by الدكتور أحمد ماجد | أغسطس 25, 2021 2:01 م
انطلق حنفي في آليات إعمال منهجه من الظواهرية الهوسرلية، فبعدما تتحوّل العلوم المدروسة إلى منطقة الوعي، لا يتمّ الحكم عليها مباشرة، إنّما يتمّ استخدام آليات محددة، هي:
أ- تقويس العلوم الإنسانية: أي توضع العلوم الإسلامية بين قوسين، فلا يتمّ إطلاق حكم عليها إيجابيّ أو سلبيّ، فهي عندما حضرت في منطقة الذات الشعورية تحوّلت إلى ماهيات كلية، تُقبل وتُجدد بناءًا على المخزون الشعوري المتراكم حولها وفوقها وأمامها، لذا فمصادر العلم كالوحي والمنطق والعلم التجريبي (الوحي والعقل والطبيعة) ليست محلًا للبحث في ذاتها، ولا تساؤل حول طبيعتها وثوابتها، وإنّما العلم هو هدف التجديد المرحليّ، حتى وإن توصّل المشروع لبحثها يومًا، فقد تم تقويسها على الأقل حتى يكتمل تجديد العلم.
ب- رفع الأقواس: بعد أن يتمّ تقويس العلوم، يعود إليها الباحث مرة ثانية للتعامل معها بما يراه من العلوم والمناهج دون الحديث عن إمكانية قبول هذا المنهج أو رفضه، لأنّ المهم هو تجديد العلم.
ج-وحدة المرجعية: العلوم الإسلامية الأربعة؛ علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، والتصوف، والفلسفة الإسلامية، قدمت آليات مختلفات من أجل التفسير والفهم والتمثل، وتوحيدها هو أول الطريق لتجاوزها، توحيد المناهج النصية، والواقعية، والوجدانية، والعقلية، ثم تجاوزها بـ المنهاج آخر جزء من آخر قسم من الأقسام الثلاثة للمشروع[1][1]، وربما أخطر جزء كذلك. تقع وحدة العلم في خطر محو الثوابت المعرفية المنهجية بين علم وآخر، وسقوطها عمومًا، غير أن الصلة بين العلوم الأربعة مستمرة وراسخة لوحدة أحد المصادر (الوحي)، وتوحيدها يؤدي إلى تجاوزها كما سبق إلى غاية نظرية أشمل.
– سمات الفلسفة والمشروع: انطلق حسن حنفي في مشروعه الفكريّ من مميزات الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بما هي أمّة تراثية تاريخية، ولكن سمّات هذا المشروع لم تنعزل عن شخصيته الخاصة التي تسعى إلى التجديد، وتعيش حاجز التجديد على رأس كلّ مئة عام، حيث اعتبر نفسه هذا المجدد، الذي سيخرج الأمة من أزمتها الحضارية، ويعيد ربطها بالعصر، ويتميز هذا المشروع بمجموعة من السمات، هي:
أ- التراثية: حيث شدد على حضوره كمخزون نفسي/شعوري حالّ في نفوس أبناء الأمة، ولا يمكن التعاطي معه-كما سنرى بعد قليل- كما تعامل الغرب مع تراثه، لذلك شكل الجبهة الأولى وهي أضخم الجبهات وأكثرها تفصيلًا: “لأنها أعمق في التاريخ إذ أنها تمتد إلى ما يزيد على الألف وأربعمائة عام. وهي الأكثر حضورًا في وعينا القومي وتاريخنا الثقافي”[2][2]، كما أنّه النقطة المحورية التي يجب العمل عليها من أجل تجديدها.
ب- التجديدية: لما كان هدف المشروع التجديد، فلا يمكن القيام بذلك دون تجديد اللغة ومنطقها، وتجديد مستويات التحليل وتجديد البيئة الثقافية عبر: “إعادة فهم التراث حتى يمكن رؤية الواقع ومكوناته”[3][3]، هذا وتأتلف السمة الأولى والثانية لتؤسسا معًا أحد أبرز انشغالات المشروع المتمثل بتجديد التراث.
ج- النقدية: لا يعود التراث في مشروع حسن حنفي مجرد عودة، إنّما هو عودة نقدية، نقد الذات التراثية ونقد تراث الآخر من أجل بناء العلم طبقًا لاحتياجات المجتمعات.
د- التثوير: فمشروع حسن حنفي ليس نظريًّا، هو يستهدف المجتمع ويعمل على تثويره عبر أيديولوجيا جديدة، تشكل البعد النظري للواقع العملي، فعنوان محاولة إعادة بناء أصول الدين “من العقيدة إلى الثورة” يدلّ على تثوير علم الكلام ليتحول من نظرية في العقيدة إلى نظرية في السلوك، بل إلى علم الإنسان يرتبط بالواقع لتغييره وبنائه من جديد، وهذا ما ينطبق على كلّ علم من علوم المسلمين.
ه- المنهجية: لا يمكن بناء مشروع حضاري إلا من خلال العمل المنهجي المنظم، لذلك كانت السمة المنهجية عنصرًا محوريًّا في فلسفة حنفي، وفي هذا المجال رفض النزعة الخطابية في التقليد الديني والنزعة الاستشراقية، ودعا إلى تعدد منهجي -كما أوضح البحث- يعيد بناء التراث ويستغله في بناء الحاضر وتغيير الواقع، كما يدرس الآخر ويضعه في مكانه الطبيعي ويستفيد منه ويقضي على الأزمة من الداخل والخارج.
و- النسقية: ويتمظهر في تكامل العمل على الجبهات الثلاث، حيث نجد الجبهتين الأولى والثانية تصبّان في الواقع وفي كل موقف حضاري توجد عوامل الإبداع الوافد والموروث والواقع كما يوجد تطابق في أبعاد المشروع الزمانية الحاضر والماضي والمستقبل كما تُردّ الجبهتان إلى النقل والإبداع. “والجبهات الثلاث ليست منفصلة عن بعضها البعض بل تتداخل فيما بينها ويخدم بعضها بعضًا. فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادرًا على الدخول في تحديات العصر الرئيسية يساعد على وقف التغريب الذي وقعت فيه الخاصة، وهي لا تعلم من التراث إلا التراث المضاد لمصالح الأمة والذي أفرزته فرقة السلطان. فلم تجد حلًّا إلا في التراث الغربي”[4][4].
ز- العقل: هو مقياس لكلّ ما يتعلق بالإنسان، شرط تطابق ما ينتجه العقل مع الواقع، إذ يرى حنفي أنّه “لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يعرض على العقل والواقع”[5][5]، فالإنسان يعيش تجربته الإنسانية بما هي علاقة عملية، وهذا يقتضي إدراك حقيقي لذاته والواقع الذي تعيش فيه، وهذا ما يجعل: “لا يوجد صمّام أمان إلا في وعي الإنسان بذاته، وليس في عقدة “القبة السماوية”[6][6]، فالخالق المبدع لهذا الكون خلق العقل بالإنسان لغاية تدبير شأنه الإنساني بحضور الوحي أو بالمعزل عنه، لذلك بإمكان العقل التنظير لكلّ شيء: “وإنْ شئنا تبرير كلّ شيء”[7][7]، وهذه الطبيعة المميزة للعقل لا تقف عند حدود الرؤية الآلية الخاصة به، بل تجعله يتدخل في مضمون الوحي وتفسير محتواه، فيقدم البراهين على التوحيد والتثليث بشكل منطقي، وسنتوسع في تفسير هذه النقطة أثناء الحديث عن علاقة العقل بالوحي وآلية عمله.
ح- أصالة العمل: أولى حسن حنفي العمل أهمية مميزة، فالإنسان بالنسبة إليه مكلّف بالعمل لذلك أُعطي حرية الاختيار التي أدت إلى قيام الحضارة، يقول: “هو الاختيار وراء قيامها[الحضارة] وانتشارها قبل أن تهزم وتتوقف”[8][8]، وهذا يعني أنّ حياة الإنسان وحضارته لا تقوم إلا من خلال العمل، وهي تزوي عندما تتحول إلى مجرد نظر، لأنّ: “صحة أي نظرية مرهونة بفائدتها العملية”[9][9]؛ فالأفكار لا قيمة لها بذاتها، بل: “قيمة الأفكار هو آثارها في السلوك”[10][10]؛ وعلى ذلك لا تُقيم الأمور من خلال مطابقتها للحق إنّما من خلال مطابقتها للواقع ومدى تأثيره عليه، وعلى ذلك: “لا توجد هناك حلول صائبة وأخرى خاطئة، بل توجد حلول فعّالة ومؤثرة”[11][11].
ط- التغيير والتطوير: الفكر المنهجي لا يكتفي بعرض الواقع، إنّما يسعى على تطويره وتغييره، ويؤكد حنفي في هذا المجال ما ذهب إليه هربرت ماركيوز من أنّ رسالة الفكر رفض للواقع القائم وتجاوز تبرير وضعيته خاصة إذا حدث التشابك في المجتمع وتأزمت الأوضاع والمشاعر، ولا يكون الحل وقتئذ إلا بالثورة على الواقع من أجل التغيير والتعبير عن المكبوت وازدواجية الشخصية والفكر والكلام، من هنا دعا حنفي إلى ضرورة تطوير وتغيير مناهج العلوم الإسلامية، مما يسمح بالانتقال بها من علم الله إلى علم الإنسان، وأن ننتقل من علم العقائد الدينية إلى علم الصراعات الاجتماعية، فليس التراث الماضي فحسب، بل هو معطيات الحاضر أيضًا وهو جزء من الواقع فنحن كما يقول: “نعمل مع الكندي كلّ يوم، ونتنفس الفارابي في كلّ لحظة، ونرى ابن سينا في كلّ الطرقات، بالتالي يكون تراثنا القديم حيًّا يرزق يوجه حياتنا اليومية”[12][12].
[1][13] – – حسن حنفي، من النص إلى الواقع، ( القاهرة، مركز النشر للكتاب، الطبعة 1، 2005)، الجزء 2، الصفحة 185.
[2][14] – حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، مصدر سابق، الصفحة 10.
[3][15] – حسن حنفي، التراث والتجديد، مصدر سابق، الصفحة 34.
[4][16] – حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، مصدر سابق، الصفحة 12.
[5][17] – حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، مصدر سابق، الجزء 1 الصفحة 11.
[6][18] – مصدر سابق، المعطيات نفسها.
[7][19] – مصدر سابق، المعطيات نفسها.
[8][20] – حسن حنفي وعبد الله المرزوقي، في النظر والعمل والمأزق الحضاري الراهن، الصفحة 156.
[9][21] – حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 200.
[10][22] – المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[11][23] – المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[12][24] – حسن حنفي، التراث والتجديد، مصدر سابق، الصفحة 17.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/13620/hanafi3/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.