الإيمان والعقل..أية علاقة

الإيمان والعقل..أية علاقة

لا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في التصور الإسلامي، بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف. وأساس حق الاختلاف في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولًا للجميع.

“فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني، وهو الوجه الآخر، والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لا بدّ من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقًّا، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من مظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري، وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضًا. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان، أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة. (راجع مجلة المنطلق، العدد115).

ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصًا‏ أو عيبًا‏ بشريًّا يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار. حيث إن “الحرية أساس، والسلطة قيد ولكنها ضرورة اجتماع. ولكي تقوم السلطة دون الإخلال بأساس الحرية لا بدّ من أن تكون قيود السلطة مشتقة من قواعد الحرية. حيث لا يجوز تقييد الأخيرة إلا بقواعدها وليس بإرادة خارجة عنها. وبهذا التحديد تغدو شرعية السلطة ثمرة لاختيار البشر الحر في تعيينها. وإذ ذاك يغدو الاختلاف (حقًّا) مصونًا‏ بشرعية السلطة نفسها، وبنفيه تنفي السلطة شرعيتها؛ أي تنفي ذاتها”. (راجع المصدر السابق، ص17).

والإيمان الديني لا يمكنه التخلّي تمامًا عن أي تعاون مع الأفكار والمبادئ العقلية. ففهم القضايا والمفاهيم الدينية، وإيصالها رسالتها إلى الإنسان والعالم بطريقة مقنعة ومفهومة لكل الناس يستدعي التوسل بوسائل عقلية والتواصل المباشر مع كل القضايا العقلية. لهذا لا يوجد على المستوى الواقعي مفكّر ديني سواء كان مسلمًا أو مسيحيًّا يرفض العقل على نحو الإطلاق. فشخصيات مثل وترتوليان، وبيتر دامين، ولوثر، وباسكال والتي تعد من ألد أعداء العقلانية، لم ترفض العلاقة بين الإيمان والعقل رفضًا أساسيًّا وحاسمًا، وإنما اتخذت نمطًا معينًا من العقلانية. وفي المقابل، أنصار النص الديني لم يهدفوا عزل العقل عن مساحات الدين نهائيًّا.

(ومن المهم القول: إن للعقل استخدامات مختلفة. وفي ما يتصل بعلاقته بالدين يمكن تصور ستة أدوار ومواقف متباينة له، وهي:

  1. 1. دور العقل في مقام فهم معاني القضايا والعبارات الدينية.
  2. 2. دوره في مقام استنباط القضايا الدينية من النصوص المقدسة.
  3. 3. دوره في مقام التنسيق والملاءمة بين العقل والدين.
  4. 4. دوره في مقام تعليم القضايا الدينية.
  5. 5. دوره في مقام الدفاع عن القضايا الدينية.
  6. 6. دوره في مقام إثبات القضايا الدينية وتسويغها). (راجع كتاب العقل والدين في تصورات المستنيرين الدينيين المعاصرين، ص24).

فدائمًا الإنسان المؤمن وانطلاقًا من فلسفة الحياة وفق منظوره الإيماني، يرغب ويطمح أن تكون حياته بأطوارها المتعددة منسجمة وإيمانه، وغير متطابقة مع حياة غير المتدين أو المؤمن، وهذا لن يتأتى على الصعيد الواقعي بدون الحرية التي توفر للإيمان فلسفة شاملة للحياة، وتخلق لديه الإرادة الإنسانية المستديمة لتحويل مفردات وحقائق إيمانه إلى واقع معيش. و(إن غسل التعميد بالنسبة إلى المسيحي، وذكر الشهادتين بالنسبة للمسلم، بداية طريقهم إلى طلب الحقيقة، فهذه الممارسات تعني وضع الأقدام في الطريق والشروع بالخطوات الأولى، ولا تفيد الوصول إلى الغاية). (راجع كتاب التدين العقلاني، ص7).

فثمة آصرة لا انفصام لها بين الإيمان والعقل. بمعنى آخر بعث الله للبشر حجتين: إحداهما حجة ظاهرة، والثانية حجة باطنة، وبالتالي فالعقل والرسول كلاهما من سنخ واحد، ويصبان في سياق واحد، والعلاقة بين العقل والوحي كالعلاقة بين العين والنظارات، وليست من قبيل علاقات التضاد.

لهذا، فإن المطلوب باستمرار أن يعرض الإيمان الديني للإنسان (الفرد) دومًا على النقد والعقل النقدي، والغاية من هذا النقد هي تنقية الإيمان، ورفع الحجب، والوصول إلى الطبقات العميقة من التجربة والإيمان الدينيين. وهذا يعني على المستوى الواقعي والمعرفي أن هناك قابلية للإيمان على التحول والتطور من خلال التجارب الروحية والمعرفية والإنسانية. فالعقل بكل تجلياته يساهم مساهمة فعلية في صناعة الإيمان، أَوَلَم يبعث الأنبياء العظام لتذكير العقل وإحياء مكتسباته الإنسانية، (ويثيروا لهم دفائن العقول)؟ لهذا كان الأنبياء جميعًا يدعون الناس إلى الإيمان، ويستخدمون في دعوتهم كل البراهين والحِكَم البيّنة. ومن الجلي أن الشيء إذا لم يكن معقولًا يقبل البرهنة فلن يقبل الدعوة العقلية. وتأسيسًا على هذه الرؤية فإن للمعارف العصرية والعقلية الراهنة مدخلية أساسية في تكوين الإيمان. وهذا لا ينفي قدرة الإنسان من خلال فطرته المركوزة أن يتعرف على الخالق سبحانه من خلال إزالة أستار الغفلة والحجب المختلفة عن قلب وفطرة الإنسان السوي. وانطلاقًا من معنى الإيمان المفتوح على كل التجارب الذاتية والمعرفية، فإن هذا الإيمان يتمحور حول حرية الإنسان؛ لأن الإيمان كما اتضح أعلاه، هو عمل اختياري يقوم به الإنسان بفضل إرادته وحريته.

فالإيمان هو وليد اختيار الإنسان الحر، بدون إكراه أو تعسف من أحد، ولهذا فإن اختيارات الإنسان وخياراته في مختلف المجالات، هو وحده الذي يتحمل مسؤوليتها. وبهذا يتشكل الثالوث الذهبي في الوجود الإنساني (الإيمان – الحرية – المسؤولية). فأنت حر في عقائدك ومعتقداتك وخياراتك، وبمقدار حريتك أنت مسؤول عنها، وتتحمل وحدك مسؤولية اختيارك.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الإيمان والعقلالعقلالإيمان

المقالات المرتبطة

العارف الثائر.. السائر إلى الجمال المطلق

سلام على شهيدنا المربّي الجمالي الكبير هو يرشدنا إلى طريقة الشريعة السهلة السمحاء للسير والسلوك الجهادي، وصولًا إلى الفناء بجمال الحق المتعالي ومسك الختام!

ذكرى أبي الشهداء

الألم لذكرى تلك الدماء النقيّة الطاهرة ما ارتوت هذه الأرض بأطهر منها، والعزّة بذلك الشمم العالي، ما شهدت هذه الأرض مثله، وإنّهما لمزيج مقدّس

التحليل الاجتماعي للرموز

يرى البعض أن التحليل الاجتماعي للرموز يرجع إلى الدراسات (ليجية و ويلام، 2005، الصفحات 203-214) العديدة التي قام بها علماء

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<