مدرسة بغداد في التصوير الإسلامي الواسطي وغيره

مدرسة بغداد في التصوير الإسلامي الواسطي وغيره

شمل فن الكتاب المخطوط في الإسلام فنونًا عدة مستقلة، لكنها مكملة بعضها بعضًا: الخط، التذهيب، التصوير والتجليد. وهذه تولدت من الرغبة في إنجاز أفضل نسخ القرآن. وفي البداية استخدم الخط الكوفي في الكتابة وتطور التذهيب ببطء، ففي أقدم النسخ القرآنية ثمة تقسيم للسور بِعُقد على شكل وردة ويُشار إلى بداية الأجزاء بإطار مستطيل.

هذه الإضافات الزخرفية من الذهب كانت تجعل الصفحة براقة ومُشعة، تسعى لأن تضفي الطابع المقدس على الصفحات من خلال استخدام المادة الثمينة. ومن بين العناصر الزخرفية (الموتيفات) المذهبة التي تزين نُسخ القرآن الكريم القديمة نجد سعف نخيل منمنمة متطابقة، وهو شكل موروث من الفن الإيراني السابق على الإسلام، من العهد الساساني والذي دخل في الفهرست الإسلامي.

وفي تقدير الدكتور زكي محمد حسن، إن ما نملكه عن تطور التصوير في فجر الإسلام قليل، لكن يمكن القول إن نشأة التصوير على الورق والمخطوطات كانت في بداية العصر العباسي، وقد اشتهرت في زمنه “مدرسة بغداد في التصوير الإسلامي” (بغداد، 1972) التي عرفت ازدهارًا بين القرنين السادس والثامن للهجرة (12 – 14 م). وتصاويرها أسبق زمنيًّا من التصاوير في المخطوطات المغولية والتيمورية والصفوية في بلاد فارس. ويضيف حسن أن تزويق المخطوطات بالتصاوير وتزيينها بالأصباغ البراقة فن حملت بغداد لواءه في القرنين السادس والسابع الهجريين (12 – 13 م). وازدهر أيضًا في مراكز أخرى في ديار الإسلام، فعرفته الموصل والكوفة وواسط وغيرها من بلاد الرافدين، كما امتد إلى إيران ومصر والشام.

وعملت مدرسة بغداد على تزويق المخطوطات الأدبية والعلمية والدينية بما فيها المسيحية، ومن ضمن إبداعاتها: نسخة عربية من “إنجيل طفولة سيدنا المسيح” تعود إلى العام 1299 م، كتبها طبيب مسيحي من مدينة ماردين ببلاد الجزيرة، وتزويق كتاب في البيطرة، هو مختصر رسالة لأحمد بن حسن بن الأحنف، وتزويق ترجمة كتاب الترياق لجالينوس، والترجمة العربية لكتاب الحشائش (أو خواص العقاقير أو خواص الأشجار) لديسقوريدس. ومن بين موضوعات التصاوير في هذا المخطوط، على ما يذكر حسن رسوم أطباء يحضرون الأدوية أو يقومون ببعض الجراحات. كما زوَق كتاب الحيل الميكانيكية لإبن الرزاز الجزري، الموضوع في نهاية القرن السادس للهجرة.

ومن أبرز المخطوطات الأدبية التي زوقها مصورو مدرسة بغداد كليلة ودمنة والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وكذلك حظيت مقامات الحريري المكتوبة في القرن السادس الهجري بعناية خاصة، وتكمن أهمية النص والتصاوير في أنها سجل دقيق للحياة الاجتماعية في القرن السابع للهجرة، تعكس نمط العمارة والأدوات المستخدمة وأنواع النبات والحيوان. ومن أهم النسخ المنجزة والموجودة في المكتبات الدولية، واحدة وضعها يحيى بن محمود الواسطي عام 634 هـ (1237 م)، المنسوب إلى بلده واسط جنوب العراق، والتي كانت في العصر الوسيط كما يصفها ياقوت الحموي في “معجم البلدان”: “بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيل يفوق الحصر”، وإذ عاش الواسطي في زمن تفكك الدولة العباسية أيام السيطرة السلجوقية واشتغل رسامًا لدى الخليفة المستنصر بالله ما بين 1242 و 1258، فإنه عبر في رسمه عن “يقظة الروح العربية وسط النكبات السياسية والتمزق الاجتماعي والصراعات العنصرية” وفق تعبير جورج عيسى الذي أطلق على الواسطي لقب “شيخ المصورين العرب” (بيروت، 1996)، إذ تحمل رسوماته طابعًا عربيًّا يظهر في الزخرفة واللباس، وهو يمثل “روح” المنطقة العربية في القرن الثالث عشر “الروح الفردية المخنوقة في بلاط الحكام” في زعم عيسى، أو الفن حبيسًا في القصور ودور الأغنياء والمترفين.

ويقرر عيسى أن الواسطي عمد في تصاويره إلى فضح مظاهر الحياة اليومية التي كان يعيشها الناس، وأبرز حال التناقض الحاد بين الغنى والفقر، بين قيمة العمل وحياة اللهو، بين الحاكم والمحكوم، بين العبد والسيد، بين الحق والباطل، وهو من وراء ذلك أراد أن يقدم شهادته على عصره. وأسلوبه، كما يرى حسن، يعتبر “المثل الكامل للتصوير في مدرسة بغداد”.

وقد استند الواسطي في أعماله، في نظر عيسى، إلى تقنيات موروثة من حضارات الشرق الأدنى، وإلى التقاليد الفنية الوطنية لسكان البلاد المحليين. ونجح في إنجاز “تكوينات جديدة”، ففي واحدة من رسوماته نتأمل “ثلاثة آلاف سنة من التقاليد الفنية” من بينها البيزنطية والساسانية والآشورية والمانوية.

أما حسن الذي يعتمد على فكرة التطور الحضاري في المنطقة، فيرى في مسألة التأثيرات أن مدرسة بغداد جزء من الفن الإسلامي في عصر السلاجقة، أتى نتيجة “تفاعل ومزج بين عناصر فنية مختلفة عرفتها بلاد الرافدين وبلاد الشرق الأدنى منذ عهد البابليين والآشوريين والإيرانيين القدماء إلى القرن السادس الهجري (12 م)، مُضافًا إليها عناصر ابتدعها الفنانون المسلمون”.

وللمدرسة المذكورة ميزات منها: كثرة الرسوم الآدمية ذات السحن العربية، باعتبار أن الإنسان هو محور هذا الفن، وفق الباحث السوري إلياس الزيات، بأسلوب موروث عن الشرق القديم لا يهتم بالنِسب وبإبراز التعابير والانفعالات بشدة، ولا يُراعي المنظور الغربي، بحيث لا تحوي التصويرة غير بُعدي الطول والعرض، وإلى ذلك هي بسيطة لا تتطلب جهدًا لإدراك عناصرها، إذ يرسمها الفنان كما انطبعت في ذهنه وأحيانًا في واقعيتها. وقد تضم أكثر من مشهد وأكثر من شخص، ويُرسم بطل التصويرة بحجم أكبر من غيره. وقد استخدم المصورون في ذلك الألوان البرّاقة تعويضًا عن “قصور التصاوير في ميدان التجسيم والتعبير عن المساحات والمسافات” كما يقول حسن.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الخط الكوفيفن الكتاب المخطوطالخط العربي

المقالات المرتبطة

نظرية وحدة الوجود وتعالي الحكمة المتعالية

مما لا شك فيه أن نظرية وحدة الوجود هي من النظريات التي لعبت دورًا أساسيًا في مجال التعقل العرفاني والفلسفي.

نزع الاستعمار عن المعارف ونظريّاتها المسافرة

إنّ الكلام عن نزع الاستعمار عن المعارف هو مساءلة تحويل الخبرات، وتنقّل الأفكار، والتساؤل حول ما نتعلّمه وما نعلّمه؛ ما يمكننا تعلّمه من الآخر أيًا كان ومن حيثما يأتي

قصيدة نزار قباني عن الإمام الحسين (ع)

القصيدة من بحر الكامل والقافية الباء الساكنة، وهي عبارة عن حوار دار بين أحد الروافض ومخالف له، وتقع في سبعة عشر بيتًا.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<