التحليل الاجتماعي للرموز

by محمد محمود إبراهيم | يناير 31, 2022 12:58 م

يرى البعض أن التحليل الاجتماعي للرموز يرجع إلى الدراسات (ليجية و ويلام، 2005، الصفحات 203-214) العديدة التي قام بها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الآباء، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى مساهمات الأنثروبولوجي روبرتسون سميث Robertson Smith في كتابه: محاضرات في دين الساميين، والذي طرح فيه إشكالية المقدس، كونه يقيم علاقة بين تقديس الأشياء لدرجة الألوهية، وبين واقع يتمثل في أن هذه الأشياء غير نقية أو غير مقدسة أصلًا مما يشكل تناقضًا واضحًا.

وتأتي مساهمات كل من مارسيل موس M. Mauss، وهنري هوبيرت Hubert H.  على جانب بارز من الأهمية، فتأتي المساهمة الأولى متمثلة في كتاب طبيعة ووظيفة المقدس Essai sur la nature et la” “function du sacre (1899). والتي استنتج فيها موس وهوبيرت أن دور القربان أو التضحية يتمثل في كونه وسيلة دنيوية للاتصال بالمقدس من خلال وسيط هو الضحية. وذلك يجعل من الإمكان التنقل بين عالم المقدس والعالم الدنيوي بوصفهما عالمان يتنافران ويتجاذبان في آن واحد، وهي حركة جدلية ديالكتيكية تسمح بدخول الضحية إلى عالم المقدس وخروج المقدس كفضاء رمزي ذات بنية متنوعة تتمثل في القربان المضحي. فمن يقوم بالتضحية، الضحية نفسها. وكلا من الضحية والمضحي يسلكان طريقًا منحنيًا يرتفع نحو نقطة الذروة وتمثلها المقدس، ثم تهبط منحدرة ناحية الأسفل وتمثلها الدنيوي. هذا هو الشكل العام. وهو يتغير طبقًا لوظائف القربان سواء إذا كانت عامة أو خاصة. وذلك بحسب إذا ما كان المطلوب تقديم قرابين لإضفاء القداسة، أو قرابين ذات مصلحة، أو منفعة للمضحي.

أما الدراسة الثانية والتي عنونت بـــــEsquisse d`une theorie de la magi” “ التي طرحت تساؤلات مهمة: ما هي طبيعة المقدس؟ على أي شيء يستند تقسيم العالم إلى “مقدس”، و”دنيوي”؟ وفي الأجوبة على هذه التساؤلات شرع مارسيل موس وهنري هوبيرت في ربط تعريف المقدس بتعريف “المانا” التي هي قوى خفية في الأديان البدائية، مرتبطة بالأشياء، والأفراد والشعائر والطقوس ذاتها التي تجعلها ذات فعالية، هي القوة التي تمنح الأشياء فعاليتها الحقيقية، هي تلك التي تمنع السماء من السقوط، والجبال أن تميد، هي في الحقل الخصوبة، وفي الطب العلاج الشافي أو المميت، وفي السهم هي القوة التي تقتل الموت، هذه القوة هي أيضًا قوة السحر والطقوس التي يمارسها الساحر. وهي منتشرة في كل الأشياء والأفراد والأماكن. ويؤكد هوبيرت وموس في هذه الدراسة على تلاصق وتلاقي “المقدس” و”المانا”؛ فالمقدس هو الأشياء والأفراد الذين التصقت بهم المانا، والذين يبتعدون وينفصلون عن النطاق الدنيوي طلبًا لـــــ “لمانا”، وهذا التلاقي والالتصاق هو نتيجة حكم جمعي تنفذه الجماعة وفقًا لحاجاتها وأهدافها ورغباتها الخاصة، وهذا الحكم ليس نابعًا من العقل، وإنما هو نتيجة كبت عاطفي يتجذر في مخيلة مجتمع يأمل في نزع قيود معاناة الحياة اليومية، فهو تركيب جمعي، وإيمان جماعي، في مجتمع ما، وفي لحظة محددة، وعلى ضوء بعض الأفكار، فالنتيجة التي يرغب فيها الجميع يقرها الجميع، فالكل يعترف بالوسيلة والنتيجة معًا، ولذلك لا نندهش من إقرار الجماعة في بعض المجتمعات – كما هو حادث عند الهنود والمصريين – من أن رش الماء البارد على المحموم يكون الشفاء هو النتيجة. فالماء هنا له قدسيته الشافية ولا سيما إن كان على أيدي بعض رجال الدين.

إن هذه الدراسات: دراسات روبرتسون سميث، هنري هوبيرت، موس، وغيرهم من أمثال شانتيبي دي لاسوساى Chantepie de la Saussaye في كتابه “مرجع في تاريخ الأديان”، تمثل أساسيات الدراسات الاجتماعية للرموز، وإن كان البعض ينسب التحليل الاجتماعي للرموز إلى عالم الاجتماع الشهير إميل دوركايمDurkheim (1858-1917)، ولكن الذي يجب أن نعرفه أن دوركايم قد تأثر بتلك الدراسات واستعار بعض منهجياتها وعناصرها في كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية”(1912). ومن هنا فإنه من الإنصاف الإشارة إلى هذه الدراسات عندما نتكلم عن التحليل الاجتماعي للرموز (الأسود، 2002، صفحة 53). بالرغم من إسهامات دوركايم المميزة في تاريخ التحليل الرمزي في كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية”، حيث أشار إلى “المقدس” ليس باعتباره شيئًا ميتافيزيقيًّا، ولكن باعتبار أنه ذا أصل اجتماعي “القوى التي ينحني أمامها المؤمن….. عبارة عن قوى اجتماعية. إنها النتاج المباشر للمشاعر الجمعية التي دفعت إلى مستوى أن تكتسب ثوبًا ماديًّا“. (ليجية و ويلام، 2005، صفحة 205).

فالرموز بالنسبة لدوركايم كامنة في قلب المجتمع، ومن خلالها يمكن للأفكار والمشاعر الفردية بوصفهما من “الرموز” أن تتواصل وتتفاعل فيما بينها عند مستوى المجتمع والمشاعر الفردية التي يعبّر عنها في تصورات جمعية متجسدة في القيم والمعتقدات والأعراف التي تمثل مشاعر جمعية تصبح غامضة دون الرموز. ومن ثم يعتبرها نسق رمزي وتعبيري يعبّر عن البناء الاجتماعي، وله وظيفة تكيفية في المجتمع فهو يحافظ على استقرار وتوازن النظام الاجتماعي. لقد نظر دوركايم إلى الرمز بوصفه تصورات جمعية له وجود سابق على وجود الفرد، وأن كافة أفراد المجتمع يشتركون في نسق من التصورات الرمزية (الأسود، 2002، صفحة 54). إن دوركايم هنا يركّز على فكرتين أساسيتين: أولًا تبعية البناء الاجتماعي للنسق الثقافي المتمثل في النسق الرمزي الذي يمكن تفكيكه إلى المعتقدات والشعائر والطقوس، وهي نقيض فكرة ماركس الذي جعل تبعية البناء الاجتماعي للبنية الاقتصادية. وثانيًا تأكيده على أن الرمز وجوده سابق لوجود الأفراد في المجتمع، ومن ثم تتسم الرموز في المجتمع بالجبرية ويقف أمامها الأفراد مكتوفي الأيدي عاجزين عن تغيير أو تعديل دلالات هذه الرموز، ومن ثم ثبات هذه التصورات لتعكس في النهاية مجتمع منغلق ساكن لا يتغير. فكل أفراد المجتمع عمومًا لهم “نفس العادات والعرف واللغة والأخلاق، كما إنهم يعيشون في نفس الإطار من النظم القانونية والسياسية والاقتصادية. وكل هذه الأشياء تؤلف بناءً له درجة معينة من الثبات والاستقرار”. (بريتشارد، 1958، صفحة 85).

وكان ثمة اتجاه أنثروبولوجي وظيفي متأثر بفكرة المماثلة العضوية عند دوركايم وسبنسر، وهي الفكرة التي تقوم على المجتمع يشبه جسم الإنسان، فمثلما أن جسم الإنسان يتكون من أعضاء، وكل عضو يؤدي وظيفة معينة، وإن اختلال أي عضو يؤثر على بقية الأعضاء الأخرى وعلى الإنسان بشكل عام، فإنه بالمثل يتكون المجتمع من أنساق متعددة كالنسق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وكل نسق يقوم بوظيفة معينة داخل النسق الأكبر وهو المجتمع، وأي اختلال أو تغير في أي من أحد الأنساق الجزئية يتبعه تغير في النسق الأكبر وهو المجتمع.

ووفقًا لفكرة المماثلة العضوية، انطلق البنائيون الوظيفون، أمثال: راد كليف بروان Radcliffe-Brown (1881-1955)، وإيفانز بريتشارد Evans-Pritchard، وبرنسلاو مالينوفسكي B.Malinowski (1884-1942)، من أن الكل (البناء) يمكن أن يعبر عنه جزءٌ منه يرمز إليه؛ أي أنه يمكن أن نفهم الكل أو البنية من خلال فهم الجزء أو أحد أنساق البنية. فالجزء يمثل الكل، ومن ثم فإن دراسة رموز معينة: الشعائر/الطقوس /المعتقدات في مجتمع معين يمكن من خلالها فهم البناء الاجتماعي السائد. وهذا ينطبق على دراسات مالينوفسكي، إيفان بريتشارد بوصفهما نموذجين من نماذج التحليل الوظيفي.

فقد أكد مالينوفسكي على أن النسق الرمزي (الشعائر والطقوس والسحر والمعتقدات) في المجتمع والثقافة عمومًا ما هي إلا مجرد أدوات ووسائل لإشباع حاجات فطرية غريزية عند الإنسان مثل الجوع والمأوى والتناسل والحب والكراهية والخوف، والعدوان، والرغبة، وغيره. فالنسق الرمزي هنا ليس له أي قيمة في حدّ ذاته، بل قيمته تتحدد في ضوء ما يحققه من إشباع للحاجات الأساسية للمجتمع. (الأسود، 2002، الصفحات 56-57)، وهو ما تؤكده دراسته المنشورة عام 1922 في كتابArgonauts of the Western Pacific  حول نظام الكولا Kula الذي يمارسه سكان جزر التروبرياند. والذي أوضح فيه أن الكولا هي نظام للتبادل الشعائري الرمزي يهدف إلى تبادل أشياء وسلع معينة ممثلة في عقود طويلة من الصدف الأحمر وأساور من الصدف الأبيض تنتقل من جزيرة لأخرى في حركة مستمرة. ويعكس نظام التبادل هذا رغبة الأفراد في السمو والمكانة الاجتماعية العليا والشهرة، حيث يتوقف ذلك على نوع الأشياء التي يحصل عليها من المبادلة ولا سيما التي لها قيمة طقوسية عالية، (بريتشارد، 1958، الصفحات 138-139). كما يشير نظام الكولا أيضًا إلى الرغبة لإقامة علاقة الود والصداقة فضلًا عن أن ملكية سلع الكولا هي صمّام أمان ضد الخوف من الأرواح الشريرة. ثم إن السحر المتبع خلال رحلة الكولا يمثل ميكانزيم البقاء والحفاظ على الرحلة من المخاطر المنتظرة، وهو أنواع كثيرة منها السحر المرتبط بقطعة الخشب التي يصنع منها القارب، وسحر تخفيف الوزن إذا كان القارب ثقيل، سحر التدشين، وسحر الحماية من المخاطر، وسحر إبطال السحر الأسود الذي يستعمله النساء. وهكذا نجد أن السحر كنظام اجتماعي يقوم بوظائف متعددة منها تحقيق الأمان الفردي. كما أن السحر المتعلق بسرعة قارب الزعيم يعكس رغبة الزعيم في التأكد من أن زوجته لم تخنه، من خلال التعرف على سرعة القارب، فإذا أبطأ فذلك يعني أن زوجته التي تركها في الجزيرة قد خانته مع رجل آخر (ليلة، 2001، الصفحات 206-211). ومن الملاحظ في هذه الرحلة تخلّف المرأة وعدم ظهورها في رحلة الكولا، فهل هذا يعكس مكانتها المنخفضة في المجتمع التروبرياندى؟ ويمثّل دلالة على سيطرة الرجل بالرغم مما أشيع عن هذا المجتمع أنه يسود فيه النظام الاجتماعي والاقتصادي الأمومي حيث نسق القرابة يرتبط بالأم وليس الأب، وأن الابن مرتبط بخاله، وأن الثروة والممتلكات توزع على أقارب الأم وليس الأب بنسبة كبيرة؟

مراجع

  1. السيد حافظ الأسود (2002)، الأنثروبولوجيا الرمزية: دراسة نقدية مقارنة للاتجاهات الحديثة في فهم الثقافة وتأويلها، (الإسكندرية: منشأة المعارف).
  2. إيفانز بريتشارد (1958)، الأنثروبولوجيا الاجتماعية: علم الإنسان الاجتماعي، ترجمة: أحمد أبو زيد، (الإسكندرية: منشأة المعارف، 1958)، الصفحة 85. (أحمد أبو زيد، المترجمون) (الإسكندرية: منشأة المعارف).
  3. دانيال هيرفيه ليجية، وجان بول ويلام (2005)، سوسيولوجيا الدين. (درويش الحلوجى، المترجمون) (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة).
  4. علي ليلة (2001)، البنائية الوظيفية، د.ن.

 

 

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14371/socialanalysisofsymbols/