مارتن هايدغر استعاد الكينونة من دون أن يفقه سرَّها المكنون

by محمود حيدر | سبتمبر 29, 2021 11:36 ص

د. محمود حيدر*[1]

*[2] مفكر وأستاذ في الفلسفة والإلهيات – لبنان.

ليس يكفي لنتعرَّف إلى هايدغر أن ندخل عالمه من باب واحد. أو أن نسائله كما لو كان هو، هو، من مبتدئه إلى خبره. إنه من بين ندرة مضوا في سَيْريّة تفكُّر، ما كان لها مستقر. وهو ممن قل نظيرهم لمَّا نَقَد مكتوبه الفلسفي من دون أن يردَّه عن “نقد الذات” خوفٌ على الأنا وكبريائها.

لكي يُقرأ نصُّه وَجَبَ التهيؤ لرحلة مشرعة على طبقات شتّى من الفهم. لكن هذا لن يفضي بك إلى الإعراض، بل إلى ما يدعوك لمجاراته بخفرٍ وصمتٍ وانتباه. فلو أخذك سهوٌ عما قَصَدَ من وراء عبارةٍ أو نعتٍ، فلربما أشكل عليك ما كنت تحسَبُه من بديهيات الكلام. وحالئذٍ ما لَكَ إلا أن تتحرَّى عالمه الشخصي من قبل أن تتأوَّل كلماته.. كما لو صرتَ بإزائه تلقاء كتاب موصود.

يطيب لهايدغر الوقوف على الحافَّة. يراقب ما يتوارى بين الثنايا والتخوم، أو ما يتخفَّى تحت أقنعة اللغة. يتعامل مع المفاهيم ومرجعياتها كمشرفٍ على عالمٍ أدنى. أو كعاهلٍ يستبد بالكلمات حتى لا تستبد به الكلمات. متحررٌ مما سبق، ومما يعايش الآن، وما سيلي من وقائع. لكي تنعتق من أسره وجاذبيته ليس لك إلا أن تتاخمه برفق. ثم أن تعقد معه ميثاقًا ينتظمُه ديالكتيك الوصل والفصل. تَودُّ لو تقربُهُ وتكون في الآن عينه، لا مُريدًا له ولا خصمًا. فيلسوف ينطوي على سرّ متعدد الكمائن مثل هايدغر لا مناص مع رفقته من تقوى المتدبِّر. أنت وهو حالئذٍ نظيران يتناظران من بُعد. فلئن لم تفعل بما تُمليه عليك حكمة التناظر، سكَنْتَ عالمه الحائر، فتشابهت عليك المقاصد، فلا تستطيع معه صبرًا على فهم.

وإذًا .. سوف يكون على المتعرّف، أن يُبرم مع هايدغر وإنشاءاته ضربًا من تعادل لا محل فيه للغلبة. وليس ذلك إلا لينأى مسافة ما من سطوة المفهوم، وغواية المصطلح، وضباب الفكرة. لعل في التناظر معه ما ينشئ للقارئ منفسحًا من تَرَوِّ يعينُه على احتواء ما هو شاقٌّ وغامضٌ من قوله الثقيل.

ما كنا لنستهل تقديمنا لهايدغر بما مرّ، إلا باعتبار ما “اقترفه من شَغَبٍ” في تاريخ الميتافيزيقا الغربية. فالمحصول الذي زوَّدنا به كان أدنى إلى “جيولوجيا فلسفية” لم تُخرج كل نباتها بعد..

  1. مساءلة الميتافيزيقا

استعاد هايدغر ما سبق وما لَحِق من أسئلة الميتافيزيقا، ثم استودعها “حاضرته” الفائضة بالإبهام. فليس من غرابةٍ إذًا، أن نرى إلى مختبر أفكاره كمستودع يحوي العناوين الكبرى التي أنجزتها الفلسفة، على تعاقب أطوارها، وتنوع مدارسها وتياراتها.

لقد حكم هايدغر على الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون إلى أزمنة ما بعد الحداثة على أنه تاريخ انحلال وتدهور. أما  شُغلُه باستعادة الأسئلة الماضية الحاضرة، فهو لم يكن لأجل تفكيكها أو انتقادها تمهيدًا للتبرُّؤ منها، وإنما لتكون له ممرًا إجباريًّا لمجاوزتها، وإعادة تظهيرها وفقَ ما يختزنه مشروعه من إنشاء فلسفي متجدد. أفصح هايدغر عن ذلك لمَّا أشار إلى صعوبة الكتابة من خارج أفق الميتافيزيقا. وحجَّتُه في ذلك، أن الاعتناء بالسؤال المتعلق بحقيقة الوجود يستحيل أن يُنجز بمعزلٍ عن عالم الواقع الذي يشكل أفق الدلالة الشاملة للذّات الحيّة، والذي في مجاله تتحقَّق الخبرة الإنسانية.

لم يقطع هايدغر مع الميتافيزيقا الكلاسيكية التي اكتفت بالاعتناء بالموجود، بل دعا إلى اجتيازها من خلال العودة إلى السؤال الأصيل عن وجودٍ لفَّهُ النسيانُ.لأجل ذلك راحت منظومته تنمو وتتكامل على امتداد انعطافات أربعة:

الأول: حين توقف مليًّا عند معنى واجب الوجود. كان ذلك بالنسبة إليه لغزًا، ولكنه لغزٌ سيمهِّدُ له الطريق للانتساب إلى عالم التفلسف. جرى ذلك عام 1907 وقتَ قرأ كتاب فرانز برينتاتو في “باب المعاني المتعددة للوجود بحسب أرسطو”. الكتاب الذي ابتنى عليه ـ كما قال ـ مساره وأسلوب تفكيره.

الثاني: لمَّا سعى إلى تجاوز وهن الميتافيزيقا وفقرها الوجودي. دعوتُه آنذاك كانت متّجهةٌ إلى نقل الهمّ الميتافيزيقي من حيِّز الاعتناء بالماهيّات إلى فضاءِ العنايةِ بالوجودِ وأصالتهِ.

الثالث: لمَّا استدرجه السؤال عن حقيقة الوجود إلى قلق طاول قاع النفس والفكر، وبسببه طفق يبحث عن مَلَكَاتٍ أخرى غير مرئية في الروح الإنسانية لتكون البديل من العقلانية المتشيّئة لميتافيزيقا الحداثة.

الرابع: حَيْرتُه في الإشراقات التي وجد أن الكينونَة تَهَبُها للإنسان لكي يهتدي بها إلى صواب الضمير. لكن حَيْرة هايدغر هذه، سوف تظهر على وجهين متعاكسين: وجهٌ تأتَّى حصيلة اشتغالات فكره المنفتح في انجذاباته القصوى، ووجهٌ هو حاصل اختبار باطني عميق كان من شأنه أن يأخذ بناصيته إلى اليقين.

تلقاء الانعطافات المتداخلة هذه، ظل هايدغر مشغولًا بمعاينة الفلسفة الكلاسيكية ونقدها في عين اللحظة. فلقد انشغل باللحظة الفيزيائية وتمظهراتها، قدر انشغاله بسؤال الوجود وغيبته. وبنتيجة ذلك ينطلق هايدغر ليتواجه مع السؤال الأكثر بداهة وحضورًا وبساطة، والأعمق غورًا في الآن عينه: “لماذا كان وجود الموجودات بدلًا من العدم؟”.. وذاك سؤال الأسئلة كلها كما سمَّاه. أما حاضريتهُ ودلالاتُه فتعود إلى مكانته التأسيسية، وإلى تجاوزه العميق لمعظم الأسئلة الأخرى، وكذلك إلى كونه سؤالًا جائزًا وبديهيًّا وضروريًّا لاستئناف التنظير الفلسفي.

يدعو هايدغر إلى التهيؤ لتحصيل النشاط العقلي الكافي من أجل تحويل السؤال كله إلى نقطة الارتكاز التي ابتدأ بها، وهي “اللماذا”. تلك الكلمة الدهرية المسكونة بظمأٍ آدميٍّ لا تُعرف له نهاية آمنة. راهن “فيلسوف الحضرة” على تلك المفردة لتؤدي مهمّة لا يقدر عليها أحدٌ سواها. إذ من خلال أداء هذه المهمة يتم اكتشاف كيف أن هذا السؤال المميز يمتلك أساسه في ما يُسمّى”النقلة المفاجئة”. وهي حين يتوغل المرء بعيدًا في تفاصيل الأحكام المسبقة لحياته سواء كانت حقيقية أم متخيَّلة.

يعترف هايدغر أنه ما زال يقف متحيِّرًا في وجه الموجود الذي يضمّه السؤال. فالانتقال المفاجئ سببه ذاك التحيُّر نفسه الذي يجعل السؤال موصولًا بجذره العميق وغير المرئي. كما لو أنه يريد أن يوضّح أن الحَيْرة الموصولة بالسؤال هي حَيرةٌ أصيلة ٌمستمدةٌ من أزليِّتها وأبديِّتها في آنٍ. ولذا سينبري إلى اعتبار تلك “الفجأة” نوع من الاستهداء إلى باب الأصل.

  1. “الدازاين” أو الإنسان الباحث عن سرِّ إقامته في العالم

إذا كانت مهمة هايدغر الأولى مجاوزة الميتافيزيقا بداعي انئخاذها بالموجود، وغفلتها عن الحقيقة الأصلية للوجود، فمثل هذه المهمة لا تلبث حتى تتضاعف تحيُّرًا حين تعلم أن تلك “الغافلة عن أصلها” لمَّا تزل تحتل مساحة العالم وتقرر مصائر أهله. ذاك أن عصر الانتقال من الميتافيزيقا إلى ما فوقها، يتم بصوت خفيض أمام ضوضاء التقنية وسيطرتها المطلقة. في هذه الحقبة من تطوّر الميتافيزيقا يصبح الكائن الإنساني في وضعيّة حدِّية وحرجة: من ناحية تجعله يستسلم لجنون الهيمنة، ومن ناحية أخرى يتنبَّه إلى وجوب أن يأخذ قسطه من مسؤولية كشف الواقع الذي هو فيه. والكشف هنا هو إزاحة السِّتر عما يمارسه العقل التقني، إلى الحد الذي يجعل انتماء الإنسان للوجود يعلن عن نفسه عبر استشعاره للخطر. وهذا الإنسان هو نفسه الذي سيطلق عليه هايدغر اسم “الدازاين”، أو “الكائن الإنساني الباحث عن سر حضوره في العالم”. وهو ما حاول هايدغر التفكير فيه تفكيرًا خاصًّا عبر ما سمَّاه (الإيرأيغنيس Ereignis). أو “الانبثاق الكبير”…

في “الكينونة والزمان” أشار هايدغر إلى الغفلة التامة عن الوجود، ولاحظ أن الإنسان يغفل عن وجوده لأنه ينظر دائمًا إلى الموجود. وللوصول إلى حقيقة الوجود لا بدّ من الخروج من الدائرة الموجودانية والتعالي عنها، إلا أن هذا التعالي لا يبدو أنه يتحقق إلا على أساس الرهبة والحيرة: في الرهبة يخرج الإنسان من الغفلة عن وجوده، وفي الحيرة يبدأ التفكُّر. وبين هاتين الحالتين تناظر وتشابه وامتداد، لكن الفرق بينهما أن العدم سبب الرهبة، والوجود أساس الحيرة… وبناء عليه، فالرهبة وحدها التي تجعل الإنسان ينعتق من إسار الموجودات… ومتى تكشَّف لنا فقر الموجودات استيقظنا من غمِّ العدميّة، ثم لا نلبث حتى نقع مجددًا في الحيرة، التي بفضلها وحدها؛ وبعد انكشاف العدم، ينطلق لساننا بالسؤال “لماذا”…

لم نشأ وصف هايدغر بـ “فيلسوف الحضرة” إلا لأنَّا ألفينا مسلكه على هذا النحو. إنه يومئ إلى حضور السائل في جوف السؤال.. حضور سيجيز صاحبه شهادة المشاركة في محاورة الكينونة والاستماع إلى ندائها، وتلبية دعوتها  من أجل أن يتعرَّف إلى ما احتجب عنه من حقائق. قَصَدَ هايدغر الشهود على حقيقة الوجود وظهورها. تغيَّا صراط الأشياء ووحدتها، من قبل أن تسكن منازل الكم والكيف وسائر مقولات الكثرة. لمَّا سأل عن الكينونة، ما هي، ومن هي، ومن أين لها كل هذا الحضور رمى بحدقة البصيرة إلى محل السر: راح يسائلها ويستحكي صمتها المريب. لم يفعل هايدغر كلما ساءَلَ الكينونة عن سرّها مثلما فعل الأقدمون. لم يأتِ بالسؤال عن الكينونة لكي يحصّل فكرة ما عن مصدرية الكائن من حيث هو كائن، أو عن شخص الكائن في حلِّه وترحاله على أرض العالم اللامتناهي، بل انتهض إلى ما هو مستتر في الحضرة. كان كمن يُجري تمرينًا شخصيًّا على الصفات التي رام أن يخلعها على ذاك “الموجود المتفرِّد بالفهم”؛ أي على الإنسان الذي تقدَّم إلى الحضرة فترقَّى في مراتبها حتى انقشعت له أرضُ الغربة. كل هذا من أجل أن يضع تساؤله في المحل الأنسب، أو على نفس الأمر الذي هو ناظرٌ إليه. وأنَّى كان الحال فإن ما فعله هايدغر في تيهِهِ المبدع، أن أعاد صياغة سبيلٍ ما إلى سؤال الوجود. وهو سبيل لا ريب في جدواه، بعدما استخلصه من شوائب الماهيات ليقيمه في قلب الحضرة.

في الحضرة الهايدغرية يلتقي الجمعان: “الإنسان” و”الكينونة”، ولكن على أمرٍ مقدور. ربما على وصلٍ بعد انفصال طال أمده في زمانِ الكينونةِ الممتدِّ. أو ربما على احتمال حدوث خطبٍ جلل سيأتي بعد حين. لهذا سينعقد اللقاء بينهما في الغالب على نصاب القلق المتمادي. أما لماذا؟.. فلأن سماء الحقيقة الوجودية لا تنفسح إلا بهما. ولا يتحقق “الكائن المتفرِّد بالفهم” إلا بإيجاد نفسه الضائعة في عالم الكثرة اللامتناهي. فلا بدّ له إذًا من فتح نوافذ السؤال على من يهبُهُ سبيل الرشاد. إذ كيف لصاحب الحضرة ألاَّ يتبيَّن ذاك “الدفق الإيجادي” الذي منه يستمد الجمعان الديمومة والانتظام؟.. ثم كيف له أن يُنشئ مع هذا الدّفق وصلًا على خط المباشرة والإدراك والمعاينة؟

تلك محنة عظمى ستظل تقضُّ مضجع هايدغر وتَتيَّهُ به في خضم الحَيرة حتى الممات.

تلقاء هذا، يظلُّ المُمتَحنُ في الحضرة حريصًا على قصد بليغ: ميثاق تستدعي الكينونةُ الإنسان من بعد أن يتأهَّل لاستقبال ما يفيض عليه منها من كشوفات. ولأن المسألة معلَّقةٌ على ميثاق بين متناظرَين فقد كان ثمة تبادل وشراكة في الاستدعاء. الإنسان أيضًا يستدعي الكينونة ويطلبها، مثلما الكينونة تستدعيه وتأتيه بالجود. كان هايدغر يغفل عن هذا مرات ثم يذكره في مراتٍ آُخَر. كثيرًا ما جرى ذلك في اللحظة التي يصّاعد فيها مقام “الدازاين” إلى ذروة مجده وتألقه. إذّاك يغدو الإنسان هو صاحب الحضرة فيما الكينونة متضمّنة في الحضرة إياها. ويكون أيضًا وأساسًا هو القيِّم على “دورة المُلك” وسيّد العالم. أما حين يُطرح السؤال من هو “الدازاين”؟ فإن الإجابة الهايدغرية تتدرَّج على ثلاثة أنحاء:

  1. الكائن هو أنا في كلّ مرة وليس غيره. “كينونة النفس”.
  2. أن أكون مع الآخرين “كينونة الغير”.
  3. أن يكون الآخرون من حيث “هم”. (الكينونة الإنسانية الشاملة).

لكن هايدغر لا يقفل خط التلقّي عند هذا المثلث، بل هنالك “وجودٌ ما” يثوي في الأعماق وسيبقى يتطلّع إليه على امتداد أزمنة الحيرة..

  1. الكينونة في صورتها الرمادية

الكينونة التي تأوَّلها هايدغر ومنحها خاصيِّة تفكُّره، لا تستوي على شأن واحد. وذاك من كوامن قلقه ومكابداته..هي عنده ذات أحوال وتشأُّنات تزيد أو تنقص، تتعدد أو تتوحد تبعًا للمنزلة التي تتجلى فيها. هي حينًا، نظير العقل الفعَّال الذي يفيض بهدايته على الكل. وحينًا، نظير “الروح القدس” الذي يعتني بالموجود ويمدّه بكل أسباب الخيرية. وحينًا ثالثًا هي جودٌ أصليٌ ينفق بلا حساب. وهي فوق كل ما قيل ليست إلا ما هي عليه في ذاتها. ذلك بأنها أشد بعدًا من كل كائن، وفي الآن عينه هي أقرب إلى الإنسان من كل كائن. كينونة هايدغر هي الأقرب شَبَهًا بإله أرسطو الذي يحرِّك ولا يتحرك، لكنه يثير الغموض لدى الناظر إليه من دون أن يفيض عليه بالأمان والسكينة. ولكن على الرغم من المجهود الضخم الذي بذله في كتابه الأشهر “الكينونة والزمان” من أجل أن تأتيه الكينونة بالخبر اليقين، فقد أخفق في بلوغ ضالَّته. ذلك ما سنجد مؤشراته على نحو بالغ في محاضراته الأخيرة لمَّا سعى إلى مجاوزة ميتافيزيقا الإغريق ودخل في غمرة التساؤل عن الإله الراعي للكينونة نفسها. أي تلك التي لن يقدر الإنسان على إدراكها إلا إذا غادر كهف أنانيته وامتد في اللاَّمتناهي. ربما لهذا السبب راح هايدغر يدعو إلى الإنصات للكينونة من أجل أن يتعرّف إلى السر الذي تنطوي عليه. أما كيف له أن يفعل ذلك، فدون هذا الأمر بابٌ عالٍ سوف يسعى هايدغر إلى فتح منافذه بلا كلل. سوى أن الأخير، لا يفتأ وهو يصَّاعد في الطلب حتى يحتدم بمشقة العثور على ماهية هذه الكينونة وحقيقتها. ولقد أعرب هو نفسه عن ذلك بالقول: إنّ الكينونةَ عينَها في عوز إلى فعل الوهب والجود لكي تبلغ إلى خاصّتها بما هي إقبالٌ إلى الحضور… ما يعني أن احتياج الكينونة إلى معونة من خارج، هو بلا أدنى مجادلة حكم على الكينونة بالفقر، وبأن ثمة معطيًا كليَّ العطاء والوهب هو الذي يتوقعه هايدغر آخر المطاف.

هوذا حال الكينونة المتعدد الحضور والأوصاف، فماذا أيضًا عن حال الكائن؟…

ما عاد الإنسان مع هايدغر كائنًا سالبًا يُقصي ما سواه ليبقى هو وحده محور الكون وسيده والقيِّم عليه. همُّه وهو يعاين تراجيديا الحداثات المتعاقبة، أن يعيد الكائن الإنساني إلى منطقة الاعتدال، ثم ليستنقذه مما هو فيه من “الإنقذاف” في العدمية. محاولة هايدغر هذه، سوف تتخذ مسارات مضطربة وهو يمتحن الرفقة العاثرة بين الإنسان والكينونة. كان عليه ليجد مخرجًا أن يصرِّح: ليس “للدازاين” لكي يكتسب تعاليه سوى التعرض لقدرة الكينونة الفائقة…

ها هنا توكيد متجدد على تناظر بين “الدازاين” في زمانه ومكانه وفعالياته، والكينونة كلاعبٍ خفيٍّ يمنحه التأييد والتسديد والاعتناء. وفي كل حال، ما كان ليتفق له ما يريد إلا أن يمضي بعيدًا في التأويل. ولقد التجأ إلى هذا الاختيار بعدما استنفذت الميتافيزيقا جلّ مختزنها المقولي للتعرف على الماهيات.

لن يكون التأويل للحائر في الحضرة ضربًا من سلوى تفترضها رحابة اللغة. التأويل عنده تجاوز للمجاز وسكنٌ إلى جوار الحقيقة. والمزيّة الكبرى التي حَظِيَ بها هايدغر ـ حسب هنري كوربان ـ أنه مَحْوَرَ فعل التفلسف حول الهيرمينوطيقا. لهذا سنرى، كيف انبرى في تأويلياته إلى تجاوز الميتافيزيقا التقليدية من أجل استقصاء معالم ما فوق الميتافيزيقا. عند هذه الدرجة من التفكُّر بالمتعالي يصل التحيُّر لدى المتأوِّل إلى أقصاه. ولأن تفكرًا هذه درجته، فهو يجعل المتفكر على نشأةٍ مغايرةٍ لما عهده في نفسه من قبل، فإن السؤال الذي يطرح من فوره هو: ماذا لو تيسَّر لهايدغر مثل هذه الوضعية المفارقة؟

يقول بيير تروتينيون: إن التأويليات الهايدغرية تترك لدينا انطباعًا أنها لاهوتٌ من غير تجلٍّ…

ليس من ريب، أن صواب هذا الانطباع وبطلانه، أمرٌ لا نستطيع الفصل فيه، ما دام كل صادر عن فيلسوف الحضرة يلج مختبر التأويل، أو أنه يعكس مزاج المؤوِّلةِ وأهوائهم.

في مقالته “إسهامات الفلسفة” سيعرب هايدغر عما طال أمد كتمانه: “إذا كان علينا أن نتغلب على الانقسام الأنطولوجي بين الوجود والموجود فإن علينا أن نقفز إلى حقيقة الوجود نفسه”.

سعى هايدغر إلى هذا بهمَّة نادرة، وإن لم يُرَ وقعُ مسعاه. كما لو شاء الانتقال خفيةً إلى محراب الاستبصار ليتحقق بإرادة الكشف. لقد أفصح عن المابعد بإشارات وإيحاءات وعبارات استمدت غذاءها من الميراث الروحاني الممتد للحضارات الإنسانية. جاءت القفزة الأولى حين وجد أن اكتشاف “العالم” وتجلّي الدازاين يأتي دائمًا من خلال إجلاء الحجب والإبهامات، وبالتالي من خلال تحطيم السواتر التي يقطع فيها الدازاين (أو الحضور الإنساني مع الوجود) نفسه عن نفسه. إلا أنه وهو يختبر المطاف المتأخر لإجراءات الحداثة، ارتأى الاستعانة بلغة هو صانعها. أرادها كلسان حاله.. لا تشبه أحدًا مما سلف، ولا تتشبَّه بما يعاصرها. ولمَّا رفع اللغة إلى مقام المتعالي واصفًا إياها بـ “بيت الكينونة”، رمى إلى تظهير منظومته على نصاب التعالي والتميّز والفرادة. حتى لكأننا بإزاء ميتافيزيقا محمولة على صهوة الكلمات.

  1. اللغة كمؤسس للوجود

في مقالته “رسالة في النزعة الإنسانية”، لن يتردد بالإعلان عن أنه تراجع عن نشر القسم الثالث من الجزء الأول من “الوجود والزمان”.. لأن الفكر ـ برأيه ـ لا يستطيع أن يتوصل إلى إنجاز مهمة كاملة عندما يستعين بلغة الميتافيزيقا. أي أن التفكير في زمنية الكينونة يستلزم العثور على لغة أخرى غير لغة التراث الفلسفي التقليدي. ربما لهذا السبب ذهب في تأويله شعرية هولدرلن، إلى أن مهمة الشعر الكبرى هي “تأسيس الوجود باللغة”. لكأن الإنسان هنا، سيأتي اللغة ليستشعر وجوده فيها لأول مرة. وما هذا إلا لأن لغة الشعر لغة متعالية، مشرفة على نظائرها ومنتجة لوجودات مرئية أو متخيَّلة. ولأنها كذلك فهي تكشف حيث لا يحدث الكشف.

كذلك يستعمر هايدغر جلَّ أطاريحه بالشِعرية. يفعل هذا، لا ليُدهش المقبلين إليه بسحر الكلمات، وإنما ليأتينا بشهادتين: شهادة التعبير وشهادة المعنى. و”الدازاين” وهي المفردة التي استحالت أيقونة فلسفية سوف تشهد على حضور الشهادتين معًا. حتى إذا تأوّلنا معناها بالعربية كان “الإنسان”. وهو الاسم المشتق من “أنسٍ”، و”أنسٍ” يلتقيان ولا يفترقان. وأما الحاصل فهو المثنى الذي يتوقد العالم كله فيه.

حين يسأل هايدغر عن السبب الذي يصير معه صياغة خطاب عقلاني، في المنطق الغربي ممكنًا، يروح يبيّن أن المسألة الفلسفية، أي مسألة الكينونة، تجد أصولها وجذورها في كائن خاص قادر على طرح تساؤلات لا فقط حول الكائنات الأخرى، بل حول كينونته بالذات. أساس الكينونة عنده هو الإنسان، ذاك الكائن المفارق الذي يتفكَّر الكينونة بوصف كونها أكثر المسائل حضورًا، وينظر إلى ذاته كحاضر فيها وغائب عنها في الآن عينه. إلا أنه يدرك أن تساؤله عن سرِّها هو تساؤل يعني حضوره هو بالذات. فالإنسان بما هو صاحب الحضرة، لا يتساءل من خارجها، وإنما هو حاضرٌ في القلب منها. هذا الكائن الذي هو متضمَّنٌ في التساؤل لا يسميه هايدغر “ذاتًا” ولا حتى “إنسانًا”، بل “دازاين”، (الكائن ـ هناك). وسيعطي لهذا اللفظ مدلولًا خاصًّا جدًّا، حيث لم يعد لفظ “Dasein” يعني لديه الوجود بصفة عامة، بل يخص فقط كينونة الكائن الإنساني.

يتعيَّن إذن ألا نفهم هذا الكائن كموجود بين موجودات، بحيث يكون مجرد كائن موجود هناك بين الموجودات، بل أن يُفهم ـ على العكس من ذلك- على أنه ذلك الكائن الخاص الذي هو، بشكل ما، كل كائن. إن ما يميز فعليًّا وبشكل أساسي الدازاين الهايدغري عن مفهوم الذات كما ورد في الفلسفة الحديثة، هو إقبال، أو انفتاح هذا الكائن نحو ذاته ونحو الكائنات الأخرى في آن. هي السمة التي يرى هايدغر أنها تشكل صفته المميزة. مُعطيًا للفظ الانفتاحية ـ من حيث هي سمة أساسية لنمط كينونة الكائن الإنساني ـ مدلولًا قويًّا يخص كائنًا ليس هو مجرد كيان جوهري قائم، بل لكائن هو باستمرار “في حالة ارتماء وانقذاف”. إنه كائن مختلف عن ذاك الذي تصورته الفلسفة الحديثة منذ ديكارت على أنه “ذات” (sujet) أي كيان جوهري (Substance) “ليس في حاجة لأي شيء آخر لكي يحقق وجوده”.

“الدازاين” إذًا،  هو سر الوجود. لكن هذا السر لا يوجد خلف ما يظهر بل هو ظاهر بعينه. إنه موجود هناك. “الهناك” هي حضور محتجب إلا أنه حضور كشَّاف. منه يستمد كل منكشفٍ غذاءه وجاذبيته وديمومته.

بهذه الصفات التي خُلعت على “الدازاين” لا يعود منطقيًّا النظر إليه وهو محمَّل بكل هذا السيل من الالتباس الذي امتلأت به الأدبيات الحاكية عن ماهيته وهويته وأفعاله. فالدازاين كائنٌ واعٍ ذاته، مدركٌ غيرَه، ساعٍ إلى فهم حاضريته في الكينونة. وبهذه المنزلة المفارِقة يمسي نظيرًا للكينونة، وليس مجرد كائن منطوٍ فيها، أو مسلِّمٍ بأمرها على نحو الإذعان المذموم. إنه متفاعل معها وفق مبدأ العشق والتشاعر والتواجد.

لقد أنشأ هايدغر خطبته على أرض المفارقة. مكَّنته أزمنة الحداثات المتداعية من أن يمارس تمريناته في محاذاة نسيان الكينونة. ولذا فإن متاخمة “فيلسوف الحضرة” كتفًا إلى كتف، وحالة إثر حالة، تخبرُنا أن الرجل الحائر في حضرةٍ هو هَنْدَسَ بنيانها، ما عاد يقدر على الاستحكام بمآلاتها. تفكُّر هايدغر في أمر الدازاين حين رفعه إلى المقام الأعلى، غَدا مَشْكَلًا بالنسبة إليه. هنا على الأخصّ، تبتدئ حَيْرته الفعلية وهو يتفكَّر الحضرة. مع الحيرة تتراءى لنا إرهاصات غير مسبوقة في ما يجوز أن نسميه للوهلة الأولى “نزوع هايدغر إلى راحة العقل”. ولا من شك في أن للأمر علّةً: التفكير المفاهيمي بات حسابُه غير مؤهل لفهم وإدراك ما ينشده “الدازاين” وهو في طور القلق الأعلى. لا بدّ له إذًا من قفزةٍ ما نحو أفقٍ ما. وهذا الأفق هو نفسه الذي سيُدخِلُه في ما بعد فضاء تحيُّر لا قرار له. الذي حصل هو انفتاح مسار آخر في “سلسلة مساراته” الفكرية. طفق هايدغر يندد بمحدودية التفكير الميتافيزيقي لعجزه عن الأخذ بناصية الإنسان إلى عيش الكينونة. ولسوف نلحظ مثلًا لهذا التنديد عندما شكَّك بأن مؤلَّف “الكينونة والزمان”، لا يزال يُشكِّل مرشدًا لفهم الوجود.

وصل الحدس الهايدغري إلى استشعار الموجة الأولى من تمثّلات الدازاين، وهي إمكان العبور من الإثنينية إلى منزلة تالية نستحب تسميتها بمنزلة التكامل في المثنى؛ تمامًا كما نظّر في ميتافيزيقاه المتعالية لهذا التشاعر الخلاّق بين الإنسان والكينونة. لقد أدرك أن كل تناظر في الإثنينية آيلٌ إلى الاختصام والفرقة، بينما كل شيء في منطق المثنى محمولٌ على الانسجام والجمع. وما ذاك إلا لأن زوجية المثنى لا تعمل إلا وفقًا لقانون التكامل. ولأنها كذلك فإن سعيها إلى الوحدة، يجري طبقًا لمبدأ الامتداد الجوهري في الواحد. إذ على هذا المبدأ الساري عبر الانسجام والتناسب بين قطبي المثنى، لا يعود ثمة قطيعة، وإنما تكامل وتفاعل في نفس الآن.

لم يكن هايدغر غافلًا عن هذه السَيرِيَّة الامتدادية التي يوفرها المثنى لِرَتْقِ الانفصال الموهوم بين الوجود والموجود. والواقعة التي يجب ذكرها في صدد الأمر، أن صيغة المثنى هذه كانت وجدت تمهيداتها وإن بصيغة التورية ـ في “ميتافيزيقيات” خلت، ولم تكن غائبة عن مطالعات هايدغر.

كان نيتشه ـ وهو ينقد ثنائية الخير والشر في عقل الغرب ـ يتساءل باستغراب عن الكيفية التي يمكن لشيء ما أن يولد عن ضده: الحقيقة عن الضلال، وإرادة الحقيقة عن إرادة الخداع، والفعل الغيري عن المصلحة الذاتية، ونظر الحكيم النيّر الخالص عن استبداد الشهوة… كان يقول: “إنّ تولدًا من هذا النوع ممتنع.. إذ يجب أن يكون للأشياء ذات القيمة الأسمى منبع آخر وخاص. وهذه القيمة لا يمكن أن تُشتّق من هذه الدنيا الفانية الغاوية المخادعة الوضيعة، أو من هذا الهرج والمرج من الأوهام والأهواء. إن منبع هذه القيمة الأسمى يجب أن يكون هنالك في حضن الكون، في اللاّفاني.. في الإله المخفي، في الشيء في ذاته، هناك، وليس في محل آخر”.

قد يكون نيتشه أكثر فلاسفة الحداثة، ممن أسّسوا لنقض الإثنينية المذمومة التي أنتجت فكرة الكون المولود من احتدام الأضداد. لقد رأى أن إيمان الميتافيزيقيين الأصلي وفي كل الأزمنة، هو الإيمان بأضداد القيم. ثم ليبيّن “أنّ علينا أن نترقّب جنسًا جديدًا من الفلاسفة، من الذين لهم ذوق ما، وميلٌ ما، مغاير ومعاكس لأسلافهم .. ولنقل بكل جد ـ كما يقول ـ: إنّي أرى بزوغ مثل هؤلاء الفلاسفة الجدد”.

حتى هيغل ـ وهو فيلسوف الأضداد بشهادة امتياز ـ سيأتي في لحظة صفاء ليرى إلى المتضادات كيف تنحو إلى التعاون والانسجام. ولقد لاحظ في تأملاته الفلسفية: أنه متى وصل تناقض ما بين ضدَّين إلى حده الأقصى، فإن كل من هذين الضدّين ينتقل باتجاه الآخر ليصنعا معًا محلًّا مشتركًا للاستمرار والديمومة. والحال أن كل ضد لا يحتاج إلى الآخر ليتضمنه فحسب، وإنما يصير كل ضد ـ على حد سواء ـ هو هذا الآخر، كما لو كانا وسط حقل كهرومغناطيسي تتضامن مفاعيله وفق مبدأ الموجب والسالب.

عند هيراقليطس المستعاد بشغفٍ هايدغريّ بيِّن، سنلاحظ تأسيسًا لمذهب التكامل في الوحدة. أنشأ المعلم الإغريقي رابطًا وطيدًا بين المرئي واللَّامرئي تحت إشراف “اللوغوس” وعنايته. وبقطع النظر عما ذهبت إليه لغته الفلسفية في تعيين الكائن المتعالي الذي يعتني بالموجودات المرئية وأبعادها اللاَّمرئية فسنرانا بإزاء تنظير فلسفي ذي أفقٍ عرفاني في وحدة الكينونة. وهو ما كان  هايدغر متنبِّهًا إليه لمَّا تتبَّع الميتافيزيقا الإغريقية من بداياتها إلى لحظة اكتمالها في أزمنة الحداثة الغربية. لعلّ ما أطلق عليه “نسيان الكينونة” لا ينأى من الإلهامات الهيراقليطية التي رأت إلى الحقيقة بما هي انحجاب الأساسيات عن نظر الإنسان. أما اللوغوس الذي هو “القانون الكوني” وهو ما يحكم بسلطته كل شيء، وكل شيء يجري بالتوافق معه، فهو نظير الكينونة الهايدغرية كما مرَّ وصفها. وتأسيسًا على هذه الرؤيا لا يعود اللوغوس جوهرًا منفصلًا عن عالم الأشياء المادية. ولا هو تطابق في الوقت نفسه مع عالم الأشياء المأخوذة على حدة، وليس مماثلًا له. إنه البنية الكونية الخفية للأشياء، والنظام المنسجم للكون. إنه تعبير عن الوحدة الديناميكية للأضداد. تلك الوحدة التي تتجلى بالمثنى ويتجلّى هو فيها كأرفع مثال لتجلي الألوهة في العالم.

  1. الاقتراب من حافة التصوف

في الشطر الأخير من حياته سوف تتمدد حَيْرة هايدغر لتصل مطرحًا يصير فيه السؤال الميتافيزيقي نفسه محل تساؤل. وتلك لحظة منعطَفية لا يضارعها ما سلف من انعطافات في مساراته الفلسفية. إنها انعطافة بسيطة ومعقدة في آن. فإذا كان السؤال يشبه الكُوَّة التي يفتتح الفكر حركته بها في عالم الموجودات ليحوّل ما يجهله عنها إلى معلوم، وما استتر منها إلى حضور، فإن هذا السؤال قد يتبدَّد حين يستنفذ كامل أغراضه. وحتى يصل السؤال عن أحوال الموجود في الوجود إلى الإشباع، فإنه قد يتبدد وفق ما تحكم به القوانين المنطقية. عند هذه الحال يصير للاستفسار عن منشأ الكائنات والرحم الذي انبثقت منه دُربة أخرى. جاءنا هايدغر بالتساؤل كمنهج للاستفهام “المابعدي” عن الوجود والموجود. التساؤل الذي هو تقوى الفكر عنده غير قابل للتبدُّد كونه يستمدّ غذاء ديمومته من الوضعيات الحائرة. لهذا لم يكن السؤال كالتساؤل. السؤال مباشرٌ، حادٌّ بالطبعِ، لا يتردد بين جوابين متناقضين في أمر واحد. إما أن يكون للسؤال جواب يُفضي إلى يقينٍ أو لا يكون. أما التساؤل فهو حبل ممدود، مُعينٌ على الصبر، يدع المجال للتأوّل تلافيًا لقطعية الإجابة. ولما كان السؤال موصولًا بشيء لا ينوجد إلا بالإفصاح عن ماهيّته وتعيّنه في الواقع، فهو في هذه الحال مقولة منتمية إلى العالم القَلِق. حين أن التساؤل ضربٌ من التركيب العجيب يتضمن سؤالًا وجوابًا غير مكتملين. ولذا فمكانه المناسب فضاء الحيرة.

لا مناص من استرجاع الميتافيزيقا على نصاب آخر. على نشأة لا تعود فيه الفلسفة مجرد نظريةٍ أو موضوعٍ منتجٍ للقضايا، بل فاعلية يُستهدى بها لفهم ظواهر الموجودات ومصائرها. وبهذه المثابة تصير الميتافيزيقا ـ حال عودتها طبقًا للرغبة الهايدغرية ـ سَيْريَّة هادية إلى حقيقة الوجود. أما مشكلة التعلق بسؤال الموجود عند هايدغر فستبقى على أحوالها ما دام استرجاع الميتافيزيقا ضروريًّا كلما لزم الهبوط إلى دنيا الإنسان وتاريخيته. والذين يأخذون على هايدغر مَيْلَه المتأخر إلى “رَوْحَنة الميتافيزيقا” ربما لم يستشعروا السؤال الذي يتكرر ثم يعود  حسيرًا إلى سيرته الأولى إثر كل إجابة ناقصة.

لم يفارق هايدغر أسئلة الميتافيزيقا الصمّاء. لكنه لم يسكن إليها، وإنما ساكَنَهَا على سبيل المجاراة والوفاء لقربى قديمة. أما ما ستؤول إليه رغائبه فذلك ما ستفي به إلقاءات السنين الأخيرة من عمره.

لقد أوشك هايدغر وهو يجوب ساحل الحضرة الحائرة، أن يتعرض إلى الحادث العرفاني، بعدما أرهقته مشقة السؤال حول حقيقة الكينونة. بدا كما لو أنه يستعد لسفر تعرُّفي لم يألفه من قبل. سفر هو أقرب إلى هجرة لا تقبل العودة إلى الوراء، وغايتها الوصول إلى فكر يتعدى الفقر الموصول بالماهيات الفانية. هو ـ على الأصح ـ فكر الفكر الذي جعله أرسطو فكرًا خاصًّا بالله. فكر يقود إلى الأصل.. إلى الشيء الذي هو محطُّ السؤال. ربما هذا الذي حدا به أن يعلن عام 1973 أنه مستمر في تعريف فكره بأنه “فينومينولوجيا ما لا يظهر”. أي الفكر الذي يحيل دائمًا إلى عملية الظهور، وإلى الإنوِهاب التي يتلقاها الإنسان في الحضرة الإلهية.

لو تأوَّلنا التعريف المنصرم، لتناهى إلينا صدى الحادث الانبثاقي الموعود الذي ينتظره هايدغر الأخير. في مفهوم “الإرأيغنيس” (Ereignis) الذي سيوظفه هايدغر في انتقالاته المفارقة، ما يفصح عن دخوله في التحدِّي الأعظم: السفر بسؤال حقيقة الوجود ومعه إلى آخره، مع ما يرتب على ذلك من هجران ما اقترفته ميتافيزيقا الكثرة من نسيانٍ وغفلةٍ وحجب. ربما توخّى هايدغر من هذا المفهوم المنحوت ببراعة أن يقارب من خلاله الدفق الإلهي على الكائن، بخاصة حين يكون هذا الكائن في ذروة انجذابه إلى الغيب. “الإرأيغنيس” كما انتسجه هايدغر هو الحادث السرّي الخاطف الذي تُقبِلُ فيه الكينونة بطهارتها وقدسيتها على الإنسان، ولا غاية لها سوى الإنفاق بلا حساب.

مثل هذا الحادث السرِّي سوف نتقصّى أثره بالمنزع الهايدغري إلى “الروْحَنة”. تلك التي أقبل إليها، أو أقبلت إليه، بعد مسار شاقٍّ باتجاه ما لا يقع في متناول الذكاء الفيزيائي، وإنما ذاك الذي يؤتَى بالانفتاح الحكيم على ما لا يُدرك. وتلك مرتبة من الوجد الباطنيّ يصفها اللاهوتي والفيلسوف الألماني بول تيليتش بالإيمان الأقصى الذي يمنح صاحبه القدرة على التجاوز والتعالي والاستيعاب والإحاطة والصبر. فإن من حصَّل ذلك، يستطيع عيش الغيب وظهوره بالمقدار نفسِه. فهو في حال انسجام ووئام ووحدة ولو ظن الآخرون خلاف ذلك.

الإيمان في حدوده القصوى ـ كما يبين تيليتش ـ هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروريّ وكليّ، وهو ممكن وضروري أيضًا في زماننا هذا. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على أنه همُّ أقصى، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أي نوع من التفلسف. في هذه المنزلة لن يكون الإيمان نقيضًا للعقل فلو كان كذلك لَمالَ إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان، إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه همٌّ أقصى، أي أن يكون شغوفًا بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وبهذا المعنى يصير العقل شرطًا تأسيسيًا للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته. أي إلى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والغيرية.

أما الفيلسوف واللاهوتي الألماني رودولف أوتو فيرى إلى الحادث العرفاني باعتباره سرًّا مكتظًّا بالرهبة. ذلك بأن ما هو سرِّي، لو شاء المرء التعبير عنه تعبيرًا بالغ الأثر، هو “ذو الغيرية التامة”. ذاك الذي يوجد بتمامه خارج دائرة المعهودِ، والمُستأْنسِ به، والذي يقع نتيجة لذلك، بالضبط، خلف حدود “المألوف”، ويناقضه، مالئًا الذهن دهشة وذهولًا. فالأمر “السري” حقًّا يقع خارج إمساكنا به، وإدراكنا له، لا لأن لمعرفتنا حدودًا مرسومة فقط، وإنما لأننا نلتقي فيه بما هو “ذو غيرية تامة”، بشكل ضمني.

عند هذا، لا يعود للسؤال عن السر آنئذٍ من نفع، إذ لا لزوم لإشغال الفكر بأسئلة قد تودي بصاحبها إلى الاغتمام وانصراف الفكر الخلاّق عن غايته. من يدرك سر تلك اللحظة إدراك عيش ومعاينة لا يعبأ إن كان قد تعقّل ذلك السر بالحجة والاستدلال أم لا. فإن من عاش السر لا يَعُدْ يهمُّه التعرف على صفاته وآثاره الخارجية. فقد بلغ مقام التحقق، وبات يعرف ما لا يقدر على معرفته حتى الكثرة من أهل الندرة.

في هذا المقام لا تعود الكينونة في تآخيها مع الكائن موجودًا عاديًّا، بل هي ما يتسامى فوق الموجودات. نظير المطلق واللاّمتناهي لدى الفلاسفة، أو هي “الوجود المنبسط” عند العرفاء. كان  هايدغر يوصي من يريد اختبار الكينونة أن يتأمل بالمعنى الذي يسيطر على كل ما هو كائن. وأن يدخل في حالة تأملية وجدانية تسكت فيها الأحكام المنطقية الثنائية ليبدأ الانفتاح على المتعالي.

إنها الرغبةُ الصافيةُ في التمثّل. معها لا يعود الغير الذي جرى تمثّلهُ آخرَ. الغير وصاحب الرغبة الصافية يصيران نفسًا واحدة. تمّحي الإثنينية ليولد المثنى. هناك حيث ينطوي سر اتصال الواحد بالكينونة على اختلافها وتكثرها.

ولما كان أصلُ كلِّ رغبةٍ شهود رغبةٍ أخرى حقيقية أو وهمية، فقد جاءنا هايدغر برغبةٍ تتوسط الحقيقة الواقعية وما يتأبى على  التموضع تحت سلطان الحس. نلحظه لا يأنس إلا إلى الحضرة الباعثة للحيرة. وما ذاك إلا لأنه أراد الكشف عن سر الميثاق المستتر بين الوجود والموجود. لكأنما غاية الفيلسوف الحائر في السِّتر أن يصير الميثاق المبرم بين الإنسان والكينونة، مثابة أيقونة للذين يقترفون جناية التعرُّف على حقيقة الوجود.

رهان هايدغر على اللغة رهانٌ على المطلق. في مسعاه هذا كان أشبه بأولئك الذين مضوا في ملحمة اللغة إلى أقصى حدود الإمكان، ثم كان عليهم أن يطلبوا المزيد، فلما لم يطيقوا الحرف مضوا إلى الإشارة.. فلما لم يطيقوا ثانية قالوا ما شاؤوا بأحرف مهموسة، وهكذا حتى ليوشك الفيلسوف أن يجد للصمت مكانًا في فضاء لغة “فوق ميتافيزيقية” لا تتناهى في الامتداد والسعة…

ذاك سمتُ هايدغر من “الكينونة والزمان” إلى أواخر المحاضرات التي ألقاها قبل آنٍ قليل من ارتحاله. سمتٌ لا تحتمله إلا “الكتابة المطلقة”.. وفلسفة هذا النوع من الكتابة أنها قاصدة كل معنىً محتجبٍ في حضرة الكينونة. فإنها حين تمارس لعبتها لا تفكر بالنقد ولا بسلطانه. كما لا تأبه لظنون قارئها ولا لأحكامه وتأويلاته. معيارها نفسها، وعالمها كامن في المخصوص من هذا العالم نفسه. سوى أنها تتغيّا حقيقة الوجود الحية لا هوية الموجودات التي تؤول إلى الذبول والموات.

حين يصَّاعد هايدغر في شغفه بـ “ما فوق الميافيزيقا” وتمريناتها الخطرة، فلن نعود نرى إليه على حال واحد. تستدرجه أحوال الكينونة إلى انسياباتها، لكنه لا يفتأ أن يستدرجها ليجد لنفسه فيها مطرحًا آمنًا. سبيلُه إلى المطلق موفور في الكتابة المطلقة. تلك التي اتخذها هادية له في متاهته العظمى. ففي تلك المتاهة تتحول أمكنة الكينونة كلها إلى مقامات لا يدخلها إلا المتوحدون بأنس الاعتزال.

ثمة إذن، تشاعر مع الحضرة التي هو منها وفيها، هو أدنى إلى ميثاق باطني بين حضور الدازاين واستجاباته لنداء الكينونة. هو أشبه بذاك الذي ينعقد بين الراهب والدير، أو بين الولي والمقام القدسي. ربما هي أدنى “لحظة التجلِّي”- كما يقول العرفاء- تلك التي تُعرِبُ عن اختبار معنويّ، وانخطاف روحيّ لا يتوفّر عليها سوى الذي يعيشها بالفعل. إنها اللحظة التي تولد من القلق الخلَّاق. القلق الذي ينظر إليه هايدغر بأنه “يمكن أن يستيقظ في الوجود في أية لحظة ولا يحتاج إلى أي حدث غير اعتيادي لإيقاظه .. إذ من خلال هذه التجربة تصبح الكينونات بكاملها غير ضرورية، حيث تنزلق ويبقى الدازاين الخالص كل ما هنالك”…  التجلِّي هو حاصل القبول المتبادل بين الحضرة والحاضر. متى حصل القبول بالإقبال تنمحي الإثنينيّة بين “المقبل” وصاحب الحضرة، ومتى أدرك الدازاين سرَّ المبادلة ازداد تلهّفًا إلى وصل السر بالسر. حتى يمسي مضاهيًا للكينونة في صفائها اللَّامتناهي.

لن نقول إن هايدغر بلغ المكان الآمن في الحضرة. لقد مضى بالبذل طلبًا لهذا المبتغى. ثم اتجه شطر الألوهي بشقّ النفس فلم يحالفه حظُّ الوصول. وما ذاك إلا لأنه ظل أسير الإغواء الفينومينولوجي للوجود. شأنه في هذا شأن كثيرين ممن اكتفوا بظاهريات الوجود دون البحث عن حقيقته الغائبة. لكن مفارقته الكبرى التي لم يقدر على إنجازها هي تلك التي أعلنها في نهاية طوافه الأخير في صحراء الميتافيزيقا الظمأى: “وحده الله بإمكانه أن يمنحنا النجاة”…

Endnotes:
  1. *: #_ftn1
  2. *: #_ftnref1

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/13789/martinhaydger/