الفكر العربي الحديث والمعاصر | الجابري والنظرة إلى التراث العربيّ الإسلاميّ
يشكل موضوع التراث ومنهجية مقاربته نقطة محورية في مشروع محمد عابد الجابري، حيث أورد محمد الشيخ الرواية التالية، التي يتحدث فيها عن مرحلة تعليمه لمادة الفلسفة الإسلامية: “[و] بعد انتهاء دروسي عن فلسفة الفارابي، فتحلّق بي مجموعة من الطلبة كالعادة يسألون ويناقشون، وفجأة سألني أحدهم سؤالًا جعلني أشعر به كشخص نزل من السماء وأخذ مكانه وسط الطلاب المتحلّقين بي، لم يكن قد تكلّم من قبل والذي لم يثر انتباهي. وعندما تكلّم واجهني بهذا السؤال: “أستاذ: كيف نقرأ التراث؟”. لم أجب لأنّي فهمت الأبعاد التي صدر عنها هذا السؤال، ولم يكن من الممكن تقديم الجواب بكلمة أو كلمات ولا حتى بخطبة…فقد فهمت أنّه أراد أن يقول: “كيف تقرأ تراثنا العربي الإسلامي كما فعل فوكو في قراءته للتراث الفكري الفرنسي، وكيف نقرأ الفارابي بالطريقة نفسها التي قرأ بها التوسير ماركس؟”. من هنا شعرت أنّ سؤال هذا الطالب ليس من الأسئلة التي تطرح من أجل جواب فوري بل من أجل القيام بمهمة”[1]. يلاحظ من خلال ما ورد في الكلام السابق الروح الرسالية التي استخدمها الجابري، والذي رفع الجواب إلى مستوى المهمة، وهذا ما نجده عند ابن خلدون في نظريته حول العمران. على كلّ حال كان التراث نقطة البداية في مشروعه، الأمر الذي انعكس من خلال الكتاب الذي افتتح به مشروعه الفكري، الذي عنونه: “نحن والتراث”[2].
أولًا: في تحديد ماهية التراث: يبدأ الجابري مشروعه من خلال تحليل مفهوم التراث، حيث اعتبر أنّ هذا المفهوم لم يعرف في التراث العربيّ الإسلاميّ، وحتى وإن استخدم فإنّ محمولاته الأيديولوجية وشحناته الوجدانية: “يجعله غير قابل للنقل”[3]، ومن أجل إثبات ذلك يذهب إلى التراث الإسلاميّ، ويبدأ باستعراض كيفية ورودها فيه، ويجعل من المعجمية نقطة انطلاق، حيث نجد لفظة التراث مشتقة من مادة (و.ر.ث) وعي: “تطلق على ما يرثه الإنسان من والديه من مال أو حَسَب، وقد فرّق بعض اللغويين القدامى بين “الورث” و”الميراث” على أساس أنّهما خاصان بالمال وبين “الإرث” على أساس أنّه خاص بالحسب. ولعلّ لفظ “تراث” هو أقل هذه المصادر استعمالًا وتداولًا”[4]. وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم: ﴿كلا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾[5]، وقد فسّر الزمخشري التراث بـ: “المال الذي تركه الهالك وراءه”[6]. ووردت كلمة “ميراث” مرتين في عبارة: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[7]، وهي بمعنى: “أنّه يرث كلّ شيء فيها لا يبقى منه باق لأحد من مال أو غيره”[8]، وفي الفقه الإسلاميّ: “أما في الفقه الإسلامي حيث عَنِي الفقهاء عناية كبيرة بطريقة توزيع تركة الميت على ورثته حسب ما قرره القرآن (باب الفرائض)، فإنّ الكلمة الشائعة والمتداولة لدى جميع الفقهاء هي كلمة ” ميراث”… أما لفظ التراث فلا نكاد نعثر له على أثر في خطابهم… وأما في الحقول المعرفية العربية الإسلامية الأخرى، مثل الأدب وعلم الكلام والفلسفة، فلا تحظى فيها كلمة تراث بأي وضع خاص، بل إننا لا نكاد نعثر لها على ذكر”[9].
فالجابري يؤكد أنّ كلمتي “التراث”، و”الميراث” لم تستخدم في شؤون الفكر والثقافة بالمعنى المتعارف عليه في التداول المعاصر، حتى أنّها لم تستخدم كاسم دال على أثر السلف في الخلف، فقد كانت غائبة تمامًا عن المجال التداولي، أو الحقل الدلالي، لكلمة تراث ومرادفاتها. فعندما يتحدث الكندي مثلًا: “في مقدمة رسالته المعروفة بـ “كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأول”، عن فضل القدماء، وواجب الشكر لهم، وضرورة الأخذ عنهم- في مجال العالم والفلسفة- لا يستعمل العبارة الشائعة لدينا اليوم، عبارة “تراث الأقدمين”، بل يستعمل تعابير أخرى مثل: “ما أفادونا من ثمار فكرهم”[10]، وبالمثل نجد ابن رشد في كتابه “فصل المقال” يستعمل في المعنى نفسه عبارات تخلو تمامًا من كلمة “تراث” أو ما يرادفها. يقول مثلًا: “فبين أنّه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك”[11]“[12].
بعد أن استعرض الجابري مفهوم التراث في اللغة العربية، ينتقل إلى اللغات الأجنبية، وهناك يلاحظ أنّ هذه الكلمة في اللغتين الفرنسية والإنكليزية (Le patrimoine/ l’héritage)لا تأخذ معنى الموروث الحضاري والثقافي التي تستخدم في الفكر العربي الإسلاميّ المعاصر: “لا يكاد يتعدى حدود المعنى العربي القديم للكلمة، والذي يحيل أساسًا على تركة الهالك إلى أبنائه. نعم لقد استعملت كلمة l’héritage بالفرنسية في معنى مجازي للدلالة على المعتقدات والعادات الخاصة بحضارة ما، وبكيفية عامة “التراث الروحيّ”، ولكن، حتى في هذه الحالة، يظل معنى الكلمة فقيرًا جدًا بالقياس إلى المعنى الذي تحمله كلمة تراث في الخطاب العربي المعاصر. إنّ الشحنة الوجدانية والمضمون الأيديولوجي المرافقين لمفهوم التراث كما نتداوله اليوم، تخلو منهما تمامًا مقابلات هذه الكلمة في اللغات الأجنبية المعاصرة التي نتعامل معها”[13]، وهذا ما يضعنا أمام حقيقة أنّ هذا المفهوم: “كما نتداوله اليوم، إنّما يجد إطاره المرجعيّ داخل الفكر العربي المعاصر ومفاهيمه الخاصة، وليس خارجهما”[14]، وهذا ما يجعل مقاربتنا للموضوع يدخل في الخاصية الذاتية للمجتمعات العربيّة الإسلاميّة، وهي تحمل همّ الذات المتوارثة وكيفية التعامل معها على ضوء الأسئلة التي تطرحها الحداثة. فالتراث: عملية الاحتماء بالماضي والتمسك بالهوية تحت ضغط التحديات الخارجية، فأصبح “التراث” هنا مطلوبًا ليس فقط من أجل الارتكاز عليه والقفز إلى المستقبل،، بل أيضًا وبالدرجة الأولى من أجل تدعيم الحاضر: من أجل تأكيد الوجود وإثبات الذات”[15].
بالتالي، يُثمر الجابري هذا المصطلح، ويعيد بناء تعريفه، فيقربه من مفهوم Culture ومفهوم المعرفي أو الإبستيمي Epistimé، ليصبح قابلًا للاشتغال في مشروعه، فالتراث يشكل الذاكرة بسعتها الواعية واللاواعية التي يختزنها العقل العربيّ الإسلاميّ، وهو المعرفة التي تسيّر المثقف، وتعطي المعنى للقضايا الذهنية والمعرفية والدينية والجمالية للأمور المعاصرة، بالتالي تُصبح كلّ ما تركه الأجداد والآباء من معارف وآداب، وعلوم، وتقنيات وتجارب تتعلق بالواقع، فهي إذًا: “الموروث الثقافي والفكريّ والدينيّ والأدبيّ والفنيّ”[16].
ثانيًا: آلية التعامل مع التراث العربيّ الإسلاميّ: الإجابة الأولية لتعريف التراث عند الجابري، تستدعي الآن، الانتقال من التعريف إلى آلية التعامل مع التراث الثقافي، فهل علينا أن نقبل كلّ الوارد إلينا، أم نحن بحاجة إلى إعادة تقويم هذا التراث، بالتالي محاكمته ودرسه من جديد؟ يبدأ الجابري ردّه على هذا السؤال بتأكيد التعاطي مع التراث انطلاقًا من نظرة نقدية، ويقول معلقًا على ذلك: “نحن لا نمارس النقد من أجل النقد بل من أجل التحرّر مما هو ميت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافيّ”[17]، وهذا الموقف يقتضي قبل الدخول في موضوع منهجية التعامل مع التراث الذهاب باتجاه المدارس الفكرية التي تعاملت مع التراث لتقييمها والعمل على إبراز نقاط الضعف فيها، وعلى هذا الأساس، يعتبر الجابري أنّ هناك ثلاث اتجاهات رئيسية في قراءة التراث الإسلاميّ، وهي:
أ. النظرة التقديسية: تتمثل هذا النظرة بالرؤية السلفية القائمة على إحياء الماضي، وهي تتعامل مع التراث بطريقة ماضوية، وهي تصدر أحكامها من قراءة دينية للتاريخ، تجعله: “ممتدًا في الحاضر منبسطًا في الوجدان”[18]، تستحضر الذات من أجل إثباتها وتأكيدها: “ولما كانت الذات تتحدد بالإيمان والعقيدة، فلقد جعلت من العامل الروحيّ العامل الوحيد المحرك للتاريخ”[19]، بالتالي فهذه المقاربة هي مقاربة لاتاريخية، تقوم على تكرار ما تمّ إنتاجه، وهي لا يمكن أن تكون وسيلة ناجحة للنهوض الحضاريّ، ويعود سبب ذلك إلى آفتين اثنتين: غياب الروح النقدية، وفقدان النظرة التاريخية. وطبيعي، والحالة هذه، أن يكون إنتاج هؤلاء هو “التراث يكرر نفسه”[20]، وهذا ما يجعل من هذه النظرة محتواة من التراث، أما هي فتبقى عاجزة عن احتوائه أو تقديم نظرة جديدة للحياة.
ب. النظرة الاستشراقية: يحلل فيها الجابري قراءة المستشرقين للتراث العربي الإسلامي، أو الدارسين العرب التابعين لهم من جهة أخرى، هؤلاء الدارسين، الّذين ينظرون: “إلى التراث العربيّ الإسلاميّ من الحاضر الذي يحياه، حاضر الغرب الأوروبيّ، فيقرأه قراءة أوروباوية النزعة، أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوروبية، ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبيّ”[21].
هذه النظرة، تقوم على ترجيح العقل الغربي على حساب العقل العربيّ الإسلاميّ، وهو ما يشي بنظرة متعالية، بدأت بالظهور في الحضارة الغربية، ورفضت الاعتراف بالفلسفة الإسلامية لقصور هذا العقل عن التجريد[22]، والانتقاص من علم الكلام والتصوف الإسلامي؛ لأن العقلية السامية غير قادرة على التجريد، والتركيب، وبناء الأنساق الفلسفية الكبرى وجودًا ومعرفة وأخلاقًا.
فالمستشرق الغربي لم ينظر إلى الذوات الأخرى وخصوصيتها، فهو كان يعيش شمولية حضارية، يرى كلّ شيء انطلاقًا من محورية الحداثة الغربية، لذلك فهو عندما نظر إلى الفلسفة الإسلامية، لم يرها كيان ثقافي عام، هو الثقافة العربية الإسلامية، بل بوصفها امتدادًا منحرفًا أو مشوهًا للفلسفة اليونانية. وبالمثل، يفكر في النحو العربيّ ومدارسه، يوجهه هاجس ربطها بمدارس النحو اليونانية في الإسكندرية أو بِرغام وبيان تأثرها بالمنطق الأرسطي، كما قد لا يتردد في ربط الفقه الإسلامي، نوعًا من الربط، بالقانون الرومانيّ وما خلفه في المنطقة العربية من آثار وأعراف”[23]. وهذا الأمر انعكس في الساحة الفكرية العربية الإسلاميّة من خلال بعض الأقلام المتأثرة بهم: “فالصورة العصرية الاستشراقوية الرائجة في الساحة الفكرية العربية الراهنة عن التراث العربيّ الإسلاميّ، سواء منها ما كتب بأقلام المستشرقين أو ما صنف بأقلام من سار على نهجهم من الباحثين والكتاب العرب، صورة تابعة. إنها تعكس مظهرًا من مظاهر التبعية الثقافية، على الأقل على صعيد المنهج والرؤية”.[24]
وإذا غادرنا هذا النوع من المستشرقين، سنرى المستشرق الفيلولوجي، الذي يبحث عن جذور جينيالوجية للثقافة العربية الإسلامية العربية في الحضارات الأخرى: “فهو عندما يتجه إلى الثقافة العربية الإسلامية، بنظرته التجزيئية، لا يعمل على ردّ فروعها وعناصرها إلى جذور وأصول تقع داخلها، أو على الأقل مقروءة بتوجيه من همومها الخاصة، بل هو يجتهد كل الاجتهاد في ردّ تلك الفروع والعناصر إلى “أصول” يونانية، أو عندما تعوزه الحجة إلى “أصول” هندو أوروبية، الشيء الذي يعني المساهمة، ولو بطريقة غير مباشرة، في العملية نفسها، عملية خدمة “النهر الخالد”، نهر الفكر الأوروبي الذي نبع أول مرة من بلاد اليونان”[25]. فالمستشرق الفيلولوجي يؤكد ما ذهب إليه الأول والمتمثل بالمركزية الغربية.
أما المستشرق الذي يستخدم المنهج الذاتوي في دراساته وأبحاثه، فيميل إلى شخصيات معينة، فيتعاطف معها دفاعًا ومناصرة ومؤازرة، من دون أن يدلي في ذلك بحجج موضوعية، ترجح وجهة نظره الصائبة، وتقنعنا بأطروحته الفكرية أو تصوراته الحجاجية. وفي هذا السياق، يقول محمد عابد الجابري: “أما المستشرق صاحب المنهج الذاتويّ فإنّه على الرغم من تعاطفه مع بعض الشخصيات الإسلاميّة، كتعاطف ماسينيون مع الحلاج، أو هنري كوربان مع السهروردي، فإنّه يبقى مع ذلك موجهًا من داخل إطاره المرجعيّ الأصلي، إطار المركزية الأوروبية، مشدودًا إليه، غير قادر ولا راغب في الخروج عنه، أو القطيعة معه. إنّه إذ يتمرد على حاضره الأوروبي، يتمسك بماضيه، فيعيشه رومانسيًا عبر تجربة هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات الروحانية في الثقافة العربية الإسلامية. وقد يذهب إلى أبعد من هذا فيطالب، من خلال تلك التجربة، استعادة روحانية الغرب مما لدى الشرق”[26].
الرؤية الاستشراقية رؤية منهجية، تريد أن تفهم تراث الحضارات انطلاقًا من تراثها: “تقول القراءة الاستشراقية أنّها تريد أن “تفهم” ولا شيء غير ذلك. ولكن ماذا تريد أن تفهم؟ تريد أن تفهم مدى “فهم” العرب لتراث من قبلهم. لماذا؟ لأنّ العرب الذين كانوا واسطة بين الحضارة اليونانية والحضارة الحديثة (الأوروبية) إنّما تتحدد قيمتهم بهذا الدور نفسه، الشيء الذي يعني أنّ المستقبل في الماضي العربيّ كان في استيعاب ماض غير الماضي العربي (ثقافة اليونان بكيفية خاصة)، وبالمقايسة يصبح المستقبل في الآتي العربي مشروطًا باستيعاب الحاضر- الماضي الأوروبي”[27].
ج. النظرة الماركساوية: تعتمد الماركسية على المادية التاريخية في تعاملها مع التراث، وهي صورة أيديولوجية لمفهوم التراث، وتشتغل بدورها ضمن الرؤية المركزية الأوروبية، ويمثل هذه النظرة على سبيل التمثيل: حسين مروة، والطيب التزيني، ومحمود إسماعيل– مثلًا-…. وتمتاز هذه الصورة الماركسية عن الصورة الاستشراقوية: “بكونها تعي تبعيتها للماركسية، وتفاخر بها. ولكنها لا تعي تبعيتها الضمنية للإطار نفسه الذي تصدر عنه القراءة الاستشراقوية لتراثنا. إنّ المادية التاريخية التي تحاول هذه الصورة اعتمادها، كمنهج مطبق، وليس كمنهج للتطبيق، مؤطرة هي الأخرى داخل إطار المركزية الأوروبية: إطار عالمية تاريخ الفكر الأوروبي، بل التاريخ الأوروبي عامة، واحتوائه لكلّ ما عداه، إنْ لم يكن على صعيد المضمون والاتجاه، فعلى الأقل، وهذا أكيد، على صعيد المفاهيم والمقولات الجاهزة. وهذا يكفي ليجعل الصورة الماركسية لتراثنا العربي الإسلامي تقوم هي الأخرى على الفهم من خارج لهذا التراث، مثلها مثل الصورة الاستشراقوية سواء بسواء” [28].
فهذا الفكر بالنسبة للجابري تخلى عن دوره في قرءاة ذاتية للتراث، فهو “تائه” يدور في حلقة مفرغة: “الفكر اليساري العربي المعاصر لا يتبنى – في تقديرنا – المنهج الجدلي كمنهج لـ “التطبيق”، بل يتبناه كمنهج مطبق. وهكذا فالتراث العربيّ الإسلاميّ يجب أن يكون انعكاسًا للصراع الطبقيّ من جهة، وميدانًا للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى. ومن ثمة تصبح القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف وتحديد المواقع في هذا الصراع المضاعف، وهذا ما حدث، وهذا ما يقلقه ويقض مضجعه، ألقى باللائمة على التاريخ العربيّ غير المكتوب، أو تذرع بصعوبة التحليل أمام هذا التعقيد البالغ الذي تتصف به أحداث تاريخنا.. وإذا أصرّ بعض المنتمين إلى هذا الجناح على اقتحام الصعاب فصّلوا الواقع التاريخيّ على القوالب النظرية. وفي هذه الحالة فإذا لم يسعفهم الصراع الطبقي. قالوا بالتواطؤ التاريخي، وإذا لم يجدوا مادية قالوا بالهرطقية”[29].
وعليه تعاني القراءات العربية الإسلامية من خلل كبير، وهذا يزهر في مستويين:
- فمن ناحية المنهج تفتقد هذه القراءات إلى الحدّ الأدنى من الموضوعية.
- من ناحية الرؤية تعاني كلّها من غياب النظرة التاريخية.
فما هو المنهج المناسب لحلّ هذه الإشكالية، هذا ما سنتطرق إليه في الأسبوع المقبل.
مصادر البحث:
[1] محمد الشيخ، محمد عابد الجابري – مسارات مفكر عربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011)، الصفحة 17.
[2] محمد عابد الجابري، نحن والتراث – قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993).
[3] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، ضمن كتاب المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1986)، الصفحة 72.
[4] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[5] سورة الفجر، الآيات من 17- 20.
[6] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 72.
[7] سورة آل عمران، الآية 180. وسورة الحديد، الآية 10.
[8] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 72.
[9] المصدر نفسه، الصفحتان 72-73.
[10] الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق: محمد عبد الهادي أبو ريدة، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1976)، الجزء 1، الصفحة 32.
[11]ابن رشد، فصل المقال، ضمن كتاب فلسفة ابن رشد، تحقيق: مصطفى عبد الجواد عمران، (القاهرة: المكتبة المحمودية التجارية)، الصفحة 12.
[12] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحتان 72-73.
[13] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 74.
[14] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[15] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 76.
[16] المصدر نفسه، الصفحة 74.
[17] محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي، (الدار البيضاء: دار النشر المغربية)، الصفحتان 7 – 8.
[18] محمد عابد الجابري، نحن والتراث – قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، مصدر سابق، الصفحة 13.
[19] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[20] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[21] المصدر نفسه، الصفحة 14.
[22] هذه الوجهة نجدها عند أرنست رينان الذي اعتبر العقل الإسلاميّ قاصرًا عن إنتاح القضايا المجردة لتعلقه بالمحسوس، وهذا يعود إلى الطبيعة السامية لهذا العقل.
[23] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 80.
[24] المصدر نفسه، الصفحة 81.
[25] المصدر نفسه، الصفحتان 80 -81.
[26] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 81.
[27] محمد عابد الجابري، نحن والتراث – قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، مصدر سابق، الصفحة 14.
[28] محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، مصدر سابق، الصفحة 81.
[29] محمد عابد الجابري، نحن والتراث – قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، مصدر سابق، الصفحة 14.
المقالات المرتبطة
الليبرالية أم الواقعية، أي النظريتين أقرب إلى السياسة الخارجية العراقية؟
يستلزم العمل المؤسسي أن يكون ضمن سياقات معينة مسبقة، ووفق خطط منهجية مدروسة بعناية من ذوي الاختصاص، معروفة المسارات المتبعة أو تلك التي ستتبع
الفكر الإصلاحي بين محمد عبده وفرح أنطون
عاش العالم العربي/الإسلامي صدمة حضارية مروعة، عندما وصل الجيش الفرنسي بقيادة “نابليون بونابرت” مصر واحتلها عام 1798
الفكر العربي الحديث والمعاصر | النّصّ وجدلية التفسير والتأويل عند أبو زيد
ينفتح النّصّ دائمًا على العديد من التأويلات، وكلّها مشروعة بدءًا بتأويلات المعتزلة وانتهاءً بتأويلات “ابن عربي”، وعلى هذا الأساس انحاز