الحقيقة الميتافيزيقية بين حس الطبيعة وحدس الوجود

by الشيخ حسن بدران | ديسمبر 10, 2021 1:52 م

يبدو أنه من التعسّف أن نقارب السؤال عن ماهية الميتافيزيقا في ظرف ملتبس لا يخلو تمامًا من الممارسة الميتافيزيقيّة، فمنذ البدء نجد الإشكالية ماثلة وتفترض تحديد خياراتنا على صورة اشتراط مسبق لأية إمكانيّة في التعريف. ذلك أن المفهوم نفسه ينتمي إلى بيئة تأمّلية ويرفض أن يتحدّد في موضوعات مؤطّرة مسبقًا. كما يبدو من العبث أن نذهب مباشرة لتحديد المدلول اللغويّ كما لو أنه يشكّل إضاءة أوّلية للمقصد، مع ما تخلّل ذلك من غموض في الترجمة والتعبير.

وإذا كان يتعيّن علينا أن نقارب الميتافيزيقا كظاهرة، وأن نضع في الحسبان كلّ ما قيل أو يمكن أن يقال عنها، فهنا فقط يمكننا الحديث عن دلالة الميتافيزيقا بطريقة موائمة، بأن نحدس ذلك النسق الذي يوحّد بين تلك الظواهر المختلفة والأقوال المتعدّدة عنها، ذلك أن هذه الدلالة تصطبغ في تطورها التاريخي بألوان من الاتجاهات والرؤى المتنوّعة، وتخضع للتغيير تبعًا لما يقع في قصد واهتمام كلّ مدرسة، إلّا أن ذلك يبقى صحيحًا فقط في إطار المواضعة، ولا يشكّل مدخلًا حقيقيًّا للتعريف إلّا بمقدار ما تتجلّى الميتافيزيقا نفسها على مسرح التاريخ وفي نطاق الوعي والوجود. من المعلوم أن المصطلح أطلق في الأصل على كتابات أرسطو التي نشرها أندرونيقوس الرودسي في القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدًا على المباحث التي تأتي بعد الطبيعيات في سياق الشرح والتصنيف، فقد تنبّه أرسطو إلى تعلّق المباحث الفلسفية بقسم خاص من الوجود، وهو الوجود الذي لا يتخصّص بخصوصية ما، ومذاك تحدّد أحد أهم مجالات البحث الفلسفي في الوجود بما هو وجود ذلك الذي لا يقع في مجال الخبرة المباشرة للإنسان، لذلك تبحث الميتافيزيقا في الـ “مابعد” والـ “ماوراء”، وليست البعدية هنا بعدية مجاوزة إلى ماوراء عالم المحسوسات بالضرورة، بل هي البحث عن جوهر الوجود الشامل.

ومع أن البحث في الطبيعي متقدّم على البحث في الميتافيزيقي تقدّم المحسوس على المعقول في الإيضاح والشرح، إلّا أن أرسطو يولي أهمّية فائقة للميتافيزيقيا، ويقدّمها على غيرها من العلوم من حيث الرتبة. وقد تبحث الميتافيزيقا باعتبار آخر عن الحقائق المجرّدة والثابتة فيما وراء الطبيعة، وليس في ذلك تجاوز إقصاء بالضرورة طالما أنها تقوم في إيمان أتباعها على أن الحقيقة متجلّية بتمامها في ذلك الماوراء. وقد تمّ تداول المصطلح في الجانب الإسلامي في كلا الاعتبارين، وأشير به إلى الإلهيات بالمعنى الأعم؛ حيث يتمّ البحث عن الأمور المستغنية عن المادة مفهومًا ومصداقًا(1)[1]، وإلى الإلهيات بالمعنى الأخص؛ وهي الأبحاث التي تدور حول الله وصفاته وأفعاله. فالميتافيزيقا إسلاميًّا، تقع فوق الطبيعة حين تبحث عن أمور غير مشروطة بالمادّة (بلا شرط من المادة). وقد تقع مقابل الطبيعة؛ وذلك حين تبحث عن أمور مجرّدة عن المادّة (بشرط لا من المادّة). ويطلق على كلا القسمين اسم الإلهيات بنحو الاشتراك اللفظي. ويُطلق على مجموعهما اسم الفلسفة الأولى والتي موضوعها هو مطلق الوجود، لا الوجود المطلق(2)[2]. وعليه تقع الرؤية الميتافيزيقية الباحثة في أحوال المجرّدات في مقابل الرؤية المادّية. فيما تقع الرؤية الميتافيزيقية الباحثة في أحوال الوجود بما هو وجود في مقابل الرؤى العلمية المختلفة بوصفها بحثًا في صنف خاص من الموضوعات. أما ارتباط الطبيعي بالميتافيزيقي، فلم يتجاوز في الفلسفة الإسلامية سياق الشرح بحكم الضرورة التعليمية، أو سياق الترسيم للهندسة الكونية التي تحيل في البدء والعود إلى المرجعية الإلهية. وسواء اعتبرت الميتافيزيقا كمبحث في الوجود العام، أو في حدود القضايا المجرّدة، فقد ساد الوئام إلى حد كبير بين مقولات الفلسفة ومقولات الدين على مدى عصور طويلة، ذلك أن كلّ منهما يستند إلى مقولة الإيمان؛ فالبحث في الفلسفة الأولى هو العلم الأرقى، ولأنه كذلك؛ كان لا بدّ من السعي لأجل التوفيق بين الدين والفلسفة، العقل والنقل. ويرتد المفهوم بذلك إلى البحث عن العلل الأولى ومبادئ الوجود. ولن ينغّص صفو هذا التقارب وجود بعض الاعتراضات الشاجبة؛ فإن سهام النقد (الغزالي، ابن تيمية..) لن تطال الأرضية الصلبة لجوهر الإيمان الذي يقوم عليه كلّ من الدين والميتافيزيقا. وقد اقتصر الانشغال الميتافيزيقي في القرون الوسطى، ولدى الفلاسفة اللاهوتيين، على موضوعات دينية بحتة من قبيل: الله، الروح، الخلود.. ونحوها ممّا يشكّل أبحاث “الحكمة” بنظر القديس أوغسطين. والميتافيزيقا هنا تقع في مقابل الطبيعة، وليس فوقها، وتبحث عن الحقيقة فيما وراء الأشياء. ولا ينبغي أن يفهم هذا التجاوز كما لو أنه انحسار للاعتبار الشمولي السابق، بمقدار ما هو حديث عن الحقيقة نفسها ولكن في السياق اللاهوتي الفلسفي. وقد ظل هذا الإيمان ثابتًا إلى بدايات عصر النهضة الأوروبية، وتحديدًا مع ديكارت ومجاوزته للشمولية الكونية المؤسّسة على صعيد الوجود، إلى الشمولية المعرفية المؤسّسة على صعيد النفس البشرية، تلك المعرفة التي ينبغي أن تبنى عليها معرفة الله، والطبيعيات، والرياضيات.. وهي المعرفة الكاملة التي تكشف لنا تجرّد نفوسنا، وتفسّر لنا القيم الإنسانية.

فالميتافيزيقا هنا، بمثابة الجذور في شجرة العلوم، تلك الشجرة التي تشكّل الفيزياء جذعها، والمنطق والأخلاق والميكانيكا فروعها. والميتافيزيقا هنا قائمة في العلم بالنفس الإنسانية، وفي النظام الهندسي للمعرفة، وهي معرفة كاملة كونها تمثل الجذور التي تنبثق عنها سائر المعارف الأخرى. ونجد سؤال الميتافيزيقا مطروحًا بقوّة في عصر كانط. وسوف تتحوّل الميتافيزيقا مع نقوده العقلية، إلى مشروع نقدي يتجاوز البحث عن الوجود، ويتخذ منحًى تأسيسيًّا في الكشف عن مناطق نفوذ العقل وحدود عمله. وتتمثّل الميتافيزيقا الكانطية في التصورات التي تتولد من داخل العقل بفعل النقد، وليس من الخارج، فهي قبليات سابقة على التجربة، وهي مع ذلك شرط في أي معرفة تجريبية. ومع هيجل والمثالية الألمانية تستعيد الميتافيزيقا مدلولها التقليديّ لتبحث فيما “وراء الطبيعة”، وهي تتمثّل الواقع الماورائي نفسه في المطلق، وأحيانًا على شكل قوانين مستفادة من الواقع وقابلة للتعميم على المجالات الاجتماعية والتاريخية كافة. ومع هايدغر تعود الميتافيزيقا إلى الفلسفة لتبحث عن الموجود في الوجود، عن الإنسان وهو يخضع للمساءلة الميتافيزيقية دومًا في مواجهة قضاياه الكبرى، الوجود والموت والزمن.. ويبدو أنه لم يتبلور المصطلح كرؤية في النطاق الفلسفي إلّا على أثر الاحتكاك بالعلم بمفهومه الوضعي، وسياقاته المنطقية والتحليلية. فقد اعتبر الوجود بما هو وجود غير ذي معنى؛ لعدم إمكان التحقق منه بالوسائل التجريبية.

إن الوجود بما هو وجود ليس شيئًا من أشياء هذا العالم بحيث يناله الحس، بل هو استنتاج عقلي وضرورة نسقية، وأقصى ما يملك الباحث فيه هو أن يقبل به في نفسه، ويرتضيه في دخيلته، دون أن يكون قابلًا للبرهنة أو الإثبات بالطرق التجريبية. ولم يقتصر النقد على شيئية الوجود، وإنما امتدّ إلى النظام المنطقي الذي انبثق عنه. إذن، ومع تبلور الفلسفة العلمية بكافة أشكالها وتداعياتها، يتخذ النقد وجهة مختلفة تدعو إلى مجاوزة مفهوم الميتافيزيقا نهائيًّا، ذلك المفهوم القائم على الإيمان بالحقيقة المطلقة، فإن الحقيقة كما هي في ذاتها، والتي تتشكّل منها الهوية الميتافيزيقيّة لن تعود شيئًا علميًّا، أو شيئًا ذا معنى إذا ما قيست إلى الخبرة المباشرة ومبدأ التحقّق العلمي. وحيث إن الميتافيزيقا متناقضة مع العلم التجريبي، لهذا لن يمكن الجمع بينهما أبدًا. ومع كارل بوبر سوف يكفّ الهاجس العلمي عن الانهماك في دحض الميتافيزيقا، وسوف يتعرّض مبدأ التحقّق إلى النقض؛ ذلك أن هذا المبدأ غير قابل للتحقّق، ولذلك تجاوزه بوبر إلى مبدأ التكذيب. ويبدو أن فعل التجاوز اليوم منهمك بالإفلات من قبضة هيجل التي تكبّل فكر اللاحقين، ويتمثّل ذلك من خلال طموح واعد إلى مجاوزة الميتافيزيقا نفسها عبر التقنية الوادعة! إن الفلسفة لا تقدّم أي معرفة جديدة، هي فقط نشاط نقدي يسائل المعارف الأخرى ويفحصها، وهي تبحث في الواقع وفي ما يتجاوزه، وتضفي المعنى على الوجود الإنساني وعلى التاريخ. وتأبى الميتافيزيقا بوصفها ذات طالع شمولي عن قبول التجاوز، ذلك أن التجاوز والأفول هي من خصائص الخبرة المحدودة للنظريات العلمية، والفلسفات الماهوية، فإن كافة العلوم تصاغ عبر منطق يؤسّس لها، باستثناء الميتافيزيقا فهي تضع منطقها بنفسها.

إن فلسفة الوجود تعطي التعبير الكامل عن الميتافيزيقا، وذلك بوصفها جهدًا عقلانيًّا يتوخّى إبراز الوجود أو إلماحه، وتجاوز كلّ ما يمكن أن يحول دون ذلك.

إن فعل التجاوز الذي مارسته الميتافيزيقا على امتداد تاريخ الفكر، من كونها بحثًا في الوجود العام، إلى البحث عن قضايا تتعلّق بالله والحرية والأخلاق والروح، والخلود .. أو اعتبارها بحثًا في جذور المعرفة الإنسانيّة، وقبليات العقل النقدي، أو تماهيًا مع الأخلاقي، والفني.. هو في مجمله فعل اغتراب يعمل في دائرة الوعي اللامحسوس واللامباشر، أو هو فعل خداع وتضليل هادف في نفس الآن، فالميتافيزيقا تحكم قبضتها بقوّة على عنق التاريخ والوعي البشريين، وحين تأخذ بالانسحاب والأفول فإنها تفعل ذلك لاعتبارات أقوى، لا أقلها المزيد من إحكام السيطرة وتثبيت الهوية، وفي سبيل ذلك تختبئ وراء الأشياء المعلنة والمباشرة. ويبقى هذا النشاط ضرورة قائمة كشرط لإنتاج المعرفة الحقيقية التي تشبع نهم الوجود في كليته.

الميتافيزيقا كنمط في المعرفة

ينصبّ جهد الميتافيزيقا في الفلسفات القديمة عمومًا على إدراك الواقع الحقيقي من خلال تنحية الواقع العابر، ذلك الواقع الذي نعلم به من خلال ما يرتسم منه في مداركنا، أو عن طريق ما نحدسه في ذواتنا، قبل أن يقوم العقل بإطلاق أحكامه عليه، لذلك يتخذ البحث في الميتافيزيقي منحًى معرفيًّا، وتتنوع الطرق والوسائل الموصلة إليه، بحيث نلحظ هذا التنوّع مقارنة مع الطرق المعهودة في الفلسفات القديمة وعلى مختلف مسارات التاريخ الفلسفي الموروث. والحقيقة هي الحقّ والصدق، مقابل الباطل والكذب. ويعتبر سؤال الحقيقة وملاك الصدق والكذب في القضايا أحد الأسئلة الأساسية في الفلسفة، والحقيقة هنا هي في تطابق الفكر مع الواقع، وتوافق الإدراك والمدرَك، الذهن والعين. إن وجود الخطأ يكشف عن عدم مطابقة الفكر للواقع، وتصحيح الفكر يكون بمقايسته إلى الواقع، وبالأصح مع عدم تناقضه معه. والحقائق التي يهدف الفيلسوف إلى معرفتها وتخليصها من الوهم والاعتبار هي المعلومات التي تتطابق مع الموجودات الواقعية، والحقيقة لا تكون كذلك إلّا لأنها إحالة معيارية تجد مرجعيتها في ذلك التطابق مع الواقع حصرًا. ويعتبر تفسير الحقيقة وفق نظرية التطابق هذه من العلامات الفارقة للفلسفة الميتافيزيقية. وقد واجه هذا التفسير اعتراضات شتى، وطرحت بدائل ذات معايير محدّدة لا تنهض على أساس واقعي، كالقول بأن الحقيقة ما تفيد فائدة (الذرائعية)، أو ما تتفق عليه الأذهان في زمان واحد (الإجماع)، أو هي مجموع الحقائق الجزئية التي أعيد بناءها وفقًا لمنطق اللغة (السيمونطيقية).. إلّا أن الحقيقة لا تخضع للاعتبار والمواضعة، ذلك أنها تتسم بالواقعية، وأي تحوير في ذلك سوف يوقعنا في وحل السفسطة حسب تعبير مطهري(3)[3]. ولهذا لا بدّ من توكيد هذه النظرية، وإقرار الحقيقة نهائيًّا وفق معيار المطابقة. وعلى الفلسفات أن تنصرف إلى استجلاء طبيعة هذا الواقع المُحال عليه لا غير. ومنذ وقت مبكر من تاريخ الفلسفة المعلن، تركّز البحث عن الحقيقة في جوهر الأشياء الثابتة والتي تقع في مجال الإدراك العقلي، مقابل الأعراض المتغيّرة والمتحوّلة والزائلة والتي تقع في مجال الإدراك الحسّي، فالحقيقة هي الشيء الثابت قطعًا ويقينًا، في مقابل المتغيّر والزائف والمتحوّل.. ولا بدّ من تجاوز المحسوسات إلى المعقولات كشرط في إنتاج المعرفة الحقيقية.

إن الإعلاء من شأن العقلي على الحسّيّ هو علامة فارقة لانطلاق المشروع الفلسفيّ. فالمعرفة الحقيقية هي تلك التي تنبعث من المدركات العقلية. والعقل هو الوسيلة المأمونة لمعرفة حقائق الأشياء كونه يشكّل أساسًا مشتركًا بين جميع الناس، بخلاف المعرفة الحسّيّة التي لا تملك القدرة على استجلاء الحقائق، ولا تقوم على أساس مشترك بين الناس. وقد تمثّلت الحقيقة عند أفلاطون كنموذج مثالي مفارق، وما العالم الحسّيّ سوى انعكاساته وظلاله.

إن إدراك حقائق الأشياء المجرّدة عن المادّة يرتكز إلى المعرفة الحقيقية القائمة على اليقين، أما موضوع المعرفة الحسّية (ظواهر الأشياء والأمور النفسانيّة) فلا تصلح أن تكون سبيلًا للمعرفة الحقيقية؛ لأنها تنقل لنا الصيرورة الدائمة والتغيّر المستمر. فيما شدّد أرسطو على التمييز بين وظيفة العقل ووظيفة الحواس، وذلك على أساس أن الحواس تتأثّر بالصور الحسّية في علاقاتها الزمانية والمكانية، بينما يتأثّر العقل بالصور العقلية المجرّدة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ومع ذلك، لم يرتضِ أرسطو أن يكون أحدهما مجرّد انعكاس للآخر، بل الحقيقة عنده متمثّلة كاملة في هذا العالم، وهي تدرك فقط من خلال العقل؛ ذلك أن الطبيعة النوعية والجوهرية للشيء لا تقع في مجال الحواس.

إن ثنائية النظر هذه وفق أفلاطون وأرسطو سوف تظل عنصرًا ثابتًا في مجمل النشاط الفلسفي الإسلامي. ففي الاتجاه الأرسطي، نجد الكندي يميّز الإدراك العقلي بوصفه تصديقًا عن الإدراك الحسّيّ بوصفه تصوّرًا، ويجعل موضوع الإدراك العقليّ هو الأشياء الكليّة من أجناس وأنواع؛ فإنّ كل ما هو معنى نوعي وما فوقه ليس متمثّلًا للنفس بل هو مصدّق أو محقّق بفضل المبادئ والأوّليات العقلية الضروريّة، كالتناقض، والذاتية، والتساوي.. أمّا موضوع الإدراك الحسّي فهو الجزئيّات أو الأشخاص الهيولانية المتمثّلة في النفس، وهي تتغيّر وتفسد دائمًا، وتتعرّض لأنواع الحركات والزيادة والنقصان(4)[4]. وتتركّب المعرفة الحسية عند الفارابي من فعل بدني يقتضي اتصال الإنسان المباشر بالأشياء والمحسوسات، وفعل نفساني هو نفس الإحساس. ولا بدّ من الجمع بين اكتساب المعرفة من خلال الحس الظاهر، والحس الباطن، وإيصالها إلى المعرفة العقلية. والحس عند ابن سينا هو أول درجات الفهم الإنساني، ويختصّ بما هو موجود خارجي، جزئي، محسوس بصورته ومادته. فيما يختص العقل بالمعاني الكلّية المجرّدة عن المادة، ومهمة العقل تجريد الصورة عن المادة، ثم جمع الأشياء المختلفة في نسق واحد، وهو يؤلف من كلّ مجموعة من الأجناس والفصول معنى واحد(5)[5]. والسمة الغالبة على مجمل النشاط الفلسفي هنا، هو أن جوهر الأشياء هو ما يقع في مجال الإدراك العقلي، ولا بدّ في سبيل حيازة هذا النوع من المعرفة من تجاوز كلّ ما هو عرضي متغير وزائل مما يقع في مجال الإدراك الحسي. وقد غلب استعمال الحقيقة بهذا المعنى في التداول الفلسفي القديم وصولًا إلى المشائية الإسلامية. وفي الاتجاه الأفلاطوني، نجد في فكر التابعين مراجعات مكثّفة لما قرّره أفلاطون من أن البحث عن الحقيقة لا يعدو إيقاظ النفس وإثارة ما يوجد فيها بالطبع، ذلك أن معرفتنا بالأشياء هي في الحقيقة استذكار للمثل، كما أن الجهل نسيان لها: “العلم تذكر والجهل نسيان”(6)[6]. ولا بدّ من متابعة الحكمة الروحية التي نطق بها الحكماء الأقدمون، وتكفّل بشرحها الفلاسفة المتأخرون؛ إذ مهمّة الفلسفة هنا هي في شرح الحقيقة وتبيينها. ويعدّ القرن الثالث الميلادي عصر الشرّاح، وأفلوطين نفسه كان من هؤلاء الشرّاح، فهو يقول في التاسوعات: “نظرياتنا ليس فيها جديد، وليست من اليوم، فقد أعلنها (الفلاسفة القدماء) قبل وقت طويل، ولكن دون أن يتبسّطوا فيها، ولسنا نحن إلا شرّاح هذه المذاهب القديمة”(7)[7]. وفي متابعته لهذا المنحى يرى أفلوطين أن العالم المحسوس هو ظل وانعكاس للعالم العقلي الحقيقي، وهو يعتبر أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة الروحية التي تحصل لبعض الأشخاص الذين يتميّزون بنفاذ بصيرتهم، فتشملهم العناية والإشراف الإلهي، فيرتفعون بسبب هذه المعرفة إلى العالم الأعلى، وطريق هذه المعرفة هو الوجدان والحدس المباشر في إدراكه للحقيقة المطلقة (الواحد)(8)[8]. ويشير الفارابي إلى أن للروح قوى أخرى لا تتصل بفعل العقل النظري؛ لأنها من السّر وليست من العلن، ولا تبدو وتتبيّن إلا بتخلّص الفرد من جانبه الظاهري، أي من الغضب والشهوة، للتحقّق بمعرفة لدنية عليا(9)[9]. أما ابن سينا فيرى أن مثل هذه المعرفة لا تحصل إلا لأصحاب النفوس الطاهرة والقلوب الصافية التي تتلقّى عن الله دون واسطة من حس أو عقل، فتشرق عليهم الأنوار القدسية، فيسعدوا بها سعادة أبدية. والذي يعين على ذلك هو التفكّر في الله دون سواه، وعشقه عشقًا منزّهًا، ولا يمكن هذا العشق بأداة غير القلب. والكمال الحقيقي – عند السهروردي – إنما يحصل بالعلم الحقيقي الثابت بحسب ثبات معلومه. والعلوم الحقيقية تنقسم إلى قسمين: ذوقية كشفية، وبحثية نظرية. والعلوم الذوقية هي عبارة عن معاينة للمعاني والمجردات، وذلك على سبيل المكافحة لا بفكر ونظم دليل قياسي، أو نصب تعريف حدّي أو رسمي، بل بأنوار إشراقية متتالية متفاوتة تسلب النفس عن البدن وتتبيّن معلّقة، تشاهد مجرّدها، ويشاهد ما فوقها مع العناية الإلهية(10)[10]. كما كان للغزالي إسهام واضح على مستوى تنقيح المعرفة اليقينية والتي تحصل على أساس الكشف، فاليقين عنده هو حالة لا يبقى معها مجال للشك بحيث يتعين على العقل أن يعرف الحقيقة، وهذا اليقين يفيده البرهان الحقيقي، ولكن مستنده هو النور الإلهي الذي أتيح للغزالي من خلال الكشف والمشاهدة. وقد استلهم صدرا الشيرازي التراث الإشراقي من خلال مناقشة حكمة الإشراق، وصوفية الغزالي، وعرفان ابن عربي، وأثولوجيا أفلوطين.. ما جعله على مفترق الطرق إزاء النزعات المختلفة آنذاك. فالحقيقة – في مدلولها الإشراقي عند المسلمين – لا تبنى على العلم العقلي فحسب، وإنما يكون لها معنى في نطاق العلم الحضوري بالوجود، فتتمثل في حضور الوجود وتجلّياته في ذواتنا، أو إشراق أشعة الحقيقة المطلقة على النفس من وراء مظاهر هذا العالم. وهذا المعنى هو المتداول في حقل العرفان والتصوّف والفكر الإشراقي عمومًا. وسوف تتمثّل هذه السياقات الأفلاطونية والأرسطوية في الفلسفات المدرسية (الأسكولائية)، على إثر احتدام الخلاف في معالجة مشكلات من قبيل: العلاقة بين الله تعالى وبين العالم، وبين الحقيقة اللاهوتية المتمثلة في الإيمان الديني والحقيقة الفلسفية. وقد أدّى هذا الاختلاف إلى قيام رؤى فلسفية متعدّدة، كالمدرسة الفرنسيسكانية التي تبنّت آراء أوغسطين، ونزعت نحو الصوفية الباطنية، وأن إدراك المظاهر الخارجية يلتمس عن طريق الحدس والذوق والإلهام، لا عن طريق النظر العقلي (بونافنتورا)، والمدرسة الدومينيكانية التي أخذت بفلسفة أرسطو، وأن المعرفة مصدرها الحس، وأن دور العقل يأتي لاحقًا في إقامة الأدلة على المبادئ العقلية. (ألبرت الأكبر، توما الأكويني). مضافًا إلى مدارس أخرى تكاد أن تكون موازية لها، من قبيل المدرسة الرشدية اللاتينية، ومدرسة أكسفورد (روجر بيكون). من جهة أخرى، أدى اختلاف النظر في طبيعة المفاهيم العامة (الكليات)، وعلاقة الخاص بالكلي العام.. إلى ظهور النزعة الإسمية التي ترى أن “الكليات لا وجود لها في الواقع ولا في الذهن، وإنما هي مجرد ألفاظ أو أسماء تدل على عدد غير محدد من الأشياء”. وقد مهد ذلك لظهور النزعة الإسمية العلمية والتي ترى “أن النظريات والقوانين العلمية ليست إلا صيغًا يتواضع عليها” (إدوارد لوروا: 1870-1954)(11)[11]. وملخص القول، إن المواقف الكبرى التي تمخض عنها ذلك العصر تشكلّت وفق اتجاهات ثلاث: اتجاه “العقليون الخلص”، حيث جرى التأكيد على انفصال الفلسفة عن الدين كليًّا. واتجاه “العلميون”، الذين أنكروا إمكانية قيام فلسفة دينية. واتجاه “الأسكولائيون الجدد”، وهم بين معارضين للنشاط العقلي كليًّا، وبين موافقين للنشاط العقلي ولكن في حدود معيّنة. ونجد في الصف الأخير توما الإكويني(12)[12]. لقد استحوذت عناصر من قبيل المتابعة والتوافق والتكامل على الروح الشرقية المتفلسفة عمومًا، فيما شكّلت القطيعة وروح النقد والتجاوز العناصر البارزة في روحية الفكر الغربي عمومًا. نجد ذلك بوضوح في الشروع في نقد العقلانية التأمّلية التي كانت سائدة والتي تقوم على أساس الإيمان العقلي في توجهات القدماء، وسوف يظل المنحى العقلي ماثلًا في النشاط الفلسفي مع ديكارت الذي ينظر إليه هنا كما لو أنه علامة فارقة. إن عقلانية ديكارت لا تبنى على الواقع كما هو الحال مع السابقين، والحقيقة عنده ليست وجودًا مفارقًا يتمّ استحضاره من خلال تحفيز تقوم به الإدراكات الجزئية المساعدة على التذكّر. كما لا تكون وجودًا محايثًا يتمّ استحضاره بتجريد الإدراكات الجزئية في الذهن.. إن عقلانية ديكارت تُبنى على معرفة الذات بالدرجة الأولى، وهو سوف يقوم بمسح الطاولة من جميع محتوياتها، وإعادة بناء العالم انطلاقًا من الشك الشامل الذي لا مفر منه، ذلك الشك الذي لن يستثني منه سوى أمر واحد لن يمكنه أن يشك فيه، هو فعل الشك نفسه. إن الشك لون من ألوان التفكير، لذلك لا بدّ من وجود المفكر: “أنا أفكر إذن أنا موجود”. وعلى هذه الأرضية الصلبة (الكوجيتو) يثبت ديكارت الحقائق الأخرى عبر أفكار النفس الفطرية، ومن جملة تلك الأفكار التي تتسم بالوضوح: الامتداد، ولهذا يعدّ الجسم عنده فكرة فطرية، وللجسم خواص أولية من قبيل الوزن والشكل والحركة، وهي آثار واقعية له. أما اللون والطعم والرائحة والصوت ونحوها من الخواص الثانوية، فهي تابعة لكيفية تركيب أجهزتنا الحسية، وهي انفعالات نفسية لا واقع لها. إن التصورات الحاصلة عن طريق الحواس، كاللون والطعم هي تصورات عارضة. وقد يحصل من تركيبها تصورات أخرى كالفرس ذي الأجنحة، وهذه تصورات جعلية. وأما التصورات التي أودعها الله في طبيعة عقولنا، كتصور مفهوم الله، النفس، الامتداد، العدد، الشكل، الحركة، الزمان.. فهي تصورات فطرية. إذن، النشاط الفلسفي عند ديكارت عقلاني في مجمله، وما علينا لبلوغ الحقيقة سوى تلافي الخطأ، ولذلك وضع ديكارت قواعد المنهج للتحرز عن كل ما يعوق المعرفة اليقينية، ذلك المنهج الذي لو اتبع من شأنه أن يحدّ من مكر الشيطان الذي يضع في طريق الحقيقة عوائق الحس والخيال والذاكرة. وإذا كانت الوسيلة إلى المعرفة هي الشك. إذن، الذات هي أساس الوجود والمعرفة. ولأنّ الحقيقة عنده صفة ذاتية للفكرة، فما يتطابق مع الفكر فهو بالضرورة متطابق مع الواقع؛ فإن الله الذي خلق فكرنا هو نفسه خالق الواقع بحيث يضمن التوافق بينهما(13)[13]. إن معيار الحقيقة بنظر ديكارت لا يكمن في موافقة الفكر للواقع، بل في التوافق مع الذات، لا يقبع خارج الذات بل داخلها. فالحقيقة هي صفة ذاتية للفكرة، والأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل صدقها، وما ليس بحقيقي فهو كاذب؛ ولكن ليس لأجل عدم تطابقه مع الواقع، بل لأجل عدم تطابقه مع قوانين الفكر نفسها. لقد لاحظ ديكارت، وبعده كانط، أن الحكم بالمطابقة للواقع أو عدم المطابقة يرتد في النهاية إلى الفكر نفسه. إن الحقيقة وفقًا لمعيار التطابق، توجب علينا مقارنة الموضوع بمعرفتنا، وهو ما يتطلب حصول المعرفة بالموضوع قبل إجراء أية مقارنة بين الموضوع ومعرفتنا عنه – كما يلاحظ كانط على نظرية التطابق -، ومعنى ذلك أنه يتعين علينا أن نتحقق من معرفتنا ما دامت لا تنطوي في ذاتها على الشرط الكافي لقيام الحقيقة. وطالما أن الموضوع يوجد في العالم الخارجي [الموضوعي] وأن المعرفة توجد في العالم الداخلي [الذاتي] فإنه لن يكون بمقدورنا سوى أن نقرّر ما إذا كانت معرفتنا بالموضوع تتفق مع معرفتنا بالموضوع (تحصيل الحاصل)!!. وتقوم المعرفة عند كانط على دعامتين، إحداهما مادة المعرفة التي نحصل عليها من الأشياء الخارجية بواسطة الحس، وهي معرفة متأخّرة عن التجربة. والأخرى صورة المعرفة التي هي من لوازم العقل، وهي معرفة متقدّمة على التجربة. وتتضمن صورة المعرفة على الحساسة والفاهمة. ولكل معرفة تجريبية قيد زماني ومكاني، ولكن الزمان والمكان لا يعرفان من طريق الحس والتجربة، وإنما هما من صور الحساسية (معرفة قبلية). ومنهما يأتي موضوع العلوم الرياضية، موضوع علم الهندسة هو الامتداد من المكان، وموضوع علم الحساب هو العدد من الزمان!. والمقولات عنده اثنا عشر مقولة هي من صور الفاهمة. والمفاهيم الذهنية القبلية هي: المكان، الزمان، الوحدة والكثرة، التمامية، الإثبات والنفي، الحد، الجوهر، العلة، التبادل، الإمكان، الوجود، الضرورة، النفس، العالم، الله. إن العلية هنا من لوازم الذهن وليست من أوصاف الأشياء(14)[14]. وإذا كنا ندرك الواقع على أساس “إن الشيء يبدو لنا أنه كذا” وليس “إنه كذا في ذاته”، فلا ضمان لوجود الحقيقة بصورة مستقلة وموضوعية ونهائية في مداركنا. إن الواقع بنظر كانط يرتد في مداركنا إلى واقع ذاتي على أبعد تقدير. وإن إمكانية تنحية الخطأ عن وجه الحقيقة لن تبقى متاحة للعقل وهو يجادل الوهم.. وإن شر المعرفة لازم فعلي لا تجدي معه نفعًا أية قواعد منهجية أو حدوس معرفية، والخطيئة الأصلية التي تسكن العقل هي خطيئة الميتافيزيقا، والعقل إذ يجادل ويتناقض لا يقوم بذلك بفعل عوامل وقوى خارجية. إن التناقض من صميم العقل ذاته(15)[15].

 

 

من الواقعية العقلية إلى الواقعية الحسية

خضع تفسير الحقيقة على أساس نظرية التطابق لنقاش حاد ونقد عميق من قبل معظم تيارات الفكر الوضعي على اختلاف اتجاهاته؛ وذلك لاعتبارات شتى، تعود في جوهرها إلى الإقحامات التي تفرضها الذات، والتي ينبغي العمل على إقصائها من مجال الوعي. وسوف تؤدي ذاتية الفكر – كما نجدها لدى ديكارت وكانط – إلى حدوث فجوة كبيرة حول إمكانية الحديث عن الحقيقة الموضوعية المستقلة عن الواقع الذاتي لها، ويحق للمرء حينئذ أن يتساءل: هل القضية تعكس الواقع الموضوعي القائم بذاته بصورة مستقلة عن ميولنا الذاتية، أم أنها تعكس ذاتية الفرد أكثر مما تعكس الواقع الموضوعي؟ ومن جهة أخرى، فقد أعطى كل من ديكارت وكانط مكانة للحس تتجاوز دور الإعداد والتحفيز، وعلى الرغم من الاحتفاظ بما للعقل من مكانة متقدمة إلا أن هذه الوضعية الجديدة سوف تجعله أكثر عرضة للانكشاف والمساءلة، فقد أثير الاستفهام حول مشروعية ما ينتجه العقل من معارف بشكل مستقل عن الحس؛ وتناول ذلك النقد المعارف الفطرية والمعارف القبلية على السواء، وما إذا كان ينبغي الاقتصار في نشاط العقل على مجرد تجريد وتعميم الإدراكات الحسية لا غير.. وقد استتبع البحث عن ذلك كيفية نشوء المفاهيم وصدقها على الأشياء، وبالتالي التشكيك بقيمة المفاهيم الكلية، وذلك على أساس أنها مجرد ألفاظ ورموز يشير بها الذهن إلى أفراد الواقع بناء على اعتبار الناس لها واتفاقهم عليها. وبعبارة مختصرة، سوف يتم تفريغ مفهوم الكلي من مضمونه الجوهري وإقصاء طبيعته النوعية بشكل نهائي. إن هذا يضعنا وجهًا لوجه مع أولوية الحس على العقل، وبالتحديد مع وليم الأكامي الذي نادى بأصالة الحس أواخر القرون الوسطى، وشكّل بذلك ترجمة صارمة لما يؤثر عن أبيقور اليوناني من قوله: لا يوجد شيء في العقل إلا إذا كان قد وجد في الحس قبل ذلك. إن منشأ جميع معارفنا هو الحس كما يقول جون لوك؛ وإن الإنسان يحصل على التصورات البسيطة عن طريق التجارب الظاهرية والباطنية؛ فيدرك الكيفيات الأولية للجسم كالامتداد والحركة، والكيفيات الثانوية كاللون والرائحة والطعم عن طريق الحس الظاهري. كما يدرك أفعال النفس وقواها كتصور الحافظة والإرادة عن طريق الحس الباطني. وأما تصور اللذة والألم والوجود والوحدة والعدد فهي تحصل عن طريق تعاون الحس الظاهري والباطني. وبعد ذلك تأتي التصورات الأكثر تعقيدًا كتصور الجوهر والنسبة والعلية والغائية. هكذا ومن المقارنة بين شيئين توجد الإضافات المختلفة كالكبر والصغر والأبوة والبنوة.. وهو سوف يعتبرها – لاحقًا – قسيمًا للتصورات المركبة لا قسمًا منها.

إن العلية والمعلولية هي من الإضافات التي تحصل نتيجة المقارنة بين حادثتين متعاقبتين بشكل منتظم. ولا يكفي الحس الظاهري والباطني لوجود التصورات المركبة، بل إن القوة الفاهمة أيضًا تؤثر في وجودها، وبمساعدة هذه القوة نفهم أن الكيفيات التي تقبل التغيير تحتاج إلى شيء ينسب إليها هذا التغيير وهو الجوهر، وكذا نفهم أن التعاقب المنتظم لظاهرتين لا يمكن أن يكون بدون رابطة العلية(16)[16]. وفي حين يعتقد جون لوك بانتزاع المفاهيم الكلّية من الموارد الجزئية عن طريق حذف جهات الافتراق بينها، يذهب باركلي إلى أن الموجود هو الصورة الجزئية التي يمكن جعلها علامة للجزئيات الأخرى لتشابهها. إذن، الألفاظ الكلّية إنما هي أسماء تستعمل في مسميات متعدّدة، وبذلك يستعيد باركلي مذهبًا قديمًا عرف بالنزعة الإسمية، لا يقر لمفهوم الكلّي بصفته مدركًا ذهنيًّا، بل يقصر الإدراك على الجزئي والشخصي والذي يجعل علامة على عدة أشياء متشابهة. هذا الحكم سوف يتم استثماره لاحقًا ويجرى تعميمه على جميع مسائل الفلسفة الأولى. إن لفظ الوجود بنظر باركلي مساو للمدرِك والمدرَك، وليس له مفهوم مستقل عن الإدراك. وهو ينكر مفهوم الجوهر بعنوان أنه أمر واحد، فالجوهر ليس شيئًا سوى مجموعة من الأعراض المختلفة. وليس فقط الكيفيات الثانوية توجد في ظرف الإدراك، بل حتى الكيفيات الأولية من قبيل الامتداد والحركة توجد فقط في أذهاننا. وينحصر طريق المعرفة برأي باركلي في التجربة الحسية، والإدراك الحسي لا يتعلق إلا بالأعراض، ووجود هذه الأعراض غير متحقّق إلا في حدود أذهاننا، ولا نملك سبيلًا يثبت لنا جوهرًا خارج أذهاننا بحيث يصلح لأن يكون موضوعًا لهذه الأعراض. هكذا يحصر باركلي الواقع بوجود المدرِك والمدرَك، ولا وجود لشيء وراء الصور الذهنية!. إن علة ظهور التصورات والإدراكات – التي هي وحدها الأشياء الحقيقية – إنما هي إرادة الله(17)[17]. وقد استفاد هيوم من كلام لوك حول منشأ تصور العلية؛ وأننا لا نحس في مورد العلة والمعلول بشيء سوى التعاقب المتكرر بين ظاهرتين، ولا يمكن إثبات أكثر من هذا في تصورنا للعلية، وما الضرورة التي نؤمن بها في العلاقة بين العلة والمعلول إلا ضرورة نفسية تحصل نتيجة لعادة الذهن في إدراك الظواهر المتعاقبة. وكما أن الجوهر الجسماني ليس شيئًا سوى مجموعة من الأعراض الجسمانية، كذلك أيضًا الجوهر النفساني ليس شيئًا سوى مجموعة من الأعراض النفسانية. إذن، ينكر هيوم الجوهر النفساني، ويفسر أصل العلية بتعاقب الظواهر، ويفسر الضرورة الموجودة في الأصل بعادتنا الذهنية، إن وجود أي شيء قابل للشك من وجهة نظر فلسفية ما عدا الظواهر الذهنية(18)[18]. ومنذ وقت مبكر، بشر هيوم بقيام “الفلسفة العلمية” على أنقاض الفلسفة التأملية الخالصة، ويعتبر القرن التاسع عشر هو المجال الزمني لظهور فلسفات تنعت نفسها بالصفة العلمية من قبيل الفلسفة الوضعية لكونت، والتي أرست العلوم التحققية على ستة: الرياضيات، علم الفلك، الفيزياء، الكيمياء، علم الأحياء، علم الاجتماع.

إن مهمة الفلسفة هنا هي التأليف بين نتائج العلوم المذكورة وتنظيمها، فتصف ما هو كائن بقدر ما تتيحه لها نتائج تلك العلوم. والمادية الديالكتيكية لماركس، الذي يرى ضرورة الفلسفة لوجود قوانين شاملة، وهي تحصل من تعميم قوانين العلوم التجريبية وليس من طريق التأمل الميتافيزيقي. والفلسفة التحليلية التي تفرغت لعمليات التحليل المنطقي لمنتوجات الفكر البشري، لتدلل على أنها ليست مشكلات بقدر ما هي استخدامات غير سليمة لألفاظ اللغة. والفلسفة الظواهرية (فنومنولوجيا) لهوسرل الذي رفض أن تكون الفلسفة تابعة للعلم، باعتبارها هي علم الماهيات الثابتة التي لا تختلف في كل زمان ومكان، وهي الشرط القبلي لسائر العلوم. إن الفلسفة بوضعيتها الجديدة تقوم في أفضل الحالات على تحليل اللغة، وإيجاد فرضيات تسهم في حل مسائل العلم. فيما تشكل التجربة أو الخبرة المباشرة المقياس الأساسي لتمييز الحقيقة عن كل ما عداها مما لا معنى له.

معيارية الحقيقة التجريبية

يمكننا إذن، أن نضع أيدينا على أساسيات التحوّل نحو أصالة الحس، دون الخوض في تفصيلات الوضع اللاحق وذيوله المتشعبة. فقد تركت الواقعية الحسية أثرًا واضحًا على المسار الوضعي للفلسفة بعامة، والمنطقي بخاصة، وترتب على ذلك انحسار الطابع الشمولي لنظرية التطابق لتقتصر على الواقع الفيزيائي بوصفه الحقيقة النهائية. وما ينبغي ملاحظته هنا، هو ما تضفيه أصالة الحس على مفهوم الميتافيزيقا من التباس بحيث تحصره في إطار الموقف النقيض، والنابذ، وتخرجه بذلك عن طابعه الكلي، والشمولي. والحال أن المزاولة الميتافيزيقية وإن أعطت للعقل اهتمامًا خاصًّا في مجال المعرفة، إلا أنها لم تقصر ذلك عليه كوسيلة حصرية في مقابل الحس. من جهة أخرى، إن التساؤل الأساس الذي أثير بفعل هذا التحول الجديد، والذي يتعلق بخيارات العقل والحس، وأسبقية أو أولوية أحدهما من الآخر، من شأنه أن يضيف التباسًا آخر إلى المفهوم، ذلك أن أحدهما لا يشكّل بديلًا مكافئًا للآخر على مستوى نوعية المعرفة المنتجة؛ فلا شيء يحتّم علينا أن نتبع مثل هذا الاصطفاف في مجال الاختيار بين أمرين هما من قبيل الحس أو العقل، ولا ضرورة تحتّم علينا اتباع مثل هذا النظام الثنائي بالذات. إن تاريخ الفلسفة العلمية يشهد على ذلك العزوف الارتدادي الذي تخلله مسار تلك المعرفة، وأن الحقيقة غير قابلة لأن تتجلى حصرًا بواسطة العلم، كونه لا يملك أن يستقل نهائيًّا عن الفلسفة في تثبيت مقولاته؛ ذلك أن الإدراكات الحسية، والأحكام الصادرة عنها، قد تختلف من شخص لآخر، كما قد تختلف باختلاف أحوال الشخص المدرِك نفسه، أو باختلاف موقع الشيء المدرَك ووضعيته وسائر إحداثياته.. فقد يستطيع الحس أن يرينا الجبل، إلا أن صورة الجبل لن تزيد في حجمها عن حجم العين، ولن ترينا مدى قربه أو بعده ما لم تتم الاستعانة في ذلك بحكم من العقل. كما أن الصيرورة الحاكمة على هذا العالم من ناحية وجودية، وما تدعمه معطيات الفيزياء الحديثة القائمة على أساس مبدأ اللاتعين واللايقين المطلق من ناحية معرفية، كل ذلك يحول دون إمكانية الحديث عن وجود معياري في الواقع الفيزيائي، بوصفه موضوعًا يتمتع بالثبات!. إن الوقوف عند المعيارية الحسية سوف يفترض ضمنًا تحليل مسألة تكامل المعارف والعلوم، وظهور نظريات علمية جديدة على حساب ضمور نظريات أخرى، على أساس أن تلك النظريات تتوفر معًا على الصدقية، ولا أقل كل منها في ظرفه الخاص!. إن أقل ما يمكن قوله في مثل القضايا التجريبية هو أنها تمثل شيئًا في الواقع فحسب، أما محاكاتها لعين الواقع فلا يوجد ضمان عليه!. وأخيرًا، إننا لا نملك مفاتيح الواقع بصورة قطعية بحيث نستطيع القول بأن القضية تعكس الواقع كما هو بالفعل وبطريقة موضوعية تامة!. إن الحقيقة – بحسب الادعاء هنا – تبنى على نتائج العلوم التجريبية، وعلى القوانين الكلية الحاصلة من استقراء الموارد الجزئية التي تثبتها التجربة العلمية، وهذه القوانين العلمية قابلة للتعميم لكل الوجود، بحيث تضم كلّ أجزاء الطبيعة والمجتمع والتاريخ والفكر الإنساني. وهذا القانون الشامل يمكّننا من التنبؤ بالحوادث الاجتماعية والتاريخية المستقبلية.

وتقوم هذه الدعوى على أساسين ميتافيزيقيين بامتياز، أحدهما التعميم الذي يسمح بانطباق قوانين الطبيعة على المجتمع والتاريخ، ومن الواضح أن التعميم كإجراء يتجاوز النشاط الحسي إلى حكم العقل. والآخر ما يتضمنه هذا النشاط من استبطان للحقيقة ينهض على الإيمان بتماثل أشياء هذا العالم في قوانينها الكلية. وتكمن المعضلة هنا، في اعتراض الميتافيزيقا لواقع التحولات في عصر العلم، باعتبارها شرًا لا بدّ منه، فإن الفرضية والتنبّوء العلمي هما حدوس وخيالات علمية تتخلل الإطار التجريبي كشروط حتمية، ولهذا تظل الحلول المستقبلية خاضعة لهذا الارتهان الميتافيزيقي، فلا يمكن للتجربة تنقية العلم من الميتافيزيقا بالكامل، ذلك أن القصور التجريبي يستدعي فرضًا ميتافيزيقيا يدعم النظرية حين لا تجد ما تبرر به فكرتها، فقد كان نيوتن ميتافيزيقيًّا حين استعان بمقولة أرسطو عن الأثير الذي يملأ الكون ليردم به الثغرة (اللامجربة) التي اعترت تفسيره لبعض نظرياته الفيزيائية، كما كان داروين كذلك حين أدخل الحلقة المفقودة في نظريته البيولوجية. وعليه، تظل الرؤى المختلفة خاضعة في أسسها وإجراءاتها البحثية إلى الأفق العقلي الميتافيزقي، ونستطيع حينئذ القول: إن الميتافيزيقا غير موجودة إلا في عقولنا، بشرط أن لا تقرأ هذه الجملة بطريقة سلبية؛ وذلك في إطار التوظيف الأيديولوجي الذي يراد لها؛ كما لو أنّ كل ما ليس ماثلًا في الأشياء فهو ينتمي إلى عالم الخداع؛ ويتوجب علينا لأجل ذلك تنحيته وعزله. إن الانتقادات التي سجلت في هذا الجانب، سوف تدفع إلى إجراء تعديلات مهمة في النظام المعرفي لحساب العقل، وسوف تتركز سهام الوضعيين في أن الميتافيزيقا قد ضلت طريقها من خلال إيغالها في النمط التأملي، الأمر الذي يستوجب إعادة تصويب مسارها من خلال ممارسة نقدية تتيح لها وضعية جديدة تتأهل بها لأن تكون قابلة للصفة العلمية. وشيئًا فشيئًا، سوف تتكشف مقولة الإيمان الميتافيزيقي في عمق الوضعيات العلمية؛ وذلك عبر الفروض والحدوس والتنبؤات، مرورًا بالرؤى التأملية الخالصة، وصولًا إلى الخلفية الصوفية التي تقبع في إيمان كل باحث؛ هذا ما يطالعنا به الميتافيزيقيون الجدد، فليس صحيحًا أن الميتافيزيقا ترتكب خطيئة مميتة عندما تقوم بتوكيد موضوعاتها، فإن التوكيد هو سمة التجاوز في البحث عن الحقيقة لدى الجميع وبلا استثناء. وتكمن المفارقة في أن المنافحين عن الفلسفات الوضعية يصدرون أحكامهم على موضوعات الفلسفة من منطلق المنهج العلمي نفسه!. بل، يبدو أن المنهجية العلمية قد اعتراها طموح جامح نحو إخضاع كافة ضروب المعرفة الإنسانية للأسس الصارمة في المنهج التجريبي، وإلى إيجاد التماثل من خلال إلغاء الخصوصيات والحدود الفاصلة ما بين المناهج المختلفة وتطويعها باتجاه خاص، وفي سبيل ذلك، سوف تنشط الفلسفة العلمية في التأسيس للمنهج التجريبي والذي يتطلبه السعي العلمي الحثيث. وبهذا المقدار، لن يستدعي الأمر مشكلة تذكر، سيما مع فرض التفاوت بين موضوعتي الفلسفة والعلم؛ فإن الواجهة الفلسفية تستدعي الانضباط والتماسك في نطاق الرؤية، فيما يتماشى العلم – بوصفه علمًا – مع سيرورات الواقع. وإنما تبرز الإشكالية بشكلها الصدامي كنتيجة لاقتران السمة العلمية بالفلسفة؛ وما ينتج عن ذلك من القول بضرورة تجاوز الميتافيزيقا وبصورة حادة، كشرط لمجاراة النسبية الواقعية. ما يفسر لنا العدائية السافرة التي تكنها الوضعية للنهج الميتافيزيقي القائم على خصوصية التعالي عن الحس في المعرفة والوجود، ذلك أن الفلسفة لا تؤدي وظيفتها الأساسية إلّا حين تستند إلى العقل في فحص الوجود وتفسيره. وهي لا تكترث للدواعي “العلمية” إلى تجاوزها، بل تحافظ على وضعيتها الفريدة وتمايزها الاستثنائي بأن تبقى على مسافة ثابتة من الواقع، ما يجعلها تمارس سلوكًا يتسم بالفوقية والتباهي، كونها مصدر التماسك الذي يسبر تحولات الواقع، ويسبغ عليه المعنى والهوية والقيمة. ما تقدم، يؤكد على أن الاختلاف ما بين الفلسفة والعلم إنما يقوم في جوهره على التوظيف في النتائج، أكثر مما يقوم على الأسس والمبادئ الأولية. وأن الميتافيزيقا ليست فرعًا مختصًا في الفلسفة، بمقدار ما هي نمط في الوجود يمتد بتشعباته في كافة الفروع المعرفية. ومن الخطأ تصنيف الفلاسفة إلى معتنين بالشأن الميتافيزيقي وعازفين عنه، وإنما تنوعت آراء الفلاسفة حولها وفق اتجاهين: اتجاه يؤمن بالثبات الذي يسبق العالم المتحول، ويضبط إيقاعه، ويضفي عليه المعنى. واتجاه آخر يؤمن بالثبات الذي ينبع من عالم متنوع متحول سيّال. وفي حين يدعو أصحاب الاتجاه الثاني إلى التخفيف من غلواء المنطق في عقولنا، وليس تجفيفه. وإعطاء دفق أكبر للنشاط الحسي الحي، والتوجّه نحو استيلاد الميتافيزيقا من رحم الواقع، ومحاكاة الوحدة من داخل الاختلاف والتناقض، والعثور على الكلي في متن الجزئيات، ومقاربة الميتافيزيقا نفسها من خلال الواقع، وذلك قبل أن تسبق الميتافيزيقا العتيدة إليه، وتحد من حركته، وتجعله ساكنًا، يبدو أن أتباع الميتافيزيقا العتيدة لن يتنازلوا بسهولة؛ وينشأ حرصهم من كونهم قد خبروا نوايا الوضعيين وحنكة دعواهم، فهم بمجرد أن يشرعوا في تفاصيل عملهم حتى يكيلوا التهم لجميع أشكال الميتافيزيقا، وينحون باللائمة عليها في كل شيء، ولكنهم في النهاية لن يتقدموا خطوة إلا على قاعدتها، ولن تتسم مزاولتهم العلمية بالإبداع إلا حين يتطرفون في ميتافيزيقيتهم.

السياق المنطقي للواقعية من الإسمية إلى الماهوية

  1. إن جوهر النقد الغربي للميتافيزيقا سوف يتركّز على موضوع إقصاء الذات، وتنحية القبليات، وتكميم اللغة، بحيث تنكفئ القضية عن أن تتمثل الحقيقة في طابعها النوعي والكلي، ويرتد دورها إلى مجرد توصيف للظواهر الخارجية القابلة للتحقق التجريبي. ويعبّر عن هذا النوع من القضايا بحسب المنطق التقليدي بالقضية الخارجية أو الشخصية البحتة، وهي التي تعين في الاستقراء وتقنين الواقع الحقيقي. إن تفسير الحقيقة من خلال نظرية التطابق قد يصدق على القضايا الخارجية التي يكون لمحمولها واقع مستقل، ولكنه لن يصدق حتمًا على القضايا الحقيقية؛ إذ لا واقع مستقل في الخارج لما تخبر عنه هذه القضية؛ فهي قضية تحليلية بمعنى أنها لا تضيف شيئًا جديدًا إلى معرفتنا، ولا تحيل إلى الواقع مباشرة؛ ذلك أن الحكم فيها ينصب على الطبيعة الكلية للموضوع، وتكون ماهية الموضوع هي المناط في الحكم، فلا نظر مباشر في هذا النوع من القضايا إلى الأفراد. إن موضوع الحكم هو نفس الطبيعة، والمحمول منتزع من تحليل الطبيعة، وهو لازم لها، فليس للمحمول واقع مستقل عن واقع الموضوع، ولهذا لا يضيف المحمول شيئًا جديدًا لمعرفتنا، بدليل أن الحكم قد يشمل الأفراد المقدّرة الوجود والتي لا واقع فعلي لها. إذن، القضية الخارجية هي القضية التي تنبئنا عن الواقع الفعلي بشكل حصري، وتضيف شيئًا جديدًا إلى معارفنا. ولهذا تشترط الاتجاهات الوضعية والتحليلية إقصاء القضية الحقيقية من المنطق كشرط لإمكانية أي حديث عن قيام الحقيقة. فيما تولي هذه الاتجاهات القضية الخارجية اهتمامًا خاصًّا من جهة احتوائها على مضمون واقعي للمحمول يغاير واقع الموضوع فيها، بحيث يحمل أحدهما على الآخر حمل انضمام وتركيب. إن الحكم في القضية الخارجية منصب على الأفراد في الخارج مباشرة، وليس من دور للكلي سوى الإشارة إلى الأفراد بلفظ واحد، فلا يزيد عن كونه تعبيرًا جامعًا للأفراد، وتتأتى جامعيته من جهة إبهامه لا من جهة تعيينه، وتكون فائدته الحصرية في أنه يغنينا عن تكرار اللفظ. وهنا فقط يمكن أن تصدق القضية الخارجية بأن تطابق الواقع الخارجي العيني والموجود بالفعل. وهذه هي القضية التركيبية والتي من شأنها أن تضيف إلى معلوماتنا شيئًا جديدًا. وفق هذا السياق، سوف تندرج القضايا الميتافيزيقية في جملة القضايا الفارغة من أي معنى، ذلك أنه قد يجب أن يكون العدد اثنين زوجًا كي تكون القضية صادقة، ولا يجوز أن يكون هذا العدد فردًا وإلا تكون القضية كاذبة. أما أن يقال بأن العدد اثنين أبيض! فهذه القضية فارغة من المعنى. ولم تعد تصنّف القضايا في إطار من الصدق والكذب فحسب، بل وجدت إلى جانبها قضايا لا تقبل مثل هذا النقاش. و “إذا أردنا أن نقصر كلامنا على ما يكون له معنى وجب إطراح الفلسفة التأملية وما يدور مدارها من صنوف التفكير بحيث لا يبقى لدينا في دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية والرياضية”(19)[19]؛ وتحيل العلوم الطبيعية إلى العلاقات الحسية بين الوقائع، فيما تحيل العلوم الرياضية إلى الاتساق الداخلي بين الأفكار. وهنا يكمن جوهر التمييز بين القضايا التركيبية والقضايا التحليلية. إن هذه الإشكالية وإن طرحت في سياق القضايا ذات الواقع التجريبي، إلا أنه أريد بها إرجاع واقع القضايا الحقيقية إلى مجرد قضايا خارجية شخصية بصرف النظر عن مزاعم ذوي تلك الاتجاهات المناهضة. إن القضايا في القياسات حقيقية، وفي الاستقراءات خارجية. وإن إرجاع القضايا الحقيقية إلى الخارجية، هو في الحقيقة إرجاع للقياس بكليته إلى الاستقراء وإبطال للقضية المنطقية. وهذا الوضع يتأتى فقط من اختزال الحقيقة بالواقع الفيزيائي، واختزال معرفتها في البعد الحسي التجريبي.
  2. يحيل الفيلسوف كل من الاستقراء والتمثيل إلى قياس ضمني، وفي ذلك إرجاع للتجربة إلى القياس العقلي، وإرجاع للجزئي الذي يقع في مجال العلم إلى الكلي الذي يقع في مجال العقل. والكلي هنا، هو الكلي الطبيعي الذي يتميّز في أن جامعيته للأفراد الكثيرة تتأتى من جهة امتلاكه للصفة الذاتية والطابع النوعي، الأمر الذي يقضي بصدقه على أفراد الطبيعة صدقًا لانهائيًّا لتماهيه معها. بخلاف ما لو أرجعنا التعميم الذي للكلي إلى جهة إبهام اللفظ؛ فإن في ذلك الإجراء تفريغ للكلي عن مضمونه النوعي، وإقرار بإمكان صدقه على أي شيء صدقًا اعتباريًّا، وتحديد للصدق في إطار لا يتجاوز المواضعة وبصورة جزافية. إن الفيلسوف يظل مشدودًا إلى الواقعية والهدفية في نظرته إلى الوجود، ولذلك يعمل على توكيد الكلي بصرف النظر عن حيثياته، وهو يؤكد على الطبيعة كماهية مهملة لا توجد في الخارج إلا بوصف الجزئية، ولا توجد في الذهن إلا بوصف الكلية. إنّ المفهوم متشخص من حيث إنه موجود، وهو كلي من حيث إنه مفهوم، ولا ينبغي الخلط بين الحيثيتين وبين الإقرار بالطبيعة في ذاتها. وسوف تطرح الإشكالية بصورة تتناسب مع هذا الواقع؛ إذ يُفترض في القضية الموجبة ضرورة وجود الموضوع وتحققه في الواقع الخارجي أو الواقع الذهني. ويمكن تنويع الحكم بحسب الوقائع الخارجية وفق اتجاهين: فقد ينصبّ الحكم على الأفراد من جهة تحققها الفعلي في الوجود الخارجي، وتكون القضية هنا خارجية بامتياز. وقد ينصبّ الحكم على الطبيعة الماهوية نفسها، وتكون القضية حينئذ حقيقية، وهذه هي القضية التي تنهض على أساسها الميتافيزيقا؛ وبحسب النظر الفلسفي، لا مجال للشك في وجود القضية الحقيقية وانطباقها النوعي على ما تصدق عليه. إن الكلّي الطبيعي بالنظر المشائي يقوم على أساس التجريد، وأن الذهن يقوم بتجريد صور الأشياء المنعكسة في الحس، فيجرد ما به الامتياز ويحتفظ بما به الاشتراك، وبذلك يتحقّق الكلّي الطبيعي.

إن تصوير المراحل العلمية وفق تراتبية وجودية سوف يعطي منحىً ارتقائيًّا لهذه النظرية، يقوم على تفسير الإدراك الحسي بانعكاس صور الأشياء انعكاسًا يتناسب مع مرتبة الحس. وتفسير الإدراك الخيالي بانعكاس الصور الحسية بما يتناسب مع مرتبة الخيال. وتفسير المفهوم الكلي بانعكاس الصور الخيالية بما يتناسب ومرتبة العقل. فالصور العلمية لا تتشكل نتيجة تجريد، وإنما على أساس تخلّق صور الأشياء بما يناسب كل مرتبة من مراتب العلم في وجود الإنسان.

وملخّص الادعاء، أن هذه النظرية تقوم على دعامة واقعية، وإلّا لأمكن صدق أي شيء على أي شيء. وفي هذا إرجاع للفكرة الأرسطية التي تقرّ لعالم المحسوسات بقدر من الواقعية بحيث يتاح للعقل أن ينفذ – ومن خلال الأعراض والظواهر – إلى ماهيات الأشياء وطبائعها عن طريق التجريد والتعميم؛ فالحقيقة هنا هي معطى عقلي، لا حسّي. وأما تفسير الكلي بأنه مجرد لفظ ورمز للموجودات، فإنه يستوجب – كما تقدم – المحدودية في الانطباق على الأشياء، والحال أن الكلي يشمل أفراده بنحو لانهائي؛ ما يكشف عن أن نظره هو إلى الطبيعة الماهوية وليس إلى الأفراد الخارجية، وفرق كبير بين مجرّد الاشتراك في اللفظ، والاشتراك المعنوي. إن الخلل الفكري الذي تم الكشف عنه في سياق الخبرة الحسية، وتحديدًا مع التجريبية الإنكليزية وتفكيكها لنظام العلية، إنما يكمن في الفصل المنهجي ما بين المنحى الحسي والمنحى العقلي، وكان يفترض وفق السياق ذاته أن يتبدّى ذلك عن دور خلّاق للعقل في التعبير عن الواقع، لا أن يسهم في تعرية الواقع عن الضرورات الحاكمة ما بين ظواهر الوجود.

إن الواقع الفلسفي لا يتحدّد وفق الإطار الفيزيائي المباشر، بل يتسع ليشمل طبائع الأشياء وماهياتها. وتعبّر القضايا الحقيقية عن طبيعة الشيء الماهوية، وإن كان ما يتلقاه الحس لا يتجاوز ظاهر تلك الطبيعة. وعلى هذا، فإن اللزوم – الذي يكتنف القضية الحقيقية والذي نجده بين طبيعة النار وإحراقها مثلًا، ويتم التعبير عنه وفق مبدأ العلية-، لا يجعل من هذه القضية مجرد قضية تحليلية، بل إن هذا اللزوم – لكونه واقعيًّا، حقيقيًّا، نفس أمريًّا -، يدعم القضية الحقيقية بوصفها قضية تركيبية(20)[20]، بحيث تنطبق على الواقع الخارجي ولو بنحو اللزوم والعموم.

السياق المنطقي للواقعية من الماهوية إلى الفلسفية

  1. ترتكز نظرية التجريد الماهوي – كمعطى عقلي – إلى الأعراض الحسية بالدرجة الأولى، وإذا كانت المعرفة الحسية معرفة سطحية لا تبلغ قاع المعنى، ولا تميز بين ما هو ذاتي في الشيء أو عابر. إذن، على أي أساس يحصل التجريد؟ لنفترض أن الشيء يتصف بصفة ما على الدوام، إلاّ أنه يظل دوامًا للصفة بحسب إدراكنا لها، لا دوامًا لها في ذاتها، فالحس لا يكشف عن وجه الضرورة في توقف المعلول على العلة. وهذا الدوام في التوقف هو نتاج حكم العقل القاضي بأن دوام الاتصاف يكشف عن أن الصفة من شؤون الذات. وإذا كان يتوجب علينا أن نتحرى الأمور من تلك الزاوية التي تظهر فيها النار بدون أي تدخّل منا، وأن نراقب المشهد فقط من خارج، لنرى بحسنا المحايد والذي لا يملك أن يقحم أي تفسير متطفل على الحدث: ما الذي يحصل من تقارن النار بشيء آخر؟ وإذا استطعنا أن نقتصر على وصف الظاهرة فحسب، – وهو أمر لا يعين على فهم الظاهرة بنظر كانط -، فسوف لن نرى سوى ظاهرتين متعاقبتين، لا غير. وبعد أن نتدخل في الظاهرة سوف نضيف إليها بعدًا جديدًا، هو مفهومنا عن العلية، وهو القول بأن النار (بطبعها) تحرق. إذن مفهوم العلية هو نتاج فكرنا وتفسيرنا وإضافتنا الجديدة على الواقع. إننا نملي على الواقع طبيعته وماهيته. إذن، إن تدخّلنا في تفسير الظاهرة لن يكون حياديًّا ونزيهًا إزاء الحقيقة. وعلينا أن ننزع القيود التي نكبّل بها الحقيقة من خارجها إذا ما أردنا أن نتحلّى بصفة النزاهة؛ فلا لزوم ولا علّية في نفس الحقيقة. وبهذا جرى استبعاد قبليات العقل الكانطية، مع الأخذ بتمييزه الأساسي الذي اعتبر سمة بارزة هنا: لن يكون لقولنا “النار بطبعها محرقة” أي محتوى حقيقي. فقط علينا أن نقول: “النار تبدو لنا محرقة”. إنها صفة لواقع خارجي نراه، وليست وصفًا لحقيقة كما هي في ذاتها. وحينئذ لن يكون للقضية الحقيقية أي مضمون واقعي. إن القضايا الميتافيزيقية هي قضايا تفترضها تلك العلاقات اللزومية التي يمليها عقلنا ويسبغ عليها الواقعية، وبتعبير آخر، إن هذا الواقع تمليه الأشياء بحسب طبائعها، لا الأشياء في جزئياتها وأفرادها، ومع انهيار تلك الأسس المفترضة عقليًّا، سوف لن يعود لتلك القضايا أي أساس واقعي. إن انهيار أسس الاستدلال في المنطق التقليدي مرده إلى تخلخل المفهوم الماهوي؛ إذ يقوم الاستدلال الاستنباطي – وفقًا للمنطق الصوري – على أساس مبدأ التلازم بين الموجودات والظواهر والناشيء عن ارتباط الحد الأصغر بالحد الأكبر بعلاقات واقعية نوعية قائمة بين الأشياء، هذه الملازمات إما أن تقع بين العلة والمعلول، أو بين معلولي علة ثالثة، أو بين أمرين متلازمين في الوجود. ومع إنكار الطبيعة، فلا تعود ثمة علاقات لزومية واقعية بين الأشياء، وبالتالي يفقد الاستدلال ركيزته التي يقوم عليها. وينتج عن إنكار الطبيعة انهيار مبدأ العلية؛ ذلك أن نظام العلية في عالم المادة مبني على وجود الطبيعة الفاعلة في الأجسام، تلك التي يعبر عنها بالصور النوعية للأشياء، والتي هي معطى عقلي لا غير، وأن إنكار أصل العلية الذي يعوّل عليه في القياس المنطقي، من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الميتافيزيقا بالشكل الذي نعهده في الفلسفات الوضعية والتحليلية. إن الاقتصار على المعرفة الحسية وسياقها التفكيكي من شأنه أن يجعل معارفنا الماهوية تتهاوى، ولم يكن تفسير هيوم لأصل العلية بتعاقب الظواهر، وللضرورة الموجودة في الأصل بعادتنا الذهنية، تفسيرًا خاطئًا في حدود العلاقة المنطقية التي يمليها الحس، بل جاء ذلك من جهة تفريغ المحتوى الفكري للظاهرة من مضمونها الماهوي دون إرسائه على قاعدة المعرفة الفلسفية التي تظل بمنأى عن معاول التمرّد التجريبي.
  2. ويعيب كانط على الفلسفة وقوعها في سياق تأمّلي بحت، وأنها تتحدّث عن الواقع كما لو كانت تملكه “في حد ذاته”، والحال أنه ليس سوى انعكاس الواقع في الذات؛ هو الواقع “كما يبدو لنا أنه كذا”، أي هو فكرنا عن الواقع. وعلينا أن نفهم كلام كانط من خلال مراجعة الأسس التي ينبني عليها الواقع الذي نؤمن به، ذلك الواقع القائم على أساس العلاقات اللزومية بين الشيء وما يقتضيه طبعه وحقيقته.

إن أثر النار ملازم لها، والمقصود هنا أثرها الخاص الذي لها بمقتضى طبعها وحقيقتها. ويبدو أن العصر الذي عاش فيه كانط كان يسائل الميتافيزيقا في مبررات وجودها، وينظر بريبة شديدة إلى مفهومنا عن العلة، ويشكك بالأسس اللزومية التي نبني عليها معرفتنا بالواقع، ولهذا فقد أخرج كانط “العلية” من دائرة الوجود الخارجي، وجعل منها قالبًا عقليًّا ومعرفة قبلية من شأنها أن تفسّر لنا المعرفة التجريبية.

إن الشيء في حد ذاته، إن أشير به إلى الطبيعة النوعية للشيء، فهذا مما لا سبيل لنا إليه، بعد أن كانت ذاتيات الشيء غير معلنة للعقل خارج إطار المواضعة القائمة على الأعراض، أي أن المعرفة هنا تظل ناقصة، وتظل في طور الإعداد والتحفيز والتهيئة، وأما إن أريد به مرتبة وجودية هي مرتبة ذات الشيء، مقابل المرتبة الافتراضية للشيء، – كما سيأتي قريبًا – فهذا المفهوم فلسفي لا ماهوي، وهو قابل للمعرفة الكاملة، ويستند إلى الإقرار بالموضوعية التامة للوجود في مقابل العدم، وإلى أم القضايا التي تشكّل حجر الزاوية في المعرفة اليقينية. وعلى هذا الأساس يمكن النظر فيما أفاده كانط من أن مرجع نظرية التطابق إلى تحصيل الحاصل؛ وأنه لن يكون باستطاعتنا سوى أن نقرر ما إذا كانت معرفتنا بالموضوع تتفق مع معرفتنا بالموضوع!. إن المقابلة هنا تقع بين “معرفتنا بالموضوع” و”معرفتنا بمعرفتنا بالموضوع”، والحكم في المعرفة الثانية ينصب على وجود المعرفة الأولى المرتكزة مباشرة إلى الماهيات، أي أننا نحكم على طبائع الأشياء بالوجود، وهو حكم على المعرفة الناقصة بالمعرفة الكاملة. ويرجع التطابق هنا إلى الحكم على الكلي الطبيعي بحكم فلسفي لا يستقل في التمثل الخارجي عن موضوعه. إن مثل هذا التطبيق يضع أمامنا عراقيل إضافية، فإن المفهوم الفلسفي وإن أضاف شيئًا واقعيًّا إلى المفهوم الماهوي، أو كشف عن واقعية ذلك المفهوم، إلا أنه مع إنكار الواقعية الذهنية للكلي الطبيعي الذي هو أساس المفهوم الماهوي، سوف ينفتح المجال لإنكار المعقولات الفلسفية، كونها ثانوية ومنتزعة من حيثياته. وسوف لن يسعفنا الإدعاء بأن عملية التجريد تقوم على أساس واقعي؛ إذ لا نجد تحديدًا لهذا الأساس الواقعي سوى تلك الحجة الداحضة: وإلا لأمكن صدق أي شيء على أي شيء. ولا ينفي إلزامية تلك الحجة سوى زعزعة الفكر بإرجاعه إلى أمر اعتباري ما كاللغة، أو نفي حيادية الواقع وإرجاعه إلى ما تبدعه النظرية ويمليه التفسير.

  1. ويبدو واضحًا أن العقل الإسلامي لم يكن مهجوسًا بالإشكالية الكانطية حين قرّر أن الواقع الذي تقاس إليه الحقيقة هو الواقع النفس الأمري. ومع ذلك فقد جاء تقريره متناسبًا مع تجاوز تلك الإشكالية وفق ضمانات ميتافيزيقية تؤسس للحقيقة. إن ملاك صدق القضية الحقيقية ليس هو في تطابقها مع الأفراد أو الطبائع الكلية، وإنما هو في مطابقتها مع الواقع النفس أمري، أي أنها تتجاوز الأفراد والأنواع إلى الوجود، لتكون مع المرتبة الوجودية للشيء بحسب ذاته، لا بحسب الافتراض. ونفس الأمر هو حد ذات الشيء، بمعنى أن المحمول لا ينتزع – ابتداءً – من الطبيعة الماهوية، بل من المرتبة الوجودية لذات الموضوع لا غير. وعلى هذا، لا تستند الحقيقة إلى المفاهيم الماهوية التي يكون منشأ تطابقها مع الواقع هو كونها منتزعة من حيثياته على نحو التجريد أو الارتقاء، وإنما تتمثل فلسفيًّا بالمفاهيم الثانوية التي تتشكل منها هوية القضية الفلسفية؛ وبناء على أصالة الوجود، تغدو الحقيقة غائبة تحت ستار الماهيات، وتنتظر من يلمح إليها، وأي تردّد في حقيقة الماهية لن يضر بالحقيقة الفلسفية المتقومة بالوجود حصرًا. لذلك، يمكن أن نزعم هنا بأن المفهوم الفلسفي لا ينتزع من المفهوم الماهوي الذي نحصل عليه من المقارنة بين المحسوسات؛ ذلك أن إجراء أي مقارنة هو فرع وجود تلك المحسوسات في المرتبة السابقة(21)[21]، وما يحصل لنا هو أننا نلتقط أولًا أثرًا من الأشياء، كحرارة النار، أو برودة الثلج، وهذا الأثر ينبئنا مباشرة أن ثمة شيء حقيقي وراءه، وبذلك تتشكل معرفتنا بالخارج وفق سياق منتظم بين الظواهر وانعكاساتها في الحس بحيث يصح القول: إن هذا الظاهر هو امتداد لذلك الظاهر، وأن هذا الوجود هو من ذلك الوجود، وأن انتظام الوجودين بنحو لا يقبل التفكيك بينهما هو ما يطلق عليه مبدأ العلية، فنستفيد وجود خاص من وجود خاص، وهذا المعطى الأولي الذي هو الوجود هو عبارة عن معرفة فلسفية خالصة. وفي مرتبة لاحقة يمكن أن نستفيد اختلاف المؤثرات من اختلاف الآثار، وهذا المعطى الثانوي هو عبارة عن الخصائص الماهوية، وهي تنتظم في مداركنا وفق سياق من الخصائص يحتفظ بصورها التجريدية أو الارتقائية بنسب ثابتة لا تتخلّف أو تختلف في الجملة.

إن الصور العلمية حاضرة في ذواتنا ومراتب علمنا الوجودية، وإنما نستطيع أن نقارن بينها ونلحظ تطابقها؛ فقط بعد كونها حاضرة بوجودها لدى النفس؛ ويمكن للعقل أن ينتزع من لحاظ المقارنة والمطابقة أحكامًا تتعلق بالوجود بمعناه الفلسفي، وما نظام الضرورة والعلية بين الأشياء إلا حكم فلسفي لا يعمل إلا في نطاق الموجودات الحاضرة لدى النفس. فإن الحس المادي لا يتضمن الوعي، وهو يكون معرفة فقط في اعتراكه مع النفس وفق المراحل التي تم تصويرها في نظرية التجريد وتحت نظر العقل. فالحس مرحلة إعدادية للمعرفة لا غير، وما لم تتدخل الذاتية في الحس فلن يبلغ انعكاس الواقع مستوى الإدراك إلا كما ينعكس الشيء في المرآة أو عين الميت!. ومن شأن ذلك أن يضع المعرفة الماهوية في رتبة لاحقة على المعرفة الفلسفية في التصور فضلًا عن التصديق، وليس كما درج الترتيب عليه من جعل المعقولات الماهوية سابقة على المعقولات الفلسفية والتي تسمى بهذا الاعتبار ثانوية. وحينئذ لنا أن نشكك في اعتبار المفاهيم الفلسفية منتزعة من المفاهيم الماهوية (أصالة الماهية)، وأن نقرر بذلك أسبقية الوجود على الماهية وأسبقية الواقع على الفكر (أصالة الوجود).

  1. وإنما كانت معرفتنا بالخارج منتظمة وفق سياق غير قابل للتفكيك بين الظاهرة والظاهرة، لأن الوجود يشبه أن يكون بنية وليس ظاهرة، وهو وضع علائقي لا ترسّب ماهوي، وهذا ما يمكن تفسيره وفق مبدأ الجعل البسيط السيال. ذلك المبدأ الذي يضفي وضعًا فلسفيًّا علائقيًّا على الوجود، وما الماهية سوى ضبط عقلاني مرحلي لذلك السيلان الذي يجتاح الكون برمته. إن العلة تحتوي على المعلول، والمعلول ينبغي أن يلحظ في رتبة العلة، هكذا توصينا اللحظة الفلسفية العامرة في الحكمة المتعالية: “إن الهوية الجوهرية مما يشتد ويتحرك في جوهريته حركة متصلة على نعت الوحدة الاتصالية، والواحد بالاتصال واحد بالوجود والتشخص. وقول المشائين: “إن كل مرتبة وحد من الأشد والأضعف نوع آخر، وإن كان حقًّا، لكن بشرط أن لا يكون ذلك الحد حدًّا بالفعل، لكن من الحدود المفروضة في الاشتداد..”(22)[22]. وهي تنبئنا بالوجود المادي على صورة وجود بسيط سيال يحتفظ بالوحدة الاتصالية، ويحفظ الواقعية بين ماضي الظاهرة ومستقبلها، فما الصورة إلا مادة وقد تحولت، وما المعلول إلا علة وقد انبثقت، وحين لا يعود للزمن بماضيه ومستقبله أي اعتبار فلسفي، فإن تلك اللحظة العامرة سوف تتكشف عن التقاء جميع الظواهر الوجودية السيالة في وحدة بسيطة جامعة قابلة لأن تشكل معيارًا للحقيقة الكلية. إن تصدير الفلسفات بالمنطق هو السبب في عقم الفلسفة، فالمعرفة الفلسفية – خلافًا للماهوية – لا تخضع للمنطق. نعم، بعد تحرير المنطق من الترسّبات المفهومية، وإيجاد الوضع العلائقي (المنطق لا يملك إلا أن يكون علائقيًّا لا سكونيًّا) يمكن لنا حينئذ أن نتكلم عن تطابق ما بين المعرفة الفلسفية والواقع.

إن الاقتصار على الملاحظة الحسّية سوف يوقعنا في تفكيك مناطات العلية؛ بأن نشرّح العلة في النظام المادي إلى ثلاث تصورات: وجود العلة، اقتضاء الفعل، وانفعال المنفعل. ولا شك أن مضمون العلية يتحقق من خلال العاملين الأولين، وهما عاملان لا يقبلان التفكيك، ولذلك لا يقعان تحت الحس بوصف أنهما ظاهرتان. إن مرجع هذين العاملين هو إلى حقيقة واحدة منها يتشكل جوهر العلية. ويبقى العامل الثالث رهنًا لقابلية الانفعال، ومشروطًا بشروطه، وتلك القابلية يمكن أن تقع تحت مرأى ومسمع من الحس، وتشكّل ظاهرة مترتبة على الظاهرة الأولى. وبالتالي يلحظ التفكيك في جهة المعلولية لا في جهة العلية. فلا مجال للتفكيك بين العاملين الأولين اللذين يشكّلان جوهر العلية. وبهذا يتضح أن ما وقع منفيًّا في الفلسفات المتغرّبة غير ما وقع مثبتًا في الفلسفة الإسلامية. وإذا كان من وظيفة العقل العلمي بالمعنى الحصري أن يشكك في الطبيعة النوعية للجوهر بوصفها من بنية العقل لا الواقع، وأن يشكك بالتالي في علية الطبائع لآثارها بحكم ما هو حاصل في ظواهر الوجود من تركيب، فإن العقل الناظر إلى الحقيقة الوجودية البسيطة، وسيلانها على امتداد الزمان، لا يرى في نظام العلية سوى حقيقة فاردة لا تخضع للتركيب والتفكيك الحقيقيين. وهذا يبقى خاضعًا لنفس الأمر؛ بوصفه العقل الكلي المجرّد في تعريف الفلاسفة، وهو بهذا يكون معيارًا للحقيقة بكلّ مفرداتها.

لقد شكّل الجهد الفلسفي للفكر الغربي عمومًا تفريغًا هائلًا لمحتويات الأشياء من جوهرها الواقعي الذي يفترض لها الثبات، وترك الإنسان كحالة هلامية مفرّغة من المعنى والقيمة في مواجهة مفتوحة مع التاريخ والزمن، وفي الجانب الآخر من العالم كان الشيرازي يجاري تلك الصيرورة بطريقة مختلفة، فيثبت الجوهر في صميم الأشياء، ويسبغ عليه دفقًا سيّالًا يسلب عنه الثبات الحيادي، ويدخله إلى مجرى التاريخ الحافل بالصيرورة الهادفة. تكمن الميتافيزيقا إذن، في إيمان البشرية بالحكمة الكونية الهادفة، تلك الحكمة التي تفترض إيمانًا راسخًا لا يتزلزل بأنّ أشياء العالم موجودة على التمام والكمال، وأن أي قصور في هذا العالم يرتدّ إلى قصور معارفنا ومداركنا وإلى محدودياتنا.

إن الميتافيزيقا هي حصيلة جمع بين فكرتين لا تقبلان أن نشيح بوجوهنا عنهما، هما إيماننا بالكمال والانسجام والتناسق في وقائع الوجود بصورة حتمية، وهو يرتد إلى الإيمان بالله؛ الحقيقة المطلقة التي جبلنا عليها، وإيماننا بهدفية العالم الذي نعيش فيه على مستوى المعرفة والوجود، وكل هذا يؤول إلى أصل متين تمارسه البشرية كافة بوعي أو بدون وعي، وهو نفي السفسطة المطلقة من مجال الوعي الارتكازي الذي تنهض عليه ليس فقط فلسفات العالم برمتها، بل جميع الأنظمة العلمية والمعرفية للحياة البشرية كافة. ونستطيع أن نزعم أن منطق الخفاء هو السمة البارزة في الميتافيزيقا، على أن تصحبه سمة أخرى هي سمة التوكيد، وهي نوع من التقديس لذلك المخفي، والمجهول، والذي يقودنا فضولنا العلمي إليه بحماس وإعجاب شديدين، فإن الشيء الذي نألفه ونعتاده يفقد بريقه وسحره، وما لم نألفه نتعلق به إلى حد التقديس الخفي، إن ذلك الفضول يقودنا دومًا إلى تجاوز كل ما هو مألوف طالما أن المعرفة هي في المحصّلة الأخيرة مجرّد نشاط إنساني. إننا نمتلك في عقولنا هامشًا يبدو لنا أكثر سعة من الهامش الواقعي المدرَك، ولربما لو أتيح لنا أن نطلع على الواقع كله لتساوى الوجود الواقعي مع العقل، وحيث إن حصول ذلك مشروط باللانهائية، فإن قدر الإنسان الذي لن ينفك عنه يومًا في هذا العالم هو إدانة الميتافيزيقا الغيبية، تلك الميتافيزيقا التي يتطلع إليها دومًا وإلى حد الإدمان.

 

مصادر البحث:

(1)[23] وهذا في مقابل البحث عن الأمور المشروطة بالمادة مفهومًا ومصداقًا (الطبيعيات)، أو الأمور المشروطة بالمادّة مصداقًا وإن كانت مستغنية عنها مفهومًا (الرياضيات).

(2)[24] انظر، مرتضى مطهري، شرح المنظومة، ترجمة عمار أبو رغيف (بيروت: دار الهدى، الطبعة 2،  2003م)، الصفحة 344.

(3)[25] شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحة 185.

(4)[26] الرسائل الفلسفية (الفلسفة الأولى)، الكندي، طبعة عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة: 1953م)، الصفحات 106 – 112.

(5)[27] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، (قم: مؤسسة نشر البلاغة، الطبعة 1، 1375 ﻫ)، الجزء2، الصفحة 367.

(6)[28] محمد عبد الرحمن مرحبا، تاريخ الفلسفة اليونانية، (بيروت: مؤسسة عز الدين، الطبعة1، 1993م)، الصفحة232.

(7)[29] (5، 1، 9). نجد هذا المعنى متكرّرًا في مزاولة السهروردي لحكمة الفرس القدامى، وفي تمجيد الشيرازي لفلاسفة الإغريق السابقين على أرسطو، إيمانًا منه بأن الحقيقة بهذا المعنى سابقة على أرسطو.

(8)[30] الكمالي، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، الصفحة 135.

(9)[31] د. علي أبو ملحم، الفلسفة العربية مشكلات وحلول، (بيروت: مؤسسة عز الدين، الطبعة 1، 1994م)، الصفحتان 174و 175. أيضًا: عبده الحلو، الفارابي المعلم الثاني، (بيروت: بيت الحكمة، الطبعة2،  1977م)، الصفحة 39.

(10)[32] شهرزوري، شرح حكمة الإشراق، (تهران: مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، الطبعة1، 1372 ﻫ ش)، الصفحة4.

(11)[33] انظر، المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربي (القاهرة: المطابع الأميرية، 1979م)، الصفحات 14و 210 و 211.

(12)[34] إتيان جيلسون، روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: مكتبة سعيد رأفت، 1972م)، الصفحتان21و 22.

(13)[35] عن ديكارت وأفكاره عن الحقيقة، راجع: مقال عن المنهج، ديكارت، ترجمة: محمود الخضيري (القاهرة: المطبعة السلفية، 1930م)، الصفحة51 وما بعدها. أيضًا: جنفياف روديس لويس، ديكارت والعقلانية، ترجمة عبده الحلو، (بيروت –باريس: منشورات عويدات، الطبعة4، 1988م)، الصفحة30 وما بعدها.

(14)[36] عن كانط وأفكاره، راجع: كانط، نقد العقل المحض، ترجمة: موسى وهبة (بيروت: مركز الإنماء القومي)، المدخل، الصفحات 54 – 65. أيضًا: محمود زيدان، كنط وفلسفته النظرية، (القاهرة، دار المعارف، الطبعة3، 1979م)، الصفحات 51 – 72.

(15)[37] أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مصدر سابق، الصفحة122.

(16)[38] عن جون لوك وأفكاره، راجع: إبراهيم مصطفى إبراهيم، الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، (الإسكندرية: دار الوفاء، بدون طبعة)، الصفحة 335.

(17)[39] عن باركلي ونظرياته في إنكار الجوهر المادي. انظر، فريال خليفة، فكرة الألوهية في فلسفة باركلي، (القاهرة: مكتبة الجندي، الطبعة1، 1997م)، الصفحة 69.

(18)[40] حول التجريبية الإنكليزية وسياقاتها اللاحقة. راجع: إبراهيم مصطفى إبراهيم، الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، (الإسكندرية: دار الوفاء، بدون طبعة). أيضًا: مصباح اليزدي، الأيديولوجية المقارنة، (بيروت: دار الولاء، 2010م)، الفصل السابع والثامن والتاسع.

(19)[41] زكي نجيب محمود، موقف من الميتافيزيقا، (القاهرة: دار الشروق، الطبعة 4، 1993م)،  الصفحة3.

(20)[42] إن القضايا الحقيقية قد تكون من المعقولات الماهوية كما قد تكون من المعقولات الفلسفية. انظر، شرح المنظومة، مصدر سابق، الصفحة139.

(21)[43] ولو بالوجود الذهني؛ ذلك أن نفس الأمر يشمل الخارج العيني والداخل الذهني، باعتبار أن العلم بنفسه واقع عيني متحقق في الذهن.

(22)[44] انظر، الشيرازي، المشاعر، (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة1، 2000م)، الصفحة47.

 

Endnotes:
  1. (1): #_edn1
  2. (2): #_edn2
  3. (3): #_edn3
  4. (4): #_edn4
  5. (5): #_edn5
  6. (6): #_edn6
  7. (7): #_edn7
  8. (8): #_edn8
  9. (9): #_edn9
  10. (10): #_edn10
  11. (11): #_edn11
  12. (12): #_edn12
  13. (13): #_edn13
  14. (14): #_edn14
  15. (15): #_edn15
  16. (16): #_edn16
  17. (17): #_edn17
  18. (18): #_edn18
  19. (19): #_edn19
  20. (20): #_edn20
  21. (21): #_edn21
  22. (22): #_edn22
  23. (1): #_ednref1
  24. (2): #_ednref2
  25. (3): #_ednref3
  26. (4): #_ednref4
  27. (5): #_ednref5
  28. (6): #_ednref6
  29. (7): #_ednref7
  30. (8): #_ednref8
  31. (9): #_ednref9
  32. (10): #_ednref10
  33. (11): #_ednref11
  34. (12): #_ednref12
  35. (13): #_ednref13
  36. (14): #_ednref14
  37. (15): #_ednref15
  38. (16): #_ednref16
  39. (17): #_ednref17
  40. (18): #_ednref18
  41. (19): #_ednref19
  42. (20): #_ednref20
  43. (21): #_ednref21
  44. (22): #_ednref22

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14118/metaphysics/