الفكر العربي الحديث والمعاصر |حسين مروة وقضية المنهج الأسس والتطبيقات
تنزيل البحث
قدّم حسين مروة قراءة نقدية للدراسات التي عملت على التراث العربيّ الإسلاميّ، واعتبرها لا تلبي احتياجات النهوض الحضاري، لأنّها لم تتوفر على أسس تاريخية مما أفقدها قدرتها التغييرية وأبقاها تعيد إنتاج الماضي، بالتالي سيخصّص عمله لإعادة إنتاج رؤية جديدة للتراث، تعمل على فرز عناصره لإظهار العناصر العقلانية القابعة فيه. فحسين مروة عمل من خلال النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية على جهد منهجيّ، يقوم على آليات صراع اجتماعيّ عبر قراءة تاريخ الإسلام بناء على تاريخ آخر، نشأ نتيجة الحداثة الأوروبية وإعادة التمركز حول الإنسان العاقل، الذي يصنع التاريخ عبر التجربة الأرضية التي تقطع مع الوحي وتأثيره في التوجيه، ولذلك تعامل مع الشخصيات الإسلامية باعتبارها نتاجات الواقع؛ الذي دفعها باتجاه تبني مقولات محددة.
واعتبر مروة أنّ التعاطي مع التراث، لا ينطلق من وجوده إنّما من كيفية وعيه، وجعله متوافقًا مع الواقع، وبحسب مهدي عامل (حسن حمدان) عمل مروة للتفريق بين التراث ومعرفة التراث: “مشكلة التراث ليست في إحيائه، أو العودة إليه – وفي الحالتين استحالة – بل هي في إنتاج المعرفة العلمية بهذا التراث الذي هو موضوع معرفة”[1]، وبالتالي فمروة لم يسع إلى التراث لاستعادته، إنّما لجعله ينتج معرفيًّا، وهذا الأمر، يقتضي إعادة فهمه للكشف عن حقيقته بعدما يتمّ فرزه عن العناصر التي تكممه، وهذا ما لن يتمّ إلا من خلال الكشف عن القابع تحت تراكم التصورات والتجريدات، التي تعمل على إخفائه، لذلك لا بدّ من التوفر على عدة معرفية كاشفة، وهذا لن يتوفر إلا من خلال الماركسية ومنهجها المادي، الذي يسمح من خلال علميته من إعادة: “اكتشاف القاعدة المادية التي انطلق منها”[2]، وهذا الكلام يضعنا أمام بداية الطريق في مسيرة عمل مروة، والتي سنعمل من خلالها للكشف عن قراءة مروة لقضية المنهج وآليات تطبيقه.
أولًا: في المنهج: نبدأ كلامنا من العنوان، الذي ارتضاه مروة كعنوان لعمله البحثي، وهو “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، حيث تبدأ منه التساؤلات، السؤال الأول يتعلق بالعنوان، فكما نعلم أنّ العنوان يحتوي العناصر التي تبنى عليها الإشكالية، وكلما تمّ ضبط العنوان أمكن التوصل إلى تحديدها بشكل دقيق، بالتالي تمّ توضيح الموضوع الذي سيتمّ الاشتغال عليه، وعندما أسمى الباحث بهذه التسمية، أوجد ضبايية قد تكون معيقة لأيّ عمل بحثيّ، فهل بالإمكان استخدام مفاهيم حديثة وإسقاطها على موضوعات تقليدية؟ وهذا ألا يعني تدخل بالموضوعات ومحاولة زحزحتها عن موضعها إلى مكان آخر؟ ألا نكون أمام فرض قسر فكري على موضوعاتنا؟ بمعزل عن هذه الأسئلة، ولو افترضنا صوابية العنوان من الناحية الشكلية، سنكون دون شك أمام مشكلة أخرى، فالكاتب في عمله أراد أن يقول لنا إنّ المجتمع الإسلاميّ، يحتوي على توجهين: أحدهما مثالي، والآخر مادي، وهو سيعمل على أحدهما وهو الثاني للكشف عليه وإظهاره، وهنا نجد أنفسنا أمام المقصد من كلمتي مثاليّ وماديّ، وإذا غضضنا الطرف عن الأول، فالثاني لا يخلو من إشكالية عن أيّ نوع من المادية نتحدث؟ وهل يجوز أن نتكلم عن توجه مادي في الحضارة الإسلامية؟ هذا الأمر في غاية الغرابة وحتى أصحاب هذا التوجه أو القريبين منه، لا يمكن أن يتوافقوا معه بشكل كليّ، وهذا ما دفع “بومدين بو زيد” إلى اعتبار العنوان أمرًا يخالفه التوفيق وسلامة الفهم: “نحن نوافقه على ذلك، لأنّ النزعات توحي بأن تاريخ الفلسفة العربية – الإسلامية هو صراع بين المثالية ونزعات مادية، طبعًا إلى جانب ربما إدراج أزواج أخرى تصارعت وتميّزت بها الثقافة العربية – الإسلامية، كالعقل والنقل، وصراع الأنظمة المعرفية الثلاثة -البيان والعرفان والبرهان، ولكن دون شجب الوجود الاجتماعي”[3]، ويقلل عفيف فراج من حدة العنوان، ويعتبر أنّ اختيار مروة ينبني على الموضوعة اللينينية القائلة: “إنّ الأفكار الديمقراطية والاشتراكية توجد في كلّ ثقافة وطنية وقومية بشكل عناصر نزاعات، في حين توجد ثقافة الطبقة السائدة بشكل ثقافة سائدة، لكن الذي أعطى مروة طابعه الموسوعيّ أو الشموليّ هو أنّه لم يقدم النزعات المادية منعزلة عن نقيضها المالي […] وإنّما جاء مؤلفه مشتملًا على الروحيّ والمادي، الغيبي والعقلاني، الجبري والقدري”[4].
أيًّا يكن يبقى أنّ اختيار مروة، يُفصح عن غايته في موضعة التاريخ الإسلاميّ في إطار التاريخ العام، والذي يجري طبقًا لخط مستقيم، لا يحيد عنه، وما ينطبق على حضارة معينة لا بدّ من أن ينطبق على الحضارات الأخرى. وهذا الأمر وإن كان مقدمة ضرورية مهمة بالنسبة إليه، تسمح له بتطبيق المادية التاريخية في دراسته للتراث العربيّ الإسلاميّ، فهو لن يستطيع القيام بمهمته دون المرور ببديهة أيديولوجية، تقوم على انقسام التراث إلى ثنائية حادة، والصراع بينهما، ولكن هل بإمكان تطبيق مثل هذه الرؤية على تراث يختلف في تأسيساته ومبانيه، هنا يصبح السؤال أكثر أهمية، لأنّه يتعلق بإمكانية نقل تجربة حضارية إلى أخرى، ويزداد الأمر صعوبة عند الذهاب باتجاه تحديد ما هو مثالي ومادي في الحضارة العربية الإسلامية.
ينبري مروة للإجابة عن هذا السؤال، فيقول: “كان علينا أن نضع بين مهمات هذا الكتاب تحديد أشكال المادية في تراثنا الفلسفي، إلى جانب اكتشاف عناصر هذه المادية، آخذين بالحسبان أهمية الإجابة الحاسمة – إذا أمكن ذلك- عن السؤال الآتي: كيف نقيس هذه الأشكال بالذات لدى محاولة تحديدها: أبمقياس الأشكال المادية كما تتجلى في عصرنا، عصر المادية الدياليكتية، أم كما تتجلى في عصر المادية اليونانية القديمة (أشكال المادية الساذجة)، أم بمقياس عصر الفارابي وابن سينا والرازي أبي بكر وابن رشد، وما مقياس عصرهم هذا؟”[5]، يعترف مروة بصعوبة هذا الأمر؛ فالمثالية قامت بطمس العناصر المادية، مما يجعل إعادة اكتشافها أمرًا عسيرًا، فالمادية ليس لها وجود مستقل، بل قد نجدها في شبكة النسيج المثالي ذاته تمامًا كما وجدت المثالية في فلسفة الماديين السابقين لماركس، وقبل أن نستكمل معه، يُطرح سؤال عن هذه المقاربة، فهل من الممكن أن نطبق هذه الرؤية على الفكر الإسلاميّ، خاصة إذا كان المقصود من كلامه العلاقة بين هيغل وماركس، فعلى الرغم من اختلافهم في النتائج إلا أنّ الاشتراك في المرجعية المؤسسة واحدة، وبالتالي يمكن القيام بمثل هذا الإجراء، وهو قد يكون عسيرًا عندما يتعلق الأمر بإسقاط النظرة المادية على الإسلام، ولكن على كلّ حال، وبالعودة إلى مروة، يعتبر أنّ على الباحث العمل على استخراج العناصر المادية من المثالية: “لهذا كلّه علينا أن نكشف في هذه الفلسفة العربية الإسلامية مكامن النوعية حتى في صلب تجليات النزعة المثالية، وعلاقة الصراع بينهما”[6]. وهنا يُطرح سؤال كيف يمكن أن نبلغ هذه الغاية؟
يجيب الدكتور مروة إلى أنّه لا يمكن بلوغ هذه الغاية إلا من خلال إخضاعها لـ “الوضع التاريخي”، فهو: “المعين […] في تحديد الأشكال التي اتخذتها النزعات المادية في التراث العربي الإسلامي الفلسفي”[7]. وهذا الوضع يتحكم فيه عاملان رئيسان:
العامل الأول، طابع أسلوب الإنتاج الإقطاعي المتداخل مع بقايا العبودية المنحلة والقطاع التجاري المتنامي إلى جانب نمو الصناعات الحرفية المتطورة نسبيًّا، في المجتمع العربي – الإسلامي خلال العصور العباسية.
العامل الثاني، طابع الازدهار الذي حظيت به العلوم الطبيعية في هذه العصور (القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي، بالأخص)[8].
واعتبر أنّ هذه الوسيلة المنهجية، هي التي تسمح بمعرفة التراث انطلاقًا من الماركسية، لكن ليس لذاته كتراث، بل لاكتشاف ما يكمن فيه من عناصر التفكير البشري ذات الطابع المشترك بين مختلف أجيال البشرية في مختلف شعوبها، ولرؤية هذه العناصر في حركة صيرورتها الدائمة، أي تحولاتها النوعية خلال “عملية” مزدوجة من: التحولات الاجتماعية أولًا، وما يستتبع هذه بالضرورة من تحولات الوعي البشري ثانيًا.
وهكذا يكون مروة، قد بلغ غايته المنهجية والمتمثلة بإخضاع التراث العربيّ الإسلاميّ للمنهج المادي التاريخيّ، وجعل البنى الفكرية هي نتاج الواقع الاقتصاديّ، صحيح أن البعض نظر إلى هذا العمل باعتباره إنجازًا على مستوى العمل البحثيّ، وهذا ما عبّر عنه طيب تيزيني حين اعتبر أن حسين مروة: “حين بحث في الدينيّ من الموقع المادي الجدلي التاريخي، لم يستجب لشرائط البحث العلمي المنهجي عمومًا فحسب، بل كان متطابقًا مع الصيغة المنهجية المتمثّلة بمنطق التجاوز والتخطّي، وهي الجدلية المادية التاريخية، فلقد أدرك بعمق […] كيف يوجه العلاقة بين الماديّ والدينيّ والعام والخاص، والخارجيّ والداخليّ، وأخيرًا بين المنهج المعاصر عمومًا والتراث”[9]. في حين أن بعض الباحثين اعترض على منهجية حسين مروة في دراسة التراث العربي، واعتبرها نظرة تبسيطية، تعمل على لي عنق التراث من أجل غايات أيديولوجية، وهي أحدثت تضاد مزعوم بين التقليد والحداثة، الأصالة والمعاصرة، بين المقدس والدنيوي… وهي ثنائية مفرغة تفتقد للفحص والتدقيق، يقول علي حرب: “إنّ استخدام ثنائية المادية والمثالية أفضى إلى تبسيط تاريخ الفلسفة بل إلى فبركة تاريخ الفلسفة وفقًا لمعطيات الصراع الأيديولوجي الراهن”[10]. ومعنى ذلك أنّ مروة عندما لجأ إلى إعمال المنهج الماركسيّ ولجأ إلى ثنائية المادي والمثالي، مارس قسرًا منهجيًّا يُجبر تاريخ الفلسفة، بل إلى فبركة عناصر غير موجودة فيها أصلًا، بالتالي فهذ الأمر يقتضي اصطناع تاريخ جديد، قد لا يتطابق مع التاريخ نفسه.
وهنا، تظهر أهمية المنهج في تسيير الموضوعات باتجاهات محددة، فما قام به الدكتور مروة هو ممارسة منهجية، طبق من خلاله منهجه على الوقائع التاريخية بحيث جعل التاريخ، يقول ما يريد أن يقوله هو، وهذا ما يطرح إشكالية هامة في تاريخ الفكر الإنسانيّ، هل بالإمكان تطبيق منهجيات علوم إنسانية نشأت نتيجة ظروف موضوعية، تخصّ مجتمعات محددة على مجتمعات أو تراثات تختلف عنها؟ وهذا الأمر كما لاحظناه يؤدي إلى نتائج متضاربة، فكلما تغيّر المنهج المستخدم، نصل إلى نتيجة مختلفة، وهذا ما سينطبق على الماركسية.
ثانيًا: المنهج الماركسي في التطبيق: يبدأ حسين مروة في تطبيق المنهج المادي على التراث العربي الإسلامي باحثًا عن النزعات المادية الكامنة فيه عن طريق القيام بعملية مسح معرفي لخطوات أساسية ونقلات تاريخية للعرب يتفاعل فيها التطور الاجتماعي الاقتصادي بالتطور الفكري الفلسفي والسياسي؛ منذ الجاهلية حتى القرن الرابع الهجري، ويظهر مجموعة من الأمور، سنستعرض بعضها حتى لا نتوسع فيها:
1- الإسلام والبدايات الأولى: ينطلق حسين مروة من اعتبار أنّ ظهور الإسلام حتمية تاريخية “إنه يأتي في وقته المحتوم”[11]، وهو يرتبط بالتحولات التي كانت تمرّ بها الحياة العربية في الجاهلية، والتي تستدعي ظهور قوة توحيدية تنجز هذا الأمر، حيث: “وضعًا جديدًا قد أخذ يفرض قيمًا جديدة، كنتيجة لتطور تجاريّ واجتماعيّ جعل الوضع المالي والتجاري في المقام الأول من الاعتبار، فكان أن أصبح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار في مقدمة “قريش البطاح”، لأنّهم أصبحوا أوفر مالًا وأعظم تجارة. ثم جرت المعايير هكذا بحيث احتلت أمية في قريش الجاهلية مكان الصدارة مذ أصبح فيها أعظم التجار ثراءً، وبسطت نفوذها المالي على كثير من قبائل الحجاز خارج مكة”[12]، وهذا الأمر اقتضى مجموعة من التنظيمات الداخلية والخارجية، على الصعيد الداخليّ تمثل في تنظيم الأسواق والحركة التجارية فيها وتنظيم المكس وعلى الصعيد الخارجي الاتفاقيات التجارية مع الدولة البيزنطية والدولة الفارسية.
فزيادة ثروة قريش كانت تستدعي تغيّر البنية الفكرية الحاكمة والانتقال إلى مرحلة جديدة، تقضي على التشظي القبلي، وهذا ما أدى إلى التوحيد، يقول مروة: “هنا لا بدّ من العودة ثانية إلى البعد المعرفي لقضية التوحيد. إنّ تعمق النظر في قضية التوحيد. بمفهومها الإسلامي، من مختلف جهاتها وأبعادها التاريخية، يضعنا أمام ضرورة النظر في أساس العلاقة بين عقيدة الإسلام وشريعته، أي في الأساس الاجتماعي لهذه العلاقة. فالتوحيد بوجهه الإيماني لا ينفصل عن التوحيد بوجهه الاجتماعي، لأنّ تطابقهما شرط وجودهما. الذي كان لا بدّ أن يخرج آنذاك، من إطاره التجزيئي القبلي. ربط المعرفة بالمصدر الإلهي على نحو الحصر، كان هو البعد المعرفي لقضية التوحيد”[13]. في هذه النظرة يكون مروة قد نظر إلى الدين الإسلامي في سياقه الاجتماعي وأبعاده المعرفية المادية، بحيث يصبح الدين نتاجًا تطوريًا في المجتمعات الإنسانية: “كلّ دين ظهر في التاريخ كانت له جذوره الاجتماعية في الجانب الذي ظهر فيه من الأرض، وكانت له بالقدر نفسه جذوره المعرفية المتصلة بالواقع البشري”[14]، وهذا ما سيعود إلى تفسيره، عندما تكلم عن أنّ المجتمع العربي كان محكومًا ما قبل الإسلام بعلاقات اجتماعية تنطوي على أسباب الانحلال والزوال: “حتى شكلت ضرورات تاريخية حتمية تستدعي تغيرها كيفيًا ونوعيًا، وأن يولد من هذا الواقع نفسه واقع جديد… وكان الإسلام هو ذاك الواقع الجديد”[15].
دون شك، نلاحظ الصرامة والدقة المنهجية عند حسين مروة في تطبيق الماركسية على الإسلام؛ إذ ينطلق من نظرة تعتبر أن العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي علاقة موضوعية شمولية فهي لا تختلف في بعض الشعوب أو المجتمعات عنها في البعض الآخر. أي العلاقة التي تحتم انعكاس الوجود المادي بمختلف أشكاله ومظاهره، على وعي الإنسان: كل إنسان، في كل زمان ومكان. إن الحتميات العامة في تاريخ الوجود الاجتماعي هي واحدة في كل مجتمع، كما هو شأن الحتميات العامة في تاريخ الوجود الطبيعي.
ولكن هذه الالتزام المنهجيّ، هل من الممكن أن يُطبق على الحضارة الإسلامية؟ فالتصور الذي يقدمه، يقوم على ضرب البعد الوحيانيّ، وجعل الاجتماع هو الأصل في بناء رؤية الإنسان للعالم، بمعنى آخر هل تستطيع الماركسية كنظرة تاريخية أن تتواءم مع مقاربة نصية؟ دون شك أنّ الاستعارة المنهجية التي قام بها حسين مروة، قد كانت مفيدة ضمن السياق التي وُلدت فيها، وهي حاولت أن تفسر العالم، ولكن لو أخذت مقاربة منهجية مختلفة فستكون النتائج أيضًا مختلفة، مما يعني أنّنا لن نستطيع من خلال ما قُدم إلا الوصول إلى نتائج جزئية لا يمكن تعميمها وأخذها كمسلمات؛ يُبنى عليها تصور لا يرتقي إليه الشك. وهذا التصور من المفترض أن يبنى على معلومات وليس على فرضيات، وكلّ ما لدينا باستثناء النص المعصوم هي أمور افتراضية، لا يمكن الركون إليها بشكل كامل، فإذا كان التدوين قد ترافق مع نشوء السلطة، فهذا يعني أنّ نقطة الانطلاق ستكون سلطوية دون شك، وهذا يعيدنا مرة ثانية إلى الآليات التي عمل عليها، والوسائل التي استخدمها في عملية النقد التاريخيّ، وهي أكثر أهمية في هذا الموضع من السرد التاريخيّ، الذي لجأ إليه ليثبت من خلاله وجهة نظره. فنحن أمام ما قُدم نجد أنفسنا أمام سردية جديدة، نصبت نفسها كحاكمة على كلّ المقولات المختلفة.
2- موقفه من التصوف: اعتبر مروة أنّ التصوف أخذ موقع المعارضة للسلطة السياسية، لذلك كان لغة احتجاج على السائد ومحاولة إيجاد لغة بديلة تقاوم التوجهات السلطوية، على هذا الأساس بدأ بناء المنهج عبر بناء رؤية جديدة خاصة للمعرفة، تقوم على: “اتصال بالله مباشرة دون وسائط، وقد خصهم الله – دون العوام بهذا النوع من المعرفة باعتبارهم أولياء الله خاصة. وأن هذا الادعاء قد قادهم بحكم الضرورة المنطقية – إلى ادعاء آخر هو انفرادهم برؤيا صفات الوحدانية على نحو يعجز عنه الآخرون من فلاسفة ومتكلمين ومن فقهاء وأصوليين[16]. إلا أنّ الصوفية كانت محكومة بانتمائها الإسلاميّ، فكيف يمكن إزاء هذا الواقع أن يُظهروا تفردهم “بالفهم” و”الذوق” و”الرؤيا” لأمور تدخل في أسس النظام الإسلامي السائد؟ بالتالي هم ملزمون بتحديد موقفهم من القرآن الكريم بوصفه وحيًا إلهيًا أنزل على النبي ليكون وسيطًا بين الله والعالم، يتضمن نصوصًا مقدسة تسجل “وثائق” الشريعة أو “الدستور”، لإيجاد حل لهذه المسائل ذهبوا إلى القول بالظاهر والباطن: “استخدم الصوفية مفهومي: الظاهر، والباطن، في التعامل مع نصوص الإسلام ذات الصفة المقدسة عند المسلمين (القرآن والسنة)، لإخضاع هذه النصوص للمضمون المتناقض مع نظرية المعرفة الإسلامية، وذلك بدعوى أن هذه النصوص تحمل وجهين من المعاني: فهناك الوجه الظاهر، وهو يتوجه إلى العامة من المسلمين، والوجه الباطن .. وهو يتوجه إلى الخاصة منهم. و”الخاصة” هنا، في نظر الصوفية، هم الصوفية أنفسهم، أفليسوا هم في دعواهم- “خاصة أهل الله الذين منحهم أسرار العلم الباطن المودع في القرآن”[17]. وبهذا وجدوا متنفسًا للانفلات من الواقع المتناقض الذي كان يحكمهم. فهم يأخذون بالنصوص الجاهزة كسائر المسلمين من جهة، ومن جهة يتصرفون وفق طريقتهم بتأويل الظاهر، والذهاب به إلى الباطن طالما أن لهم القدرة على ذلك.
تابع مروة في الكشف عن البعد الماديّ في التصوف الإسلاميّ، فقام بتحليل معنى الظاهر والباطن، وأعطى الأخير معان جديدة: “فالصوفية – بناء على ذلك- حين أخذوا بنظرية معرفة الله دون وساطة على الطريقة “العرفانية” (معرفة الله مباشرة دون وساطة Gnosis) المعرفة، كان ذلك هو الوجه الفلسفي لمحاولتهم هدم الجدار الفاصل بين الله والإنسان. ولكن هذا لم يكن هدفًا لذاته، وإنما الهدف الأبعد، أو الدافع الكامن في أساس المحاولة، هو هدم الجدار الفاصل بين الإنسان والإنسان، أي بين إرادة الحاكم المطلق (الخليفة)، وإرادة الناس المحكومين. وهذا الجدار هو النظام الاجتماعي المتمثل بالشريعة. فهذا هو الذي منح الحاكم إرادته المطلقة، وأحاطه بحصانة إلهية تمتنع امتناعًا مطلقًا على إرادة المحكومين ومداركهم”[18]. وتابع الكلام بتحليل موقفهم ليظهر الأبعاد المادية في التصوف الإسلاميّ، ليصل في نهاية الأمر إلى أنّ التصوف: “تطور للوعي الناتج عن تطور الواقع الاجتماعي”[19].
فبالنسبة إليه، التصوف حمل مضمون أيديولوجي معارض للسلطة، وهو عمل على كبح جماحها، وهذا ما دفع جماهير “العامة” تتوجه “بالحدس” الطبقي تجاه سلطة النظام الاجتماعي الذي كان يمعن في قهرها وإفقارها دون حدود. ولعله بدافع من هذا “الحدس” الطبقي استطاعت هذه الجماهير أن تدرك إلى أين تنحاز في جبهة الصراع بين السلطة والصوفية، وإن ظل انحيازها ضعيف الأثر، لأنّه كان محدود الحجم: “أما لماذا كان انحياز هذه الجماهير ضعيفًا هكذا، فمرجع ذلك إلى عاملين: الوضع المتخلف الذي كانت عليه “عامة” الشعب اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، من جهة، وعجز الفكر الصوفي نفسه – من جهة ثانية – عن أن يصوغ مضمونه الأيديولوجي صياغة واقعية تجعله ممكن التحقق، ليصبح – بذلك- معبرًا عن أيديولوجية تلك الجماهير في حدود الوضع التاريخي آنذاك”[20].
سنتوقف عند هذين المثلين، الّذين يعبران عن آليات تحليل حسين مروة للتراث العربي الإسلاميّ، وهو سيتكرر في كلّ مقاربة يقوم بها، وهذا يوضح أنّه كان وضع تصورًا منهجيًا، وقام بتطبيقه بشكل روتينيّ ونمطيّ، ليصل من خلاله إلى نتائجه، وهذا ما يضعنا أمام جملة من النتائج:
- كان مروة أيديولوجيًّا في تحليله للتراث الإسلاميّ، فهو عمل على قولبته وتأويله انطلاقًا من نظرته، فهو لم ير فيه إلا مادة تثبت صوابية الاتجاه الذي ينتمي، ويبرر من خلاله انتمائه الفكري.
- عمل على إعادة قراءة تأويلية لهذا التراث، فمارس عليه القهر والقسر ليصل إلى النتائج التي يرغب بالوصول إليها، وهذا ما أفقده الموضوعية والعلمية.
- كان مروة يرى أن تاريخ البشرية واحد، وما ينطبق على حضارة يمكن تطبيقه على الحضارات الأخرى، وهذا تعميم لا يمكن الركون إليه، إذا ذهبنا بشكل عميق في تحليل الحضارات وكيفية إعمال منظوماتها، سنلاحظ أنّ المنظومات الفكرية الكبرى تتحرك انطلاقًا من رؤيتها الخاصة للحياة، وهي تتأسس على أفكار كلية تنعكس في الجزئيات، وتجعلها قادرة على أن تفسر ما يحصل فيها، بالتالي لن يستطيع منهج أنتج في سياق حضاري إنتاج رؤية كلية مختلفة وانعكس في الجزئيات أن يكون مفسرًا لكلّ النماذج، بالتالي الحري بالباحث عند تطبيق المنهج بأن يجعله مناسبًا للمنظومة التي يعمل عليها، حتى يستطيع أن يفسرها من داخلها، وليس من خلال أمر عارض عليها، وهذه المشكلة التي نثيرها في هذا الموضع تنطبق على جميع المناهج التي قرأت الإسلام، فهي أتت لتحاكم الإسلام ومنظومته الفكرية من خارجها وعبر علوم قد نشأت نتيجة ظروف موضوعية مختلفة. وهذا ما يجعل نتائجها أشبه بالمحاكمة الفكرية على ضوء المركزية الأوروبية، وما طبق على الإسلام في هذا الموضع، يمكن تطبيقه على الحضارة الغربية عبر تحكيم المناهج الإسلامية فيها، وتفسير تلك الحضارة على ضوء حركة الذات وكيفية تفسيرها للعالم.
[1] مهدي عامل وآخرون، حسين مروة: شهادات في فكره ونضاله، (بيروت، دار الفارابي، 1981)، الصفحة 54.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 57.
[3] مجموعة من المؤلفين، حوار مع فكر حسين مروة، (بيروت، دار الفارابي، 1990)، الصفحة 137.
[4] المصدر نفسه، الصفحتان 209-210.
[5] حسين مروة، النزعات المادية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 36.
[6] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 37.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 38.
[9] مجلة الآداب، ملف خاص حول حسين مروة، عدد1 -2، 1988، الصفحة 32.
[10] علي حرب وآخرون، الماركسية ودراسة التراث العربي، (بيروت، دار الحداثة، 1987)، الصفحة 145.
[11] حسين مروة وآخرون، دراسات في الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 7.
[12] حسين مروة، النزعات المادية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 222.
[13] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 363.
[14] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 314.
[15] حسين مروة وآخرون، دراسات في الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 11.
[16] أنظر: حسين مروة، النزعات المادية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحات من 211- 219.
[17] حسين مروة، النزعات المادية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 211.
[18] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 217.
[19] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحات 216-217.
[20] المصدر نفسه، الجزء 2، الصفحة 314.
المقالات المرتبطة
فلسفة أبي العلاء المعري في لاميته
في قصيدة أبي العلاء المعري المعروفة بلامية أبي العلاء، حشد من الحكم والمأثورات الفلسفية التي تنم عن خبرة واسعة بالحياة ودروبها المختلفة، ومتناقضاتها التي لا تنفك تفاجئنا كل يوم بما لا نتوقع
الماء والحيوية الفلسفية في فكر طاليس الملطي
إن الفكر الإنساني بصفة عامة ينشد البحث عن الحق والحقيقة، وتبادر الفلسفة عبر التاريخ لإعلاء شأن العقل البشري، وكان الأنبياء جميعًا مرسلين من الله تعالى لنشر التوحيد والعدل…
أولويّات دور المرأة في فكر الإمام الخامنئي
إنّ من العيب أن نقول إنّ المرأة امرأة، وأن الرجل رجل. إنّ للمرأة أن تفخر بأن تكون امرأةً كاملةً وأنثى كاملةً وهي لا تقلّ بأيّ حال عن قيمة الرجل، وهي قد تفوقه في بعض الأحيان فلماذا نتخلّى عن ذلك؟