هواها وفي غفلتها ولا يقف بها في أجواء اللامبالاة فيما يثار حولها من قضايا، لا سيّما إذا كانت القضيّة تتّصل بالمصير الأبديّ، ممّا يجعلها في مستوى الأهميّة الكبرى في مواقع الفكر والإيمان.

والقرآن الحكيم يثير فينا حسّ النقد الذاتيّ، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانيّة، ألا وهي بصيرة الإنسان على نفسه، فإنّه قبل الآخرين شاهد عليها وعالم بواقعها، مهما توسّل بالأعذار والتبريرات الواهية. يقول تبارك وتعالى [بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[2]].

ويؤكّد القرآن الحكيم في الكثير من الآيات أيضًا على مراجعة تجربة دعوات الأنبياء وتشخيص سلوك المجتمعات الغابرة ومواقفها، حتّى نتمكّن من الاستفادة منها وأخذ العبر والدروس من محطّاتها وانعطافاتها. كما ينتقد القرآن الكريم تقليد الآباء والأجداد. قال تعالى [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[3]].

وبهذا أسّس الإسلام عقلًا برهانيًّا ونقديًّا لدى الإنسان المسلم، وهذه هي البذور الأولى لمشروع النقد والمساءلة لظواهر الحياة الطبيعيّة والإنسانيّة. ولا ريب أنّ هناك جملة من العلوم قد تطوّرت وتأسّست في الفضاء الحضاريّ الإسلاميّ من جرّاء هذه العقليّة البرهانيّة، النقديّة. فعلم الجرح والتعديل وعلم الحديث ونقد الرواية كلّها علوم تبلورت ونضجت من جرّاء العقليّة النقديّة الإسلاميّة.

والنقد كعمليّة ثقافيّة معرفيّة، هو عبارة عن فحص لكلّ ما هو سائد في سبيل واقع آخر مضاد له وفقًا لنموذج أو تصوّر مستقبليّ. “فالنقد يعني: الفحص والاختبار ووضع كلّ شيء في ميزان العقل والاحتكام إلى معاييره”.

ولكن، ومع هذا التأكيد القرآنيّ والإسلاميّ، على ضرورة المراجعة والنقد، إلّا أنّ واقع المسلمين يخلو من هذه القيمة، بل هناك بعض المساحات الاجتماعيّة التي ترذلها. ولا ريب أنّ لهذا الغياب أسبابه وعوامله الثقافيّة والاجتماعيّة والنفسيّة. فالقناعات النفسيّة والثقافيّة التي لا تراجع، ويتمّ التعامل معها كحقائق ثابتة، تدفع باتجاه التمتّع بحقّ الطاعة والانقياد والاتباع، دون أن يكلّف نفسه (صاحب القناعة الثابتة) عناء مراجعة أفكاره وقناعاته ومساءلتها.

وبهذا تتراكم عوامل الغفلة والاستعلاء، بحيث يتجاوز هذا الإنسان كلّ ممارسة نقديّة، ويحجم عن ممارسة كلّ محاسبة إلى سلوكه وأفعاله. وهنا لا بدّ من بيان أنّ مجال النقد هو وسائل التطبيق الاجتماعيّ والثقافيّ والتعليميّ، وذلك لأنّ الجمود عليها يعطّل التقدّم، وليس ثوابت الشرع وقيمه العليا. فالثوابت العقديّة والتشريعيّة ليست موضوعًا للنقد، إنّها موضوع للبحث والفهم. وبطبيعة الحال، فإنّ المحيط الثقافيّ التي تنمو فيه حالات ضمور الحسّ النقديّ، هو ذلك المحيط الذي يردع عن السؤال المساءلة، ويقف موقفًا سلبيًّا من الاختلاف الثقافيّ والفكريّ، ويحارب الإبداع خوف الابتداع. وهذا يعمق نفسيّة عامّة تحوّل بين الإنسان الفرد والجماعة وممارسة النقد والمراجعة والمحاسبة لكلّ ما هو سائد. فالاختلاف  المرذول والمذموم، هو الناتج عن الهوى، أمّا الاختلاف الناتج عن البحث الحرّ والموضوعيّ طلبًا للحقيقة لا إتباعًا للهوى فهو اختلاف مشروع، وذلك لأنّه طريق الوصول إلى الحقائق وهو الذي يثري الواقع والفكر والثقافة. والنقد وفق هذا المنظور، هو الذي يثري الساحة الثقافيّة بالمضامين الجادة، كما أنّه يفعل الساحة الاجتماعيّة باتجاه الأمور والقضايا الأكثر أهميّة وجديّة. فالنقد هو الممارسة الضروريّة في الاختلافات الثقافيّة والمعرفيّة، كما أنّ الحوار هو الوسيلة الفعّالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافيّة ذات الشروط العامّة والتاريخيّة. ولا ريب أنّ غياب تقاليد النقد والمساءلة، هو الذي يدفع الشعوب والأمم حين الهزائم إلى التشكيك الصارخ في كلّ ما هو سائد.

وهذا يقودنا إلى القول إنّنا بحاجة دائمًا أن نتعامل مع هزائمنا وانتصاراتنا بموضوعيّة حيث إنّنا لو انتصرنا لا نصاب بداء الغرور والتعالي، فنلغي الآخرين من خريطة الوجود التاريخيّ. ولو انهزمنا، ندرس أسباب هزيمتنا بشكل موضوعيّ وهادئ، ودون أن يؤثّر هذا على جوهر وجودنا وثوابت كياننا. ولا شكّ أنّ للإنجازات أسبابها وعناصرها، كما أنّ للإخفاقات عواملها. والرؤية الموضوعيّة تحتّم علينا دراسة المسألة من جميع أبعادها لإزالة عوامل الإخفاق وتأكيد عناصر النجاح والإنجاز.

ولا يوجد على المستوى التاريخيّ مجتمع مكتوب عليه، أو قدره الهزيمة دائمًا أو الانتصار دائمًا… إنّما همّ (الهزيمة والانتصار) ظاهرتان إنسانيّتان تتحكّم فيهما جملة من العوامل الذاتيّة والموضوعيّة.  فالمجتمع الذي تتوفّر فيه عوامل المنعة والتفوّق يحقّق ذلك على الصعيد العمليّ، والمجتمع الذي يتخلّى عن تلك العوامل يصاب بالإحباط والتراجع والتقهقر. فالرؤية الموضوعيّة تعني، الابتعاد عن التهويل والتهوين، والبعد عن الشطط والمغالاة وعن اليأس والتيئيس الدافع إلى الاستقالة المعنويّة الفرديّة والجماعيّة.

وإنّ فقدان الثقة بالذات من جرّاء نكسة أو هزيمة، يؤدّي حتمًا إلى الاستسلام إلى المنظومات الفكريّة والثقافيّة للغالب. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن خلدون بقوله: أنّ المغلوب مولع دائمًا بمحاكاة الغالب والإقتداء به لأنّه يعتقد أنّ انتصاره راجع إلى صحّة مذهبه وعوائده.

كما أنّ تجريح الذات وجلدها على مختلف الصعد والمستويات، ما هو في حقيقة الأمر إلّا إخفاء لابتعاد المثقّف أو المفكّر أو الأديب والنخبة بشكل عام عن مواطن الإبداع الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ وتحوّلهم في الكثير من الأحيان إلى إحالة للماضي وحجابًا لعدم رؤية الحاضر. فالقراءة الموضوعيّة إلى الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة المفرحة منها والمحزنة تحتّم علينا النظر إلى الأمور انطلاقًا من أسبابها الحقيقيّة وعواملها المباشرة.

من هنا وتأسيسًا على حقيقة التطوّرات السريعة التي تجري في العالم في كلّ اتجاه، تتأكّد ضرورة التقيّد بقوانين الموضوعيّة في دراسة التطوّرات والظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة الأخرى لأنّ توفّر هذه القوانين هو الذي يمكننا من قراءة هذه التطوّرات والتحوّلات بشكل سليم ودقيق.

والفكر النقديّ يقتضي :

  • 1- توفير أسس الفحص والمقدّمات العقليّة والنظريّة لعمليّة المراجعة، إذ لا يعقل أن تتمّ المراجعة انطلاقًا من ردود أفعال أو مماحكات سياسيّة. بل من الضروريّ أن تتوفّر كلّ الأدوات النظريّة والمفهوميّة والعدّة التقنيّة التاريخيّة والمعاصرة لفحص الظاهرة فحصًا موضوعيًّا متّزنًا.
  • 2- التقيّد بالمنهج الموضوعيّ دون جلد الذات أو تحميل الآخر المجهول أسباب الإخفاق وعوامل الهزيمة.

وبهذا نتشبّث بما يسمّى بـ (القوانين الموضوعيّة) للظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة. ومن هنا فإنّ الفكر النقديّ يقتضي أيضًا دراسة الظاهرة والكشف عن قوانين عملها وحركتها وعن طبيعة العلاقة التي تربط بين عناصرها المختلفة. وعن طريق هذه الدراسة، نصل إلى النتائج الأخيرة بعيدًا عن المسبقات الفكريّة أو الاجتماعيّة، ونتعرّف على الأسباب الموضوعيّة لنموّ الظاهرة أو ضمورها. إنّنا مع ضرورة المراجعة لمناهجنا العلميّة والعمليّة، لكنّها تلك المراجعة التي تنطلق من حسّ المسؤوليّة الذاتيّة وتحمّل الذات مسؤوليّة الإصلاح.

فالمراجعة والنقد جزء من مشروع الإسلام التربويّ، فلا فلاح بدون محاسبة الذات ومراجعة أفعالها وتقويم سلوكها والعدول عن الأخطاء والزلّات. وبالتالي فإنّ النقد وفق هذا التصوّر مطلوب، لأنّه سبيلنا إلى التطوّر والتجدّد والتزكية.

[1] سورة القيامة، الآية 2.

[2] سورة القيامة، الآيتان 14 و15.

[3] سورة الزخرف، الآيتان 22 و23.

تحميل المقال



المقالات المرتبطة

التعددية الدينية

من البديهي القول: إن الأديان جاءت مترابطة ومتداخلة بعضها مع  بعض، ولم يأت دين إلى العالم هكذا “موضبًا” ليعطى لأمة،

﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾

قال الله تعالى في كتابه الكريم في سورة البقرة: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾

التطور، الخلق، الإبداع، اليوم بين العرف والواقع

بين يديكم مقال في مجال الخلق والإبداع – يتناوب بينها في الوجود -، وكذلك التطور واليوم، جميعًا بالمعنى الحقيقي لا المشهور.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<