الفكر العربي الحديث والمعاصر | المنهج عند الدكتور علي زيعور
يقول محمد عبد الرحمن مرحبا: “إنّ صديقه علي زيعور هو مؤسس مشروع الفلسفة في العالم والتاريخ وللمستقبل، وأول من قال باستقلالية وإسهامية الوجود الخاص والمميّز لمدرسة عربية جديدة في التحليل النفسي، ثم في علم النفس؛ وفي الفلسفة وعلوم الإنسان أو المجتمع. ويتابع مرحبا قوله: إنّ في تلك المدرسة مناهج مقارنة؛ وعمليةُ استيعابٍ وتجاوزٍ لشتى المذاهب النفسية والفلسفية التي شهدها الفكر العربي منذ أواخر الأربعينيات. والآن، فتلك المدرسة باتت نظريةً لها مردودها وأعلامها، أصولها وغاياتها المخصوصة بها، بل والكونية أيضًا”[1]، يحيلنا هذا الكلام إلى الخصوصية في إنتاج المعرفة، ويضعنا أمام توجه جديد، وهذا يثير سؤالًا هل نحن أمام تيار فكري له توجهات خاصة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي معالمه، وكيف يتعامل مع التراث؟ وهذا الأمر يقتضي البحث عن حقيقة وجود الموضوع واللغة والمنهج، فكيف نظر زيعور إلى هذه الموضوعات؟ وكيف تعامل معها؟ هذا ما سنتابعه من خلال هذه الورقة التي خصصت لمعالجة هذا الجانب.
في موضوع العلوم الإنسانية من العالمية إلى الخصوصية
لم ينظر الدكتور إلى العلوم الإنسانية باعتبارها علومًا قابلة للتطبيق في كلّ مجتمع بشكل حرفيّ، إنمّا هي نشأت في بيئات خاصة، وتحمل شخصيتها وهمومها، بالتالي كلّ بناء عليها بما هي، قد تؤدي إلى خلل في النتائج، على هذا الأساس، ينتقد المدرسة الغربية، ويعتبرها لا تعكس إلّا نظرة الغربي، يقول زيعور: “تنتقد المدرسة العربية في الإناسة القول الغربيّ، أو لنقل الصناعويّ، في الطبيعة البشرية؛ وذلك عبر تفنيد ذلك القول وإحالته، بعد كلّ تحليل ومحاكمة، إلى حيث يوصف بأنّه قولٌ وهمي، أزعومي، فهو مصطنع مستولدٌ، من مجتمع يعبد الامتلاك والاقتناء والمتعة؛ ويؤسطر العمل والإنتاج والرغبة كما الميل إلى الاستغلال والأنانية، واعتبار الآخرين بمثابة أدوات تساعد الناجح على تعزيز التكنولوجيا وثرواته وقدراته على الاستهلاك. في المجتمع الآلويّ، الصناعويّ، المرقمن، يبلغ العنف درجة يغدو عندها عاملًا شديد الفعالية؛ وكثير اللذة والمردودية للشخصية والمجتمع. وكذلك فإنّ حب السيطرة وإرادة التفوق بل والتسلّط تغدو حاجة نفسية ضرورية، ودافعًا ثانويًّا أساسيًّا، ونزوعًا أكثر مما هو توقٌ وصبوةٌ إلى إدراك الآخرين والمجتمع وطبيعة الإنسان على نحو يغلّب الشر والسوء، العنف والانقفال على الذات، الشك والذِّئبي، التبادل واحترام الأنفع أو المتغلّب حتى إن لم يكن عادلًا أو مؤمنًا بالمساواة وواجب احترام القانون وحرية الأشخاص وكرامتهم”[2]، فالعلوم الإنسانية الغربية، نتجت عن تشوهات في النظرة إلى العالم، وهي لا تعامل إلا بمقتضى مصالحها.
فالحضارة الأوروبية، لا يمكن أن تكون مثالًا يحتذى به، لأنّها أدّت إلى سلوكاتٌ معمَّمة رتيبة؛ منمَّطة آلوية؛ ومعرفةٌ تقنية أو قطعانية؛ “وحداثةٌ” في التصرّف والحياة اليومية الاستهلاكيةِ والاقتنائية، والاسترباحية والاستكسابية… فما هو عرضةٌ للمحاكمة ومثير للنقد والمحاسبة فردانيةٌ وعزلةٌ واستكفاء يجعل الحياة مستبعِدةً للآخر والتواصل، للثقافة والاهتمام بالشؤون العامة، والمشكلاتِ الاجتماعية الاقتصادية، والحيِّز الوطني كما العالمي، ومستقبلِ الطبيعة والبشرية كما المآل والمصير، فهي بطبيعتها: “اكتسحتِ الظواهرُ الآلويةُ والتكنولوجيا الثائرةُ، والصناعويةُ المعقَّدة، العقولَ والتواصليةَ والمعنى. ففي تلك الحالة، تَسَلْعن الإنسان، وانبهرَ، وعجز عن اللحاق بالمتغيّرات؛ وبذلك فهو قد تَشَيْأن، وغدا أشبه بالبرغي أو المتاع، الآلةِ الصمَّاء أو الكائنِ البِلا معنى وبلا قيمة أو اسمٍ… وذاك ما ألغى الماورائي والعاطفي، المشاعر المتآخية والانفعالات البشرية وما هو ذاتاني ونفساني؛ وسقط أو غاب الكينوني والإنسانوي، وما هو خاصٌّ بالإنسان والكوني فيه أو القيمي والإيماني كما الروحاني والمثالي، المحبّاوي والتراحمي”[3].
والكلام السابق، سيؤدي بالضرورة إلى ضرورة إيجاد علوم إنسانية، تنبثق من المجتمعات التي تنتمي إليها، على هذا الأساس: “يدرس علم النفس العربي الإنسان، وخصوصيات إنسان منغرس في مجتمع ومعرفة وتاريخ، وفي لاوعيّ جماعيّ ولغة وحضارة […] وربط المعرفيّ بالمجتمعيّ”[4]، لذلك هو عمل على بلورة خصائص الذات، يقول زيعور: “لم ننقل، ولم نتطابق مع القادر في العالم الواحد، لقد صار اليوم معروفًا، في الفكر العربيّ، أنّ لا حياة لنوع معرفيّ إن لم يتعرّب ويتبيّأ؛ أي إن لم يُعرب عن طموحات الحقل؛ وينغرس في الجذور والمشكلات الراهنة، في الشروط الاجتماعية والمعرفية الخاصة”[5]، فهو جعل موضوعه دراسة الذات في تجلياتها، وهذا ما جعل: “التحليل النفسيّ، في الفكر العربي الراهن، نورٌ في سبيل كشف القطاع الآخر في الذات العربية، وفي سبيل إقامة حوار بين ذلك القطاع المكبوت والأنا الفصيح (الرسمي، الحاكم، المنضبط، الأكثري، الصراطيّ، الظاهر، المثالي). بذلك الكشف، ثم الجدلية، تتوفر الإمكانية للمعرفة”[6]، فهو علم ينبع من الإنسان وتجربته الحياتية، وهو يسعى للكشف عن انجراحاتها وتكيفها وآليات إعمالها.
والكلام الذي سقناه، بالنسبة لعلي زيعور، لا يعني الانغلاق على الذات، وقطع العلاقة والتواصلية مع الغرب، أشكاله وعطاءاته، إنّما الاستفادة من التجربة الحضارية الغربية دون الأخذ ما له علاقة بالشخصية الأوروبية، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية هي علوم: “تسعى المدرسة العربية، في علم النفس كما في علم الاجتماع ولا سيما في نظريتنا في الإنسان من حيث طرائقه وقيمه، إلى أن يكون العلم إنسانيّ النزعة والقصد. ويبدو جليًا أنّ علم النفس يؤنسن الإنسان، وينظر إليه على نحو جميعاوي شمّال، ومغروسًا في حضارة أو في تاريخ أو في خبرات وحقل وتواصُل”[7]، فما هو إنسانيّ عام يؤخذ بهذا الاعتبار، ولكن قراءة الذات لا تكون صحيحة إلا عندما تكون قراءة للذات وبمجالها الذي تشتغل فيه، دون أن تغرق هذه الذات في خصوصيتها، وتتقوقع على نفسها، فتقوم من أجل الخروج من انجراحاتها بتضخيم نفسها: “هو علم النفس العربي. ولا يجوز أن نقع في أظنونات بعض من جعل من علم النفس الراهن، وكما هو معروف في العالم النشيط، ميدانًا إسلاميًّا صِرفًا بعد إغراقه بمصطلحات قرآنية وتراثية، وبأشعار ومأثورات عربية. إنّ بعض الدارسين غيّروا في الثوب والألفاظ فيسهل عليهم الإدعاء بأنّهم يؤسسون علم النفس الإسلاميّ، أو علم النفس العربيّ. هنا قدموا هجينًا، وادعاءات، وإسقاطات؛ بل وقعوا في هوامت وفي حيلٍ عقلية، وأواليات تكييف ناقصة فاشلة (تبريرـ تقطيع، انتقاء، تخير، خداع الذات، تلفيقانية، قراءة مغالطة غير تاريخية أو غير تزامنية للنص…)[8].
فالعلوم الإنسانية الإسلامية بالنسبة إلى زيعور، يجب أن تؤسس على رؤية متكاملة غير تجزيئية، وهي لا تقوم على تحويل النّصّ الدينيّ إلى مجرد شاهد، يتمّ اللجوء إليه لتبرير قول نفسانيّ أو اجتماعيّ، إنّما هي آليات عمل متكاملة، تكون عبارة عن منهجية تُظهر الخصوصية الذاتية، وهي كمدرسة في الإنسانيات، تعمل: “في العقلين النظري والعملي كما المعياري، سحبت إلى صدرها، أو دارها وذمّتها، نظريات عربية شعبية، وأخرى إناسية. زد على ذلك ما يُعتبر تأمّلات لاهوتية؛ أو أيديولودجيات بل وإيمانيات متناثرة مشعّة وشاردة؛ يستحضر هنا: النظر في الآدابية، النظر في الوعاظة، النظر في المهدويات، النظر في تعبيرات وسلوكات، وتفسيرات منمّطة من نحو: إن شاء الله، الله أعلم …، وقت فرحتك، بأمان الله تُقال للمغادر[9]، فهي تقع ضمن الاهتمام بالذات، يقول زيعور: “قولُ المدرسة العربية في علم الاجتماع والأنثربولوجيا وعلم الحضارات قولٌ أسسته الحاجة والدوافع الحضارية. فقد ظهرت النظرية عن مدرسة عربية في علم الاجتماع، وعلوم مجتمعية مجاورة، على أسطع وجه، في الجزء الثالث 1978 من “موسوعة التحليل النفسي للذات العربية”. تتواضح وتتناضح تلك النظرية مع النظرية عن المدرسة العربية الراهنة في علم النفس، والألسنية، والتأرخة؛ وبخاصة في الفلسفة والفكر وروحية العلم، في الحقوق المدنية، في العلمانية والمجتمع المدني، في القانون والسياسة، في التشريع والإدارة”[10].
في النظرة إلى التراث
التراث هو كلّ ما ينتقل من السلف إلى الخلف، ويمثل الخبرة الحياتية التي صنعت الإنسان في بيئته الخاصة، بالتالي، يمثل: “التراث تكيّفات أو تعلّمات وعادات طورها الأسلاف؛ وكانت لهم فعّالة وناجحة… ولقد انتقلت إلينا، وحلّت فينا، كوسائل ومكتسبات نعتمدها في حياتنا الراهنة لأجل مساعي التفاعل مع الذات والآخر، وفي الحقل والعلائقي والمحاكمة كما المفاضلة. بوضع التراث مع العادة والغريزة، والتعلّم المكتسب والخبرة السابقة، وهو بنية، وكلّ، وأجمعيةٌ أو وحدة. إنّه نسق. وهو ثقافة[11]. وعندما يتمّ التعاطيّ معه، يكون الإنسان أمام النور الكاشف عن ذاته، في المطمور فيها، والذي لا يظهر إلا عند دراسته، فالإنسان كائنٌ يعيش في التراث، ويتشكل من خلاله: “إنّ التراث يحضر فينا، يُصيبنا أو يأتينا، والتراث المنجرح الجارح هو الذي تكمن فيه جذور العُقدة. ومنْبت المرض النفسي، أو العُصاب قديم وتراثي؛ ويكون مطورًا كامنًا أو غير متمايز، وغير مفصوح، منسيًّا ودفينًا، حيًّا وفعّالًا بغير وعي وخارج الإرادة. من هنا المخاطر التي يوقعنا فيها التراث. ومن تاريخ الفرد يتولّد الانجراح والاضطراب، العصاب؛ وتاريخ النوع البشري يعود إلينا، ويقودنا ويؤثّر اليوم في مخاوفنا وخُوافاتنا، في عُقدنا واعتلالاتنا ولاوعينا الفردي. وكما يتذكر الصابر، ويستدعي التراث الجماعي، فهو أيضًا يتذكّر ويستدعي، بوعي وإرادة، التاريخ أو التراث الفردي. في النوعين من الاستدعاء ضلع عفوي، وآخر إرادوي؛ وضلع يُكبت، ويكون أو يؤثر من خارج الوعيّ… التراث فينا ومنّا؛ وكلّ ما فينا تراثيّ، أو تراثيّ تطور وتكيّف، واستمرّ، ويستمر ما دام ينفع ويصلح ويُبهج؟ لكم هو سديد، ونافع، أن يقارن هنا بين المؤرخ والآثاري والمحلل النفسي“[12] .
لذلك، يستدعي تحليل الذات استحضار التراث بكليته غير منقوص أو مبتور من قبل المتحكم أو الحاكم، الذي يحاول أن يقوض التراث أو يقلصه إلى الحدود التي تخدم مصلحته وتطلعانه الخاصة: “ليس تراثًا هو، في الواقع المحضانية، ذاك التراث القابل لأن يوصف ويُستغل للتوكيدية عند المستبد السياسيّ، أو عند السلطة اللاشورانية أو غير الديمقراطية، وفي الأنظمة المانعة القاتلة للمدنيات والمواطنية الحرة، والمحترمة الكرامة؛ ومن ثم للإنسان من حيث هو وبما هو قيمة لا تُلغى، ولا تُرفس ويُفرغ منها. الإنسان لا يُليس، إنّه لا يعدم”[13]، فتغييب جزءًا من التراث قد يقدم ذاتًا مبتورة، الأمر الذي يجعل عملية تحليل الذات لمعرفة انجراحاتها صعبة.
وهذا يوصل إلى أنّ الاهتمام بالذات أولية وتشكل نقطة انطلاق محورية لفهم أنفسنا، فذواتنا تحتاج إلى من يعاينها، ويحيلها إلى أريكة التحليل النفسيّ لمعرفة ما بها، وإذا أغفلنا عن فهمها بكليتها وقعنا ضحية تحليلاتنا، حيث أنّنا نحلل إما نفسًا مبتورة أو معاينة للآخر المختلف باعتباره ذاتنا: “فالتمييز هنا قائم على إيلاء اهتمام كبير بالتراث، بدراسة العادات والتقاليد الموروثة السائدة وتكسّراتها وتغيّراتها …إنّ علم النفس في البلاد المعقدة التكنولوجيا والتصنيع محكوم بمبادىء، ومن ثم بأعراض وبطرائق؛ أمّا عندنا فما تزال غير مسيطرة “العقلية” التي تُغلّب الحسيّ والنفعيّ، الكسبي والصارم والفرداني، النظر المادية وشتى مواكبات النمط الصناعي الدقيق. لذلك تبقى العلوم الإنسانية، في مجتمعاتنا المتعثرة المجتافة للعالمي والمتحكم عالميًّا، قريبة جدًّا من الإيماني والإناسي والتقليدي المنفتح بحذر واستمساكية”[14]، ويوضح زيعور النقطة الأخيرة أنّ المجتمعات العربية – الإسلامية تختلف ببنية تركيبها عن المجتمعات الغربية، فهي ما زالت تهتم: “[ب] النظري والمعرفة النظرية، فبذلك يمكن لنا حالتئذ التغيير، أي تأسيس التطبيق العقلاني. وهكذا فالفلسفة. في الفكر العربيّ والتراثات الإسلامية بعامة، كانت تُطرح دائمًا على”أرض نظرية”؛ أو كنظرانية صرفة، غير معنية بالممارس والعمليّ والتجرّيبي. وهذا على ضد التصورات الأنكلوسكسونية للفلسفة، أو لعلم الاجتماع، وما إلى ذلك”[15]..
كما نلاحظ، يتعامل زيعور مع التراث بنظرة شمولية، تعمل على إيجاد نظرة حداثية لا تقطع مع الماضي بل تعتبره ضرورة لفهم الحاضر: “فالحداثة وفقًا لذلك زمن تاريخي أكثر من كونها وعيًا جديدًا، وإن كان هذا الوعي الجديد قد تمظهر في حقبة تاريخية محددة مما جعلها لصيقة بعدد من المحددات بدءًا من العقلانية، والتنوير، وانتهاءً إلى فكرة التقدم، فهي تتجلى إذًا في مجموعة من القيم التي تعبّر عن روح الزمن وفعل العصر”[16]. فهو يقرأ الموروث بكلّ أبعاده.
في المنهج
يُركز علي زيعور بشكل كبير على مفهوم الخصوصية، وتميّز الذات إزاء الآخر، وهذا الأمر ليس وليدة الراهن الذي نعيش فيه، فلطالما تميّزت الفلسفة العربية الإسلامية عن غيرها من الفلسفات لا سيما اليونانية، لهذا يمكن النظر إلى: “الفلسفة الإسلامية ليست فلسفة بالمعنى اليونانيّ للكلمة؛ وكان [كوربان] يفرح وهو يقول: عند العرب والمسلمين فلسفة بالمعنى المحليّ falsafa، أو اللاهوتيّ والحكميّ، وليسphilosophie ؛ أيّ حبّ الحكمة بالمعنى الغربي المتميّز. بخاصة عند الألمان”[17]، فالمسلمون أخضعوا العلوم التي يتعاملون معها للبعد الدينيّ واللاهوتيّ الذي ينتمون إليه، بالتالي هم عملوا على تأصيل العلوم الواردة، وجعلها عربية- إسلامية.
وعند العمل على إنتاج أيّ علم في العالم العربي- الإسلاميّ لا بد من أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار، لذلك لا يمكن أن تُعاد صياغة العلوم الإنسانية على الطريقة الغربية بتفعيل العقل العمليّ فحسب، بل يجب العمل على إعادة صياغته على أرضية التنظير له من خلال العقل النظريّ وتأكيد دوره. فبالنسبة لهذه التجربة: “لا يعاد ولا يؤوب العقل النظري إلى الاستدلال المحضّ؛ وليس التفكير العمليّ هو الاستقراء المحضّ. إنّنا نربط ما بين العيانيّ والذهنيّ، الجزئيّ والكليّ، التحليليّ والتركيبيّ، المحضّ والمهجّن، العلم واللاعلم، المفكر فيه وغير المفكر فيه[18]، بالتالي لا بدّ من توسيع دائرة الاهتمام، وجعل العلوم الإنسانية، تنطلق من الماضي، وتستحضره حتى تستطيع أن تنتج المثمر والفعال للذات العربية- الإسلامية: “العلاج النفسي يبدأ باستعادة الماضيّ. ينطلق التحليل النفسيّ من استدعاء الخبرات الأقدم. فتوظيف ذاكرة ظاهرة العيادة، المفحوص أي الصابر، منطلقٌ ومنصةٌ، نقطة إقلاع، ثم عودة إلى إعادة الإدراك والتوظيف والتسمية للتاريخ أو الذاكرة، للاستدعائيات الذاكرية أو للذكريات والتراثات”[19].
على هذا الأساس، لم تنخرط المدرسة العربية في التحليل النفسيّ والإنسانيات في الأعمال التجريبية، فهي لم تلق اهتمامًا بتكديس المعلومات التي لا تمسّ مباشرة الإنسان في واقعه الحياتي: “المدرسة العربية لا تكدّس معلومات في “علم النفس الحيواني، أو التجريبي وما إلى ذلك. فليس الأمبيريقي، على الرغم من ثمراته والحاجة إليه قادرًا على إلغاء حاجتنا إلى التنظير حيث التدقيق والسعيّ للفهم ولقيادة العملي”[20]، فهي لم تكن: “[أمبيرية، أمبيريقية]، ولا في دراسة وظائف أو ملكات منعزلة مجزّأة للإنسان. يروم علم النفس عندنا، كعلم الاجتماع ومن ثم كالفلسفة، دراسة الإنسان العيانيّ، ومعالجة قضاياه، وفهم عالمه أي وجوده وطرائقه وقيمه، ولا هو كائن قائم خارج الزمان والمكان والجماعة. إنّه لا يؤخذ ولا يعاين، أو لا يُفسّر ولا يُفهم، إلّا في سياق تاريخيّ اجتماعيّ، وفي شروط وأرضية، ومتفاعلًا متضافرًا مع حقل وحضارة داخل العالم”[21]، فهي حاولت أن تستعيد كيفية الذات بذاتها، فهذه المدرسة: “[ت] رفض[…]، تمزيق الإنسان إلى ملكات. وجُزر؛ كما يرفض اعتبارنا جزيرة. فالإنسان وحدة متعددة الأبعاد متضافرة، لا يقودها أيّ عامل آحادي ينفي غيره. ليس العقلانيّ قائمًا بمعزل عن الفيزيولوجيّ والنفسيّ الاجتماعيّ؛ وليس أيّ من هذه الأبعاد أو الأعماق نافيًا للآخر أو مستقلًا عنه. ومع القيمة والنفع المستدام كالرزائز والاختبارات، فمن السويّ أن نرفض تحويل علم النفس إلى قبيل من الأحاجي والألغوزات المنفصلة عن المواقف السوية الطبيعية أو عن السياق…”[22].
فعلى الرغم من تبني هذه المدرسة للتحليل النفسيّ إلا أنّها لم تستسلم له، وتعتبره بمثابة نصّ يؤخذ بكليته ويُطبق بمعزل عن فهم الذات التي يتعامل معها، فمن دون شك: “ننتفع من التحليل النفسيّ، أو نستعمله، في سبيل استكشاف القلق في الذات العربية، فالاضطراب والثرثرات، والنزعات الارتيابية واللاإستقرارية وما إلى ذلك من انجراحات أو خلل بين تلك الذات والفضاء العالمي القويّ كلها سلبيات ترتدّ إلى مشاعر عميقة بالعجز والقصورـ بالعداوة والخوف من القواهر، يضعف الثقة بالاحتماء والمستقبل، ينقص الرضى عن الذات وتفسّخ الاطمئنان حيال الصراعات العالمية والتناقضات والتغيرات المتلاحقة”[23]، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار إلى أنّ هذا العلم كسائر العلوم محكوم بالتجربة الغربية المحكومة بآلياته، لذلك عملت هذه المدرسة على نقد فرويد وإظهار ما في مدرسته من عيوب لا يمكن الركون إليها أو الأخذ بها: “من الانتقادات الموجّهة إلى فرويد، داخل المدرسة العربية في التحليلنفس، القول إنّه متأثر جدًا بالداروينية، واعتباره ينقل من دارون القول بالأساس البيولوجيّ للجنس، أي التركيز على أن الجنسوية عند الإنسان أساسٌ وقوة دافعة دينامية للسلوك والوعي واللاوعيّ في شتى مراحل العمر، وقوة نفسانية بيولوجية. وفي الواقع، لقد أخذ فرويد القول بغريزة الحياة، بغرائز الجنس، من نظرية دارون في الانتقاء الجنسيّ. هذا التطابق بين غرائز حفظ الحياة عند فرويد ونظرية دارون في الانتقاء الطبيعي نلتقطه من التحليل النفسي للانتقاء، بالتالي للتكاثر. من هنا نلتقط ثنائية المعنى للظاهر عند دارون، وبالتالي عند ناقله أو المتمثّل المتوحّد فيه، عند فرويد وذاك ما نلحظه على سبيل الشاهد وكما سنرى مرة أخرى بالتفصيل، في المعنيين لظواهر وأحاسيس وعواطف...”[24]، فهذه النظرة لا تتلاءم مع النظرة الإسلامية، وهي تشكل وشكلت عقبة أمام دخول التحليل النفسيّ إلى المجتمعات العربية، بالتالي فالتحليل النفسيّ في العالم العربيّ: “يحركنا هذا التحليل النفسي في صيغته المحلية وصيغته الغربية باتجاه تحديد نمط مجتمعاتنا، وموقعها من الأيديولوجيات، وباتجاه صياغة نظريات خاصة في التكييفانية الخلّاقة، وفي اشتسعاب الاستجابات والأواليات الناقصة. فنرفض، باسم التحايل النفسيّ وانطلاقًا من أفهوماته الكبرى وجهازه وطرائقه، على سبيل الشاهد، اتباع الغربي أو التماهي بنظرياته وعلمائه، ونقل حلوله لأزماته الخاصة به نقلًا كسولًا فاترًا، والتلذّذ بالكماليات وألوان الترف التي ينتجها مفكّرو مجتمعاته وطبقاته. فالكثير من فلسفات الغرب، كالبرغماتية والوضعية والجدلية والظاهراتية، وليد مجتمع له خصوصياته، ونتاج فكر أيديولوجي يدافع (أو يكشف) عن مصالح لون فكري ومواقع اجتماعية، وعن رؤية للقيّم والعقل هي خصوصية لكن تدّعي العالمية والوثوقية”[25].
ولا يعتبر الدكتور علي زيعور أنّ التحليل النفسيّ هو الوسيلة الوحيدة لبلوغ فهم متكامل للذات العربية، لذلك عمل على توسيع الطرائق، التي تتضافر معه لإنتاج المعنى: في مجال الطرائق[…] ننتفع من المنهج البنيوي وبغير أن نجعل منه نظرية ومذهبًا أو فلسفة، فإنّنا نحذر من اعتبار البنية أو الأشكال الجيدة منعزلة ثم مفسّرة بـ”قوانين” داخلية خالدة تُفْرض وتعتبر الإنسان المدرك منفصلًا عن العملي وعن البيئة والتاريخ. إن صقل المناهج أو إعادة صقلها وتقويمها، عمل مجد؛ وعلم النفس قادر على إبراز مبادىء العقل المنتج وأجهزة إنتاج المعرفة أو منطقها وقواعدها. ولا إمكان أيضًا على استبعاد علم النفس في دنيا القيميات، وتفسير الإبداع، وإضاءة اللامتمايز واللاعوضي أو المطمور واللاواعي”[26].
وهكذا يمكننا القول: إنّ التحليل النفسي في المدرسة العربية، يهتم: “بالجانب الآخر، باللاوعي والمعيوش بالمقموع والتجارب الدفينة، بالمستور والغرفة المظلمة، بالممنوع فتحه، و”الذي لا يصح شهوده”، أو النظر فيه، بالأناسي والتأويليّ والرمزيّ والهامشيّ بالهذا وبالظل والأغوار في الشخصية واللغة والوعيّ والعارض. ولهذا فقد يحدث ذلك التحليل قلقلة في الرؤية العربية وللوعيّ، وللذات المفكرة، وللإنسان عمومًا، وللعلاج أو التحرر”[27]، ويقول زيعور: “ولا بدّ من كلمات أخرى تكرّر شيئًا وتوضح أكثر: إنّ التحليل النفسيّ أداة إلى معرفة واعية بضرورة استيعاب القطاع العاميّ في التعبير والتوصيل والفهم والفعل. إنّ اللغة العامية مثلًا، تفكر فيناـ وتقودنا، وتفكر عنا: إنّها جزء أساسيّ فينا، وتقودنا، وتفكر عنا/ إنّها عامل منغرس فيناـ إنّها القطاع المظلم لكن الفعال والمتحكّم. يقال الحكم عينه بصدد العامّة، والمستور، واللاواعيّ، والمعيوش، والمهمش، والمنمّط، والأسطوري، والأناسيّ. فما هو في الأغوار، في داخل الشخصية الفردية أو في الثقافة والحياة اليومية، محرك. إنّ ما هو في القاع والرمزيات، في الهومات والمطمورات، قادر على التأثير في المعرفيّ، وصياغة الروابط والتحكم بالقيم”[28].
وهكذا نستطيع أن نرى أنّنا مع علي زيعور أمام مدرسة فكرية، تقوم على التضافر بين قطاعات متعددة، ونلحظ: “الفلسفي- النفساني قطاع واحد قوامه تفاهميةُ وتضافرية الفلسفة مع علم النفس. هما، هذان الأخيران، كما واحد. هما معًا، متداخلان في وِدادية تعاضدية، متلاحمان مشتركان ومنصهران مع بعضهما البعض”[29].
[1] زكريا علي زيعور، المدرسة العربية في التحليل النفسي، (تونس، شبكة العلوم النفسية، 2014)، الصفحة 29.
[2] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، (بيروت، دار النهضة العربية، 2012)، الصفحة 96.
[3] حوار ريتا فرج مع الدكتور علي زيعور على الرابط:
https://www.alhiwartoday.net/
[4] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، (بيروت، مؤسسة عز الدين، 1993)، الصفحة 222.
[5] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[6] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، مصدر سابق، الصفحة 222.
[7] حوار ريتا فرج مع الدكتور علي زيعور على الرابط:
https://www.alhiwartoday.net/
[8] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، مصدر سابق، الصفحة 223.
[9] -علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 96.
[10] زكريا علي زيعور، المدرسة العربية في التحليل النفسي، (تونس، شبكة العلوم النفسية، 2014)، الصفحة 51.
[11] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 39.
[12] المصدر نفسه، الصفحة 44.
[13] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 197.
[14] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، مصدر سابق، الصفحة 226.
[15] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 38.
[16] رضوان جودت زيادة، صدى الحداثة مابعد الحداثة فى زمنها القادم، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 2003م)، الصفحة 33.
[17] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 57.
[18] المصدر نفسه، الصفحة 142.
[19] المصدر نفسه، الصفحة 142.
[20] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، مصدر سابق، الصفحة 222.
[21] المصدر نفسه، الصفحة 199.
[22] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، مصدر سابق، الصفحة 199.
[23] – المصدر نفسه، الصفحة 223.
[24] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 242.
[25] علي زيعور، علم النفس في ميادينه وطرائقه، مصدر سابق، الصفحة 223.
[26] المصدر نفسه، الصفحة 220.
[27] المصدر نفسه، الصفحة 223.
[28] المصدر نفسه، الصفحة 223.
[29] زكريا علي زيعور، المدرسة العربية في التحليل النفسي، صدر سابق، الصفحة 64.
المقالات المرتبطة
الضداللغوي والتضاد الفلسفي
التضاد في اللغة العربية هو التعاكس، إذا اختلف أمران تضادّا، ومنه جاء الضد، والضد لا بدّ أن يكون له ضد، وفي “القصيدة اليتيمة” المشهورة
مسيرة ومحاولات تجديد الخطاب الديني | المبحث الثاني
هؤلاء من رجال الأزهر وغير الأزهر، بعضهم تولى رئاسة وزارة الأوقاف، فهم رجال دين أولًا وقبل كل شيء، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم طريقًا يشبه طريق المعتزلة القدامى
أهل الكتاب بين الشرك والكفر
لقد عبّر القرآن الكريم عن الآخر بتعابير مختلفة تبعًا لاختلاف الآخر، فوصفه ورتب أحكامًا عليه، كل بحسبه. ففيه استخدم توصيف الشرك وما يتفرع منه مثل: “مشرك”، و”يشركون”، و”أشرك”، و”شريك”…