من كلّ فجٍ عميق

من كلّ فجٍ عميق

هذي الفجاج عميقةٌ جدًّا وقلبي يرتجي الوصال

في وادٍ غير ذي زرعٍ ألبي إلى المولى أريد الارتحال

 

خلق الكمال المطلق مطلق الكمال فتجلى النور المحمدي  مع أول “كن” في عالم الوجود، وإذا كان “أول ما خلق الله العقل”[1]  فذاك محمد (ص)، وإذا كان قد “خلق الله المشيّة قبل الأشياء”[2]  فالمشية محمد وآله (ع)، انبلجوا في عالم التكوين وجهًا لله حيث الخلائق بالغيب مكنونة، وقد خلقهم أنوارًا وجعلهم بعرشه محدقين. بعدها أوجد الله الأرواح ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾[3]، وصدعت شهادة محمدٍ (ص) كأول إجابةٍ في عالم الظلال. إلى أن بوأ الله نور محمدٍ (ص) صلب آدم (ع) “وَلَوْ لَمْ يَكُنْ في صُلْبِ آدَمَ مُودَعاً لَمَا قالَ قِدْماً لِلمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا”[4]. تقلب ذلك النور في الصلب الشامخ لعبد الله بن عبد المطلب والرحم المطهر لآمنة بنت وهب (حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّد (ص)، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَأَعَزِّ الأرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ)[5].

بعد اللتيا والتي استجاب الله لدعاء خليله إبراهيم (ع) بأن بعث ﴿فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾[6]، وصدق بشارة روحه عيسى بن مريم (ع) فولد رسولٌ بعده اسمه أحمد. وضعته آمنة ساجدًا فكبت الأصنام على وجهها، ومن بياضه المشرب بالحمرة  وعينيه المدعجتين استطار نورٌ من الحجاز انقشع به الظلام عن المشرق والمغرب، وخمدت نيران فارس بعد ألف عامٍ، وانقسم طاق كسرى وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وتبكم الملوك في ذلك اليوم. لقد كان الناس على شفا حفرةٍ من النار فأنقذهم الله تعالى بمحمدٍ (ص) إذ أرسله رحمةً للعالمين سيد ولد آدم ولا فخر قدّمه على أنبيائه وبعثه للثقلين من عباده. لم ينبس ثغره المفلج ذو الخال إلا بالصدق فكان الصادق الأمين حتى قال له تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[7]، وأرسل النبي الأميّ ﴿بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[8]، وآتاه سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، وشرح صدره وأعطاه الكوثر وعرج به إلى سمائه.

افتتح رسول الله (ص) رسالته بالدعوة سرًّا حتى تبلورت وتهيأت للتوسع لتنال الأقربين ثم أهل مكة ثم العالم أجمع، فمنهم من قُذف الإيمان في قلبه، ومنهم من كفر فطرته وجحد نور الهداية. مكث النبي الأكرم (ص) ثلاثة عشر سنة في أم القرى، ثم هاجر إلى يثرب التي طابت بحضوره. شرع ببناء مسجده ثم زوج النورين وخاض بدرًا وأحدًا والأحزاب وخيبر وحنين، ونصره الله تعالى بالرعب لا بالقتل وسفك الدماء، فقد كانت قوة الإسلام في عهد النبي الأكرم (ص) دفاعية وقائية، وفتوحاته سلمية، تربع على عرشها فتح مكة يوم جاء الحق وزهق الباطل، وخضع الطلقاء لسلطة الأخ الكريم وكان العفو سيد الموقف. ليس الفتح مرادفًا للنصر وإنما مبينًا تتحقق فيها أهداف الدعوة الدنيوية والأخروية.

تعددت الشرائع والدين عند الله الإسلام، ولذلك الدين فروعًا نسخت ما ظهر مع ما قبله من الشرائع وتشمل تلك الفروع “الصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ.. وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ…وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ”[9]. إن الحج من شعائر الله التي يجب تعظيمها وقد وصفته سيدة نساء العالمين (ع) بأنه مشيّدٌ للإسلام وقد ذكر أهميته أمير المؤمنين (ع) فقال: “جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً”[10]، حيث إنه المؤتمر الأكبر للمسلمين في العالم، ويقرن الحج بين الجهود المعنوية والجسدية والمادية. لم ينتقل رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى قبل أن يؤدي فريضة الحج التي توجها بالدعوة للولاية والتبليغ بما أنزل إليه من ربّه.

فكانت الكعبة الشريفة القبلة التي ولّاها الله تعالى نبيه ليرضيه، ومكة موطنه الأول والبقعة التي انطلق منها الفتح. لا جرم أن مناسك الحج التي يطل بها المحمديون على العالم أجمع تؤدّى هناك. في البيت الذي رفع إبراهيم وإسماعيل قواعده الأربعة التي قام عليها الدين: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فكان البيت بأركانه الأربعة الشرقي، والعراقي، والشامي، واليماني بحذاء البيت المعمور في السماء الرابعة حيال عرش الرحمن في السماء السابعة. هذا أول بيتٍ وضعه الله للناس ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا[11] من تحت مكة، فكانت أم القرى وكلّ هذا الكون ظلٌ لها.

ثم جعل الله تعالى في الأرض خليفةٌ وأهبط آدم على الصفا وزوجه على المروة فحج صفي الله وامرأته حرم الإله، إلى أن حمل الله نوحًا في فلكه الذي طاف بالكعبة سبعة أيامٍ قبل أن ينجيه الله ومن آمن معه من الهلكة برحمته. ولما أعتق الله البيت الحرام من الغرق، رفع قواعده الخليل والذبيح، وحمل سيد الكائنات الركن بأطراف الرداء وحال الصلح بين الحجيج وحرم مولاهم حتى ﴿جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾[12]، وكانت وما زالت الكعبة قبلة المسلمين يأتونها رجالًا وعلى كل ضامرٍ كلما أذّن فيهم بالحج.

يعاهدون الله بالانقطاع على أعتاب الوادي المقدس، يعبّؤون أرواحهم لميقات ربهم من ستة مواضع، ويخلعون ثوب الدنس المخيط بالذنوب ويكتسون التقوى. ثم يطوفون سبعًا كالسنابل بقطب الرحى يخرجون من مدارها أنقياء. وبعدها ييممون وجوههم شطر المسجد الحرام، ويتخذون من مقام إبراهيم مصلى فهو الذي سمّاهم المسلمين من قبل. ولأن ﴿لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾[13]، يكون سعيهم إليه تعالى بين الصفا والمروة سبعًا حتى يتفجّر زمزمٌ من رحمته وتسيل أوديةٌ بقدره لتغشيّ جموع الملبين. ثم يهذّبون أنفسهم بتهذيب شعرهم وأظافرهم وبذلك ينالون الإذن بالعروج نحو الله في الرحلة التي أشرقت من ظلام الدنيا، ويجب أن لا تُختم قبل أن يصلوا إلى نور الآخرة السرمدي.

في يوم التروية، يملأ الحجاج الماء والرجاء بالقبول بعد أن يعاهدوا المولى، ولكن هذه المرة يفعلون ذلك بينما هم ضيوفه، وحقيقٌ على الكريم أن لا يركس الكفوف التي رامت غيضًا من فيض ما عنده وأن يكون صدًى للأصوات التي لبّت له حين دعاها. من دون حائلٍ بين الحجيج والسماء، يتوجهون إلى جبل عرفات حيث تسمع لهم دويًّا كدوي النحل من الزوال إلى الأصيل فلا تأفل شمس ذلك اليوم إلا وقد مُلئ الشهد من عسل المعارف والاعترافات، ويتنقل الحسين (ع) بين أفئدة المتضرعين فيخرج دعاؤه من ثغورهم المشتعلة بذكر الله. تميل الشمس نحو الغروب فيزدلفون من ربهم فيظللهم المشعر الحرام حتى مطلع الفجر، ويجمعون الحصى ليرهبوا بها عدو الله، ثم يسابقون الشمس للوصول إلى منى ليشهدوا الأب الذي يفعل ما يرى بعين اليقين والابن الذي كان من الصابرين ففداه الله بكبشٍ عظيم. وطمعًا بالوصول إلى الكمال، يرمون جمرة العقبة ويصيبون بذلك نفوسهم الأمّارة بالسوء ثم يقدمون قرابينهم للإله الذي لن ينال ﴿لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىْٰ﴾[14]. ويعلنون إتمام هذه الشعيرة بالتخلص من رجس الدنيا بالحلق والتقصير.

تستقطبهم مكة مجدّدًا ليطوفوا طواف الحج، وتناديهم أن قبّلوا أرضي بنواصيكم تذلّلًا لربكم ليرفعكم. ثم يرافقون إسماعيل وهاجر (ع) في سعيهما إلى الله بين الخوف والرجاء. ولكي لا يُحرموا السكن إلى أزواجهم، يحومون بالبيت تقرّبًا مرةً أخرى، ويقيمون صلاة الطواف خلف المصلى. ويتسلحون لرمي الجمرات الأولى والوسطى والعقبة ليُردوا ما علق من أدران الفساد على أفئدتهم، فيأتي ظهر اليوم الثاني عشر ليفيضوا بعدها ويتحللوا من إحرامهم ويكملوا حجهم الدائم نحو الله تعالى.

هذا دين محمدٍ (ص) وهذه شعيرةٌ من شعائره التي أتى بها إلى الناس كافةً، وقد جعل الله تعالى أفئدة البعض تهوي إليه. إنه الإنسان الكامل الذي كأنه “قد (خُلق) كما يشاء”[15]. وافته المنية وقد ترك في الناس الثقلين كتاب الله وعترته، ورحل عن الدنيا وقد أدّى الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها قلبه، وقد قال فيه أمير المؤمنين بعد الوفاة: “بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالأنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّماءِ، خَصَصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَعَمَمْتَ حَتّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَواءً، وَلَوْ لاَ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَقَلاَّ لَكَ وَلكِنَّهُ مَا لاَ يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ”[16].

 

1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء74، الصفحة 5.

2  التوحيد للشيخ الصدوق، الصفحة 339.

3 سورة الأعراف، الآية 172.

4 ديوان السيد رضا الهندي، الصفحة 17.

5 نهج البلاغة، الصفحتان 182-183

6 سورة البقرة، الآية 129.

7 سورة العلق، الآية 1.

8 سورة التوبة، الآية 33.

9 الخطبة الفدكية.

10 نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، الجزء 1، الصفحة 27.

11 سورة النازعات، الآية 30.

12 سورة النصر، الآية 1.

13 سورة النجم، الآية 39.

14 سورة الحج، الآية 37.

15 من شعر لحسان بن ثابت.

16 نهج البلاغة، الصفحة 500.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
نبي الله محمدمحمد رسول اللهالنور المحمدي

المقالات المرتبطة

الأنثروبولوجيا التعريف، الهدف، الاتجاهات النظرية

يقدم الباحث الدكتور أحمد ماجد في مقاله عرضًا موجزًا ومجملًا، للأنثروبولوجيا من بداية ظهورها واختلاف تلقياتها بين الأنظمة المعرفية،

إسرائيل الجديدة وتلك القديمة

في 12 أيّار 1948، دافع كلارك كليفورد، المستشار الأوّل للبيت الأبيض، عن الاعتراف بدولة إسرائيل أمام المجلس الوزاريّ المنقسم للرئيس هاري ترومان.

الشهيد الحاج قاسم سليماني: أيّ معنى لمسار الشهيد؟

إنّ الشهادة ترقّي في الوجود وليست خاتمة للوجود، لهذا كان الشهيد حيًّا ما بقي الليل والنّهار، وعنوان خلود ما طلعت الشمس وهبّ النسيم.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<