by الدكتور أحمد ماجد | فبراير 14, 2022 8:12 ص
تستمر الرحلة الفكرية مع الدكتور علي زيعور، وننتقل إلى الحديث عن تطبيقاته المنهجية على التراث العربي – الإسلاميّ، وهنا سنلاحظ أنّ هذا المفكّر، سيعمل على إعادة ترسيم النظر بالقائم والمدروس، ليوجد مساحات جديدة لم يتم التطرق إليها أو هُمِّشت، وهذا ما يجعل القراءات مبتورة، لا تستطيع أن تكون معبّرة بشكل فعليّ عن واقع الفكر وتطوره، وسنعمل من خلال هذه الورقة أن نستعرض رؤيته للفلسفة العربية الإسلامية، ونوضح من خلالها الجديد الذي أتى به في هذا المجال، على أن نبدأ بتعريفه لها، وكيفية تطورها وصولًا إلى تطبيق منهجيته عليها.
أولًا: ما الفلسفة؟
يبدأ الدكتور علي زيعور بطرح إشكالية القول الفلسفي العربّي- الإسلاميّ، فيجيب بسرعة على سؤال ما هي؟ بقوله: “نأخذ هنا بتعريف ابن سينا؛ أي التعريف المألوف داخل الفلسفة منذ تجربتها العربية الإسلامية الأولى، أو التأسيسية، أو الانطلاقية”[1][1]. فالتعريف السينوي للفلسفة: “عدّ الفلسفة بمثابة “محبة الحكمة”؛ وهي بالأحرى، في تحليلاتنا، “صداقة الحكمة”، بل هي، وبامتياز “طلب الحكمة”، ومن ثم طلب الكتابة والعيش الباحث عن تفكيرات في التجربة الإنسانية أي في النظر في الحياة والحقيقة، في الفكر (أو العقل) والسلوك، في النظر ذاته والعمل، في الوعي والممارسة، في النظري (الحقيقة)، والعملي (الخير)، في علوم المعرفة والمنطق والمناهج والعلم كما في علوم الأخلاق والسياسة والتربية، في علوم النفس والمجتمع واللغة…”[2][2]، كما نرى، فقولنا بسرعة كان إشارة إلى هدم تردد زيعور في النظر إلى الفلسفة انطلاقًا من مقاربة الذات لها في تجربتها التاريخية، وتُظهِرُ استحضاره للمتن من أصله، لذلك، يرفض الخوض في التعريفات المتناثرة، التي تخضعه لأهواء الذات العربية المتشظية نتيجة تأثرها بالتجربة الفلسفية الغربية، هذه التجربة التي همّشت العقل النظري وأحالته إلى التقاعد، وركّزت في عملها على العقل العمليّ، أي جعلت الفلسفة في حدود التجربة الحسية، بينما هو يريد لها أن تعيد ربط نفسها بالأصل الذي نبعت منه؛ ووجدت استقرارها لديه، فأنتجت نهضة فكرية في القرن الرابع الهجري، وكأنه في هذا التعريف”محبة الحكمة”، أو صداقتها أو -بحسب الفلاسفة المسلمين والحكماء الإلهيين- طلبها، طلب الحكمة لذاتها ومن أجل ذاتها.
وما يُقال في هذا الجانب أنّ الدكتور زيعور، يرفض إلغاء العقل النظري، بل ويعتبره ضروريًّا، فهذا العقل: “في فهمنا الراهن له، بحوثًا في علم الوجود[الأيسيات]، أو تفسيرًا للإنسان في ما هو، وفي حقيقته، ومعنى الحياة، أو أصلها وبدايتها وغايتها، وفي أصل الكون ومبادئه وعلله. في كلّ ذلك يتلخص أنّ العقل النظريّ تفسيريّ للأسباب، والكُلّيّات، أو للمبادىء (الحياة، العقل، الروح، المادة) التي هي الأعم والأشمل؛ وأنّها، النظرانية، بالتالي تفسيرانية”[3][3]. وبهذا يضع زيعور ضابطة نظرية لمشروعه، تجعله قوامًا على كلّ تفسير، بمعنى آخر، أبقى فعالية الميتافيزيقا، وجعلها قاعدة أساسية في بناء منظومته الفكرية، وهو من الشخصيات القلائل، الذين قاربوا الموضوع بهذه الطريقة، حيث نراه يؤسس لفكرة وجود نظرة كونية عند الإنسان، تشكّل أصلًا تبنى على أساسها العلوم والمعارف حيث يصبح: “العقل النظريّ نظرٌ في النظر، وقول في الفكر أو في العقل وفي اللغة، فإنّ الفلسفة النظرية تغدو بذلك علوم الفكر، والعقل، واللغة؛ وتتعدّد القطاعات وموضوعات فرعية مماثلة أو مجاوزة … في كلّ ذلك يصبح العقل النظريّ، أو الفلسفة النظرية، أو النظرانية، تفسيرًا للعلم أو للمعرفة…”[4][4]، والقسم الثاني من العقل هو العمليّ، الذي يمثل الإنسان في حياته العملية، أي ما يجب أن يكون عليه. وهكذا نرى أنّ زيعور، يريد أن يثبت دور الحكمة، بل أنّه يذهب للقول: “لا أسمح لنفسي بأن أُلغي الحكمة كميدان هو أساسيّ جدًّا في التراث العربيّ – الإسلاميّ، بذريعة أنّ الحكمة غير صالحة لأن تُدرك أو تقدّر كما ندرك ونقدّر الفلسفة”[5][5].
كما نرى أنّ المقاربة التي يقدّمها زيعور في هذا المورد هامّة، وهي تضع أمام الباحثين إشكالية تفترض البحث فيها بشكل جديّ، فهل ما يُقدّم الآن في الفلسفة الغربية فلسفة، أو هي نظام من الأفكار نتج عن الحداثة الغربية، وهي بحاجة لإعادة نظر لتعود الفلسفة إلى أصولها باعتبارها حكمة، وهذا ما أشار إليه عندما اعتبر أنّ الحداثة الفلسفية بدأت مع عمانويل كانط، وهي مشبعة باللامفكر فيه، الذي يخدم أهدافًا لا علاقة لها بالفكر الفلسفيّ: “كنط ابنٌ بارّ لدين أو لاهوت معيّن، ومثّل بوعي، وبلا وعي أيضًا ومن ثمّ بمعرفة اختمارية بطيئة وهاجعة، الفهم الدينيّ للوعي الأخلاقيّ أو للواجب والإرادة الفردية.. ولقد عاد إلى الماورائي، بعد كلّ نقد للميتافيزيقا، ولإقامة علم الواجب (الأمريات الأخلاقية) على الميتافيزيقا. والفيلسوف الألماني الثاني، داخل الرابوع الفلسفيّ الألمانيّ وبالتالي الأوروبيّ، هيغل، يؤخذ من حيث هو مجبول متوقّد ومعتاش من مشاعر وانفعالات، وعواطف وحدسيات، وخيلات، تعاد إلى هموم وانشغالات بالدولة وبروسيا والإمبراطور البروسي؛ وتتفسّر بتصورات وإيمانيات بعنصر جرماني، وتفوق أمة أو دولة، وأنا وحدية أو مركزانية… ويُستدعى إلى هذه الساحة نفسها الممثّلان الثالث والرابع، داخل الرابوع الألمانيّ نفسه، نيتشه وهايدغر؛ إنّهما مؤمنان مخلصان؛ يتعصبان – ويعنفان في موقفهما – للقول الذي يجعل أمّة أو عرقًا، لغة أو قارة وتاريخًا، هي الأقدر على تطوير مستقبلاني للبشرية والحضارة والطبيعة”[6][6]. يشي هذا الكلام بمضامين مهمة جدًّا، فهو يأخذنا باتجاه التفريق في الفكر الفلسفيّ بين المفكر واللامفكر فيه، فبالرغم من تبني الرابوع الألمانيّ لفلسفة الحداثة الأوروبية إلا أنّهم استمروا في القعر واللاوعي والمطمور، ينتمون إلى منظومتهم، تتحرك فيهم الأبعاد الميتافيزيقية دون التنبّه إلى هذا الأمر. والمقصود بالميتافيزيقا هنا ليس التفكير الماورائي فحسب، إنّما كلّ فكرة كليّة يُبنى عليها القول أو الخطاب.
ثانيًا: الفلسفة في تاريخها
يُظهِر تفكير الدكتور زيعور أنّ الفلسفة ليست كما تقدم في الغرب، قد تحوّلت إلى وسيلة إرفاع لكلّ مستوى من مستويات المعيشة، وجهازًا تربويًّا أو عتلةً، ومهمازًا تنمويًّا وفكرًا إصلاحيًّا وخطابًا محرِّضًا من أجل الإنهاض، وبثّ الحداثة، وضخّ التنوير والتثوير: “هنا يكون التفكّر في معنى الفلسفة فجًّا ومصطنعًا، قاصرًا ومقصورًا محصورًا”[7][7]، وهي في هذا الموضع لا تتعدى كونها أيديولوجيا: “وتكون وسيلة أو إعلانًا، أو أداةً أو شيئًا”[8][8]، بينما هي فكر عالميّ: “الفلسفة تكون فلسفة لأنّها نقضٌ وتجاوزٌ للتعصب الذي هو مع الذات، والتعصب الذي هو ضد الآخر. وهي في كلام أكثر تلاق وانفتاح، مرونة وتفاهم، تضافر وتظافر، تبادلٌ وتحاور”[9][9]، فهي التفكير الإنسانيّ المشترك، الذي لا يقوقع الذات حول نفسها، ولا يضع الحواجز أمام الآخر. فالقول الفلسفيّ يتعدّى التخوم الأوروبية كي يحاور كلّ ميتافيزيقا، وكلّ دين أو فكر؛ ذاك أنّه قولٌ نقداني، وهو الأعم رؤيةً ومنهجيةً، في الإنسان والميتافيزيقا والعلم، وفي الكينونة والصيرورة البشرية والأنسنة، وفي العولمة والمعرفة والفضيلة، وفي الذات والعمل والمعنى، وفي الفعل والانفعال والقول.
تَتَّسِم الفلسفة بحسب زيعور بانفتاحه على الفكر في العالم قاطبةً، وخصوصًا على الشريك التقليدي “المعهود”، أي البُعد الذي يَمثُل في الدار الأوروبية للفلسفة التي لا تنفصل أو لا تَنْسى جذورها اليونانيةَ – العربية – اللاتِينية أو مِنصّةَ انطلاقها الشّرْكيّة – الإسلاميّة – المسيحيّة، ثمّ انفتاحها على الهندية – البَيْرونيّة. لا تكون الفلسفة قوميّة؛ ولا تَتَقوْمن، بالتالي فالفلسفة واحدة عند الجميع، بدأت في مرحلة معينة، ثم تطورت بعد ذلك في خطّ مستقيم بدأ في المرحلة اليونانية ثم الرومانية اللاتينية والمسيحية، وصولًا إلى الإسلام بقطاعاته المتعددة العربية والفارسية والهندية والعثمانية، فالفلسفة: “استمرار متكسّر متعرّج، محكوم بالتغييرانية، للفلسفة العربية الإسلامية، للخطاب الثالوثي: اليوناني العربي اللاتيني، في أجنحته: العربيّ، العثمانيّ، الفارسيّ، اللاتيني؛ وفي موضوعاته وتساؤلاته وشخصياته المجدّدة الموسّعة، وزمانيته المستمرة التي استوعبت وتجاوزت القول الفاسد بأنّ الفلسفة خمدت(!) بعد ابن رشد؛ أو شُجبت بعد ابن خلدون؛ أو بأنّها اندثرت”[10][10].
فالدكتور”زيعور” ينطلق من رؤية، ترى الفلسفة عمليةً تراكمية، نشأت في اليونان وانتقلت إلى الحضارة العربية- الإسلامية، التي استفادت منه، ولكنّها تغذت من الفلسفات الهندية والفارسية… فكانت صورة لعقل تعلمن، والعلمنة هنا ليس بالمعنى الغربي، إنّما عَلَمانية نسبة إلى ما هو كونيّ وعام ومشترك بين البشر، لأنّها لم تقف عند تخوم حضارة معينة؛ فتعلن انتصارها وانغلاقها على مقولاتها… إنما كلّ ما هو منفتح على الإنساني، وهذا ما جعل الفلسفة العربية- الإسلامية قوية، ولم تكن رخوة -كما يشيع البعض- أو ضعيفة في أيّ لحظة من تاريخها، فهي تفاعلت مع الموروث القادم إليها من غربة همشتها أو حاولت ذلك، ولكنها سوّغت هذا الوافد إليها، جعلته ينطق بلسانها، يعبر عن ذاتيتها، أعادت إنتاجه، فكانت هي هي، صورة الفلسفة على حقيقتها، تنطق بالعربية، وتعبر عن ذاتها مع الحفاظ على كيانها المتفرد، الذي لا يشبه السائد في العلوم الأخرى، التي تزخر فيها الحضارة العربية- الإسلامية.
وهكذا، رصد زيعور، استمرار الحياة في الفلسفة العربية – الإسلامية، فهي أنتجت حتى في اللحظات الأكثر حراجة في تاريخها، وهنا نتوقف لنشير إلى أنّه، تحدث في كتبه الأخرى عن أجنحة لهذه الفلسفة، فهناك الهندي والعثماني والفارسي، كما أن هذه الفلسفة غادرت نحو الغرب، فانتعشت مع التومائية، وغيرها من الفلسفات التي استلهمتها واسترشدت بخطواتها. وبذلك، نلاحظ أنّه ينبه إلى أمر هام في التراث الفلسفي، فالحديث المتداول عن غياب التفكير الفلسفي، لا يعود إلى رؤية واقعية، إنما نتج عن ضعف في العمل البحثيّ لدى الدارسين، ولعلّه في هذه النقطة، يدعو الباحثين لتصويب هذا الواقع، وإعادة النظر فيه. وهكذا، ندرك أيضًا اعتباره حقل التاريخ للفلسفة حقلًا غنيًّا، فالدارسون وإن أظهروا جزءًا من هذا التراث، ولكنّهم أبقوا الكثير بحالة من الستر، الذي يخبىء خلفه حقبات واسعة من تاريخنا الفلسفي وحركيته. وعند هذه النقطة، نرى الدكتور زيعور داعيًا للاستفادة من هذه التجربة، ولكن مع الحفاظ على روحية الانفتاح على الإنساني من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين كالهنود… حتى لا نصل إلى حصرية فكرية، تقضي على كلّ مقومات المختلف والتعددية في الحضارة الإنسانية أو في الدار العالمية للإنسان والفلسفة، وهكذا نرى: “معنى الفلسفة لا يتوقف عند ذلك النظر الواقعاني بالعملي؛ فهو معنى يتمدّد فيطوي ما هو نظري محض، أي مجرد منزّه عن النفعي واستغياء التطبيقي والممارس. لقد شمل اهتمام ابن رشد الفارابي أو ابن سينا، أمورًا تبدو شبه بعيدة عن النظرانية (الفلسفة النظرية، في المعنى المحصور). اهتم الأسلاف التأسيسيون الناجحون بالفقه وعلم الكلام، والأصول… بيد أنّ ذلك لا يعني أنّهم توقفوا عند تلك الميادين العملية. المراد هو انهماك الفلسفة التأسيسية بالنبويات والتكاليف الدينية، وسياسة المنزل (بالمعنى النظري ثم الاقتصادي أو القُوت)، هو انهماك الفيلسوف المعاصر بميادين قادمة من الأطراف والهوامش، بالشعر والمسرح بالقصة والنقد الأدبي والصحافة، بالحاسوب وشبكة الشبكات، بالألسنية والتاريخ، والتحليلنفس”[11][11].
يريد مفكرنا للفلسفة أن تكون كما هي، مستقلة عن المسار الذي اختطه الفكر الغربي مع خاموسه الأساسي الفرنسي والألماني والإيطالي والبريطاني والأمريكي، تنظر إلى ما هو إنسانيّ عام، وما هو نابع من الذات وخصوصيتها الدينية، وعلى هذا: “إنّ الفلسفة، بحسب مدرستنا العربية الراهنة ـ لم تخسر كثيرًا لأنّها خرجت من التاريخ الغربي الأحادي الاستفزازي أو من المعنى الأوروبي الاحتكاري والدوغمائي. لقد أضحت تحرث في فضاء كوني مفتوح؛ وتتفكر في انهمامات تخصّ كلّ إنسان، وكلّ أمة، وكل قارّة، وكلّ دين أو تديّن، وتنتج في كلّ ميادين النظر الباحث في الوجود والمعرفة، القيمة والخير، العقل والكينونة، الحياة والتاريخ، المعنى والفعل، الزمان والذات، المجتمع والبشرية، الأنسنة والمسكونية”[12][12].
فالفلسفة بحسب منظور المدرسة العربية لا تعادي الدين، وهي تعمل على إيجاد توازن بينهما، لتبقي الإنسان سويًا: “فهي لا تنكر دور الإنسان وسيادته على ذاته، ولا تجافي أو تغفل الإيمان بالإنسان وعقله، بحريته ومسؤوليته، باستقلاليته وحقوقه، وتعدّد انتماءاته وأبعاده ودوافعه الحضارية، ولكنّها في الوقت نفسه، لا تقع في: “مزالق المبالغة واللافلسفة؛ وقد يبدو تعبيرًا عن رغبة بالانتقام من الألوهية التي كانت المركز والمنطلق والغاية من جهة، أو، من جهة أخرى تعبيرًا عن رغبة لاواعية باجتياف المطلق وامتصاص قدرات الطبيعة أو الحضور الكُليّ، والعلم الكُلّي، والقدرة الكُلية. وفي عبارة أدمث، قد تكون الرغبة بتوحيد المطلق والإنسان، أو الطبيعة والإنسان، أو الثابت والمتغيرـ رغبة قهرية مسبقة، أيديولوجية أو مؤمنة بأنّ العلم وحده يحلّ مشكلات الإنسان وألغاز الوجود والحياة، ومغاليق الزمان والمصير. ليست صينمة الإنسان، أو أسطرة العلم، فلسفة تحظى بالمنعة والتماسك، وبالقدرة على الاستمرار، أو على صيانة الذات والسيطرة على أسئلة من يكون وما يجب أن يكون”[13][13].
فهذا التفكير من جهة يحصر كلّ شيء في الإنسان مع العلم: “ليس الإنسان هو، ولمرة أخرى، السؤال الوحيد أو السؤال الفلسفيّ الرئيسي؛ إنّه سؤالٌ من الأسئلة التي يطرحها العقل على الوجود والحياة، النفس والخلود، الطبيعة والفكر، الخير والشر.. وهذه الأسئلة كُلّها مهمة، وكُلّها أساسية ومحورية”[14][14]. والفلسفة الغربية على الرغم من ما تبديه من معاندة للدين إلا أنّها سرعان ما تعود إليه لأنّ ما هو ديني قابع فيها، يقول زيعور: “الفلسفة الغربية، فلسفة أوروبا الغربيّة، أضحت تُعاند الدين وتبتعِد عن الإيمان عند الابتداء؛ لكنّها غالبًا ما تعود لتذوب في اللاهوتي المعلمَن عند نهاية الشوط، عند القمة أو النقطة ياء. إنّ كانط، بما هو حالة ممثِّلة، ينتهي مفكرًا لاهوتيَّ المقصَد والمنهجية، والوعيِ كما الرؤيةِ والتأويلية… ذاك ما نقوله أيضًا، بحقٍّ وحقيق، في شأنية النظام أو النسق الفلسفي عند هيغل؛ فهذا قد سُمِّيَ الفيلسوف اللاهوتي أو اللاهوتي الفلسفي؛ ومقولاته المخصوصة، الخاصة به، تَستمدّ وَتمْتد من الأعراف والمعتقدات والظواهر النفسية والاجتماعية العائدة إلى بيئته وشروط مجتمعه وتاريخه، كما ثقافته ولغته وأُمَّته”[15][15].
هذا، ويعتبر زيعور أنّ الفلسفة الإسلامية لم تخمد في أيّ فترة تاريخية، وهي انطلقت بشكل كبير مع التجربة التنويرية العربية الأولى، التي وجدت في طروحات مدرسة الأفغاني أبرز تجلياتها، حيث طرح نظرانيّو “عصر النهضة” أسئلة كثيرة، من نحو: السلطة، الشورانية، التأويل، الإيمانيات، نقد المجتمع والقيم والفكر، العقل، المنهج… وهذه التجربة لم تحاول أن تستنسخ التجربة الغربية، ولكنها حاورتها، مع الحفاظ على ذاتية الدفع، فكانت منبجسة من التراب والأرض والوطن، من المشكلات والانشغالات والطموحات الخاصة. فسؤال النهضة أو التنويرانية الأولى، لم ينشأ من الصدمة الحضارية، لكنه خرج من رحم تجربة الذات العربية، حين حاولت أن تعيد ترتيب عالم المفاهيم الخاص بها، وهذا الأمر، نلحظه في أدبياتها، التي استرشدت تاريخها وتجربتها.
وهذه الطروحات، تطورت، وأنتجت التنويرانية الثانية، التي امتازت بأنها إعادة تعضية وتدقيق للمفاهيم والتجارب مع الفلسفة، وإعادة أشكلة لأسئلة الوجود والعقل والقيمة، للتاريخ والسؤال نفسه وسؤال الفلسفة، وقامت هذه التنويرانية الثانية على إرادة نقدانية حضارية كشفت وتكشف ما لم ينتقده النهضويون وما أغفلوه، ما هدروه وما غدروه، ما لم يهتموا به أو استصغروه: “وترى المدرسة الفلسفية العربية أنّه قد جرى اسئناف تثمير وتعزيز الفلسفة والفكر النظريّ الأعمّي الأوسعي، مع التجربة التنويرانية الأولى التي سطعت بفضل الأفغاني وعبده؛ وقبلهما، بفضل العطار/ الطهطاوي، حصل الانقطاع النسبيّ مع عصور الاستهلاك الذاتي والنرجسية المقفلة. أما التنويرانية، أو الحداثانية، الثانية فقد سطعت مع المؤسّس عبد الرحمن بدويّ، دون إغفال لآخرين من نحو: الحبابي، عثمان أمين، ز.ن.محمود… بهذه الحقبنة للوعي أو للقول الفلسفيّ”[16][16].
ويصل الدكتور زيعور إلى نتيجة، أن الفلسفة في مدرستها العربية الراهنة، عقل شمولاني وكوني، واقعاني ومسكوني…؛ لذلك، فقد لا تكون الفلسفة ”ذاتها”، وفلسفةً للعقل وبالعقل، إلّا إن كانت عَلَمانية؛ وحتى في مجال فلسفة التدين لأنه الممارس والمعيوش والواقعي، وتكون أيضًا متغذية بالعلم وتقوده باسم الكينوني والأنسنة ومعنى الإنسان، لكنها لا تكون علمًا ولا هي علموية؛ ولا هي وضعانية، أو مجرد فلسفة تحليل أو تحليل منطقي لغوي…والفلسفة، ولمرة أخرى، قد نجحت في تعميق وصقل ضرامية القول في حقوق المواطنية والنحناوية والإنسان المستضعف؛ والقول أيضًا في تعددية الميادين والمناهج، وفي اختلاف المعنى ومستويات القراءة والفهم والتأويل. وهذه الفلسفة، تتحرك بوقود الحرية، وبإرادة النظر الحر وغير الاستنفاعي في مشكلات الوجود والمعرفة والقيمة، ومشكلات القول والفعل والانفعال، المعنى والحقيقة والزمان، الألوهية والميتافيزيقا والمصير، العلل الأولى والماهيات والعلم… وبعد هذا التقديم ينتقل إلى معالجة ميادين الفلسفة، ويوزعها على أربعة أبواب، شغل كل باب من الأبواب، بتحليل لميدان معيّن.
ثالثًا: القراءة الفلسفية/ النفسية
بعد هذا العرض لفهم زيعور للفلسفة، ننتقل إلى معالجته للموضوعات المتعلقة بالفكر الفلسفي، وفي هذا المجال لا يمارس مفكرنا دور المؤرخ – وإن لم يقلّل من أهميته- ولكنّه اعتبر أنّ وظيفته هو كشف اللامفكر والمطمور في هذا المجال، وعمل على الانتقال من عرض تاريخ الأفكار إلى تحليلها لإظهار ما تحمل من مضامين. على هذا الأساس، عمل على قراءة الفكر الفلسفيّ وتأويله ليظهر مضامنيه، كما تجلّت له، وسنبدأ من نقطة مركزية انطلق من خلالها للحديث عن كيفية ظهور الفلسفة، فيورد حلم المأمون الذي شاهد فيه أرسطو، حيث اعتبر أنّ ما رواه المأمون لا يتعدى كونه صراعٌ بين وعيه ولاوعيه، حيث يمثل أرسطو اللاوعي، يقول زيعور: “إنّ الكلام في الحلم وأخواته الإناسية، مع الميت أو المجهول، مع الغائب أو المفقود، أو المقنّع والغريب، كلامٌ داخل الشخصية، وكلامٌ بين قسم وقسم من شخصية الحالم. ولقد مرّ أنّ ذاك الحديث حديثٌ داخل الشخصية، وكلامٌ بين قسم وقسم من شخصية الحالم. ولقد مرّ أنّ ذاك الحديث حديثٌ مع الذات، مع جزء منّا أو من قوانا وأغوارنا ـ ومشاريعنا ورهاناتنا، إنّه صوتٌ قادم من أعماقناـ هو لاوعينا، وظلّ شخصيتنا[…] يحقق ذلك الحلم رغبة المأمون اللاواعية في أن ينسج بطلًا، على غرار البطل في الأسرودات الإناسية الكثيرة، يخرج إلى الناس مسلّحًا يإشارة أو حلم أو خاطر أو هاتف[…] أو حوى إشارة التحوّل والنضج ونقطة “إعلان الرسالة” ونشرها في الناس أو هديًا وإنقاذًا. وغطى رغبة الخليفة بأن تكون الدولة هي المسيطرة؛ والفكرانية الاعتزالية هي فكرُ الأمة والرسالة الثقافية العامة؛ والفلسفة هي المهيمنة، وكان العقل فصل المقال، وأرسطو المعلم الأول، وخير الكلام كان الخير، والمأمون بدا حاكمًا أو حاكمًا فيلسوفًا، والعلوم كما الفلسفة بدت أساس المعرفة وغاية هي الأرفع”[17][17].
دون شك أنّ أخذ المأمون كنقطة انطلاق ملفتة وهامة، ولكن توسيع دور التحليل النفسي بما هو يؤشر إلى المطمور واللاوعي عنده على أهميته، لا يمكن أن يفسر بشكل آحادي لِما كان يحدث في ذلك الحين، ولعلنا لا نبالغ وعلى سبيل التساؤل وليس الرد على مفكرنا ألا يمكن أن يكون الانطلاق من الحلم نفسه إشارة إلى بنية ذهنية قد أدركها المأمون وأراد الاستفادة منها، تتمثل في تعلق العقل العربي – الإسلامي بالغيبيات؟ وإذا تناسينا السؤال، لا يمكن إغفال بعد، يجب النظر إليه بعين الجدية والفحص، وهو العلاقة بين المعرفة والسلطة، فالمأمون الذي نظر إلى تصاعد الصراعات بين التيارات الدينية داخل المجتمع العباسيّ، قد وجد نفسه أمام ضرورة إدخال لغة جديدة، لا ترتبط بالصراع العقائدي، تستطيع أن تكون بديلة، وتقدم لغة محايدة؛ ولكنّها في الوقت نفسه مقدسة بسبب الطبيعة الحلمية التي انوجدت من خلالها.
بالتالي، لا يمكن ردّ الأسباب إلى سبب واحد، والدكتور إذا كان مقصده هذا، يكون قد أصاب نحر الحقيقة، وأكد على ضرورة عدم إهمال أيّ جانب من الجوانب المعرفية أثناء دراسة النصوص التراثية، بالتالي فالباحث بحاجة إلى حشد العدة المعرفية كاملة من اللغة إلى الاجتماع إلى التحليل النفسيّ …
وإذا تركنا المأمون، وذهبنا باتجاه تحليله لشخصية فكرية هامة في تاريخ الفكر الفلسفيّ وهو “ابن رشد”، سنرى أن الدكتور زيعور يُظهر ما تعاني منه هذه الشخصية من مشكلات جمّة. فهو يبدأ تحليله من خلال العودة إلى شخصيته كما تتجلى في ملبسه، حيث تشير المصادر إلى عدم اعتنائه بزيه، وهذا يشير إلى شخصية ترفض الاندماج أو التماهي مع لاوعي الجماعة والذوبان المصلحي في العام والنافع للجميع، فهو كان لا يقيم كبير اعتبار لرأي الناس فيه. فهو كان غير خاضع أو محكوم بالمظاهر والبذخ: “كان أبو الوليد منصرفًا عن مجالس الأنس والطرب. ويعني هذا، في التوصيف الخارجيّ للشخصية، أنّنا قد نستطيع تصنيفها ضمن النمط الانطوائي. فهنا ينكفيء الإنسان على ذاته، ويتميز بالرضى عن الذات والانشغال بأمور الفكر، والمشاغل الخاصة، والانصراف عن الآخرين، أو الانسحاب النسبيّ من الاجتماعيّ، وهُزال الانتماءات التواصلية، والرفض للوظيفة أو للوسط وحتى للذات عينها”[18][18]، هذا ما يؤدي إلى أن يظهر أيضًا وفي الوقت نفسه حادًا وقاطعًا وصلبًا ونرجسيًا. أي هو يتصف بفقدان المرونة أو بالتصلب في العلائقية، وهذا الأمر مفاده أنّ الأنا الاجتماعية من الشخصية ضعيفة غير كافية النمو، أو دون مستوى الأنا الفكرية الذهنية نضجًا ومرونة وسهولة تكيف[19][19]. هذا، قد يفسر لنا جانبًا من الموضوع وهو أثر شخصية الإنسان فيما ينتجه والخيارات التي يميل إليها، ولكنّها لا يمكن أن تكون القاعدة العامة لفهم الموضوع، فهي لا تفسر موقعية ابن رشد في التفكير الفلسفيّ، ولماذا وصل إلى ما هو عليه. والذي ساهم فيه موقف السلطة الموحدية التي أرادت أن تحاصر التيارات الكلامية والتوجهات السلفية المتناحرة في الساحة الأندلسية، فقامت بالسماح لأفكاره بالرواج.
دون شك، ما يقدمه علي زيعور بحاجة إلى متابعة، ولا يمكن إغفاله، فهو حرث أرضًا بورًا، وقدّم قراءة في حال العمل عليها بشكل علميّ ومنهجيّ، سيؤدي ذلك إلى إعادة النظر في الكثير من القراءات التاريخية السائدة في الفكر الفلسفيّ، ومنها العلاقة بين ابن رشد والغزالي، حيث قدم خطابًا مختلفًا، يقول زيعور: “لا ضرَر في أن نقول في صدد نقد ابن رشد للأشعرية عمومًا؛ وللفارابي وابن سينا والغزالي؛ وبخاصةٍ للمعتزلة. لقد استَذوتَ هذه الانتقادات كلّها ابن رشد؛ وتمثّلها وامتصّها، اجتافها أو جافها، واستدخلها بحذاقةٍ ومهارةٍ ذكية. وعلى هذا فإنّ ابن رشد قد كرِه الغزالي ليس نفورًا وكراهية؛ بل هو أقصاه أو طرده وأضأله تغطيةً، وتكوّنًا عكسيًا، حسدًا أو غيرة، أو إنكارًا للواقع وهروبًا من الاعتراف بالحقيقة. إنّ ابن رشد، في قرارة نفسه وأغوارها، هو الغزالي وقد نضج واكتمل؛ أي إنّه ذاك الغزالي المسيطِر في حقول الفلسفة والتصوف، وفي الفقهيات، وفي الكلاميات وشتى العلوم “الديني” منها “والدنيوي”. الغزالي قابل لأن يُقرأ بمثابة ممهّدٍ للثورة المغاربية إن كان هناك ثورة أو مجرّد ردود فعل على الإحباط المغاربي[20][20]، وهنا لا بدّ من الإشارة وقبل استكمال ما أورده دكتورنا إلى أنّ الدولة الموحدية كانت تعمل بشكل أساسي على استبعاد الأشعرية عن الحقل المعرفيّ الأندلسيّ، وقد يكون موقف ابن رشد من الغزالي، يدخل في هذا الإطار، فنكون أمام تطهرية من قبله، ضحّى من خلالها ابن رشد بالغزالي من أجل إرضاء السلطة، ولكن هذا الأمر بحاجة إلى تدقيق علميّ، ليس هذا مورد الكلام فيه.
بالعودة إلى مفكّرنا، نلاحظ أنّه يعتبر: “لولا ثورة الغزالي على الفلسفة لما قامت ثورة الفلاسفة المغاربيين على الفلسفة؛ وعلى التصوف “الشعبوي؛ وعلى التربويات، وعلى السياسة المنزلية أو الحركة السيناوية البريسونية … كان تأثير بريسون (Bryson)، أو الغزالي بريسون ملحوظًا كحلقةٍ كانت مفقودة بين أفلاطون / أرسطو وابن سينا/ الغزالي. وفي تفسيرٍ آخر، لكأنّ عداوات ابن رشد للمشرقيين، للأشاعرة والفلاسفة والمعتزلة، وللفقهيات والنحو والتصوف، صداقةٌ مستورة، مقموعة وفي جميع الأحوال، وأخذٌ بالجانب الناضج المتأخر عند الغزالي نفسه وبرمَّته”[21][21]، وهنا اللفتة المميزة حيث تبنّى ابن رشد الغزالي، وأخذ بمقولاته وطورها عند نقدها.
[1][22] علي زيعور، المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة والفكر: النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير، (بيروت، دار النهضة العربية، 2006)، الصحة 16.
[2][23] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[3][24] علي زيعور، المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة والفكر: النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير، مصدر سابق، الصفحة 17.
[4][25] المصدر نفسه، الصفحة 17.
[5][26] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 56.
[6][27] علي زيعور، ألف قولة وقولة في الفلسفة والصحة العقلية كما الحضارية، مصدر سابق، الصفحة 40.
[7][28] علي زيعور، ميادين المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة، (بيروت، دار النهضة العربية، 2008)، الصفحة 26.
[8][29] المصدر نفسه، الصفحة 27.
[9][30] المصدر نفسه، الصفحة 35.
[10][31] علي زيعور، ميادين المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة، مصدر سابق، الصفحة 40.
[11][32] علي زيعور، ذكريات الفكر الجامعي العربي، مصدر سابق، الصفحة 279.
[12][33] علي زيعور، ميادين المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة، مصدر سابق، الصفحة 27.
[13][34] المصدر نفسه، الصفحة 50.
[14][35] علي زيعور، ميادين المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة، مصدر سابق، الصفحة 50.
[15][36] – ريتا فرح: مقابلة مع علي زيعور على الرابط
https://www.alhiwartoday.net/
[16][37] علي زيعور، ميادين المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة، مصدر سابق، الصفحة 42.
[17][38] علي زيعور، العقل والتجربة في الفلسفة العربية، (بيروت، دار النهضة العربية، 2011)، الصفحات 76 حتى 80.
[18][39] المصدر نفسه، الصفحة 128.
[19][40] علي زيعور، العقل والتجربة في الفلسفة العربية، مصدر سابق، الصفحة 124.
[20][41] حديث خاص مع الدكتور علي زيعور في شهر آذار من عام 2017.
[21][42] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14433/alizayour4/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.