by الدكتور أحمد ماجد | مارس 8, 2022 11:01 ص
بعد أن ألقينا نظرة على البعد النظري في فكر علي زيعور في الفلسفة والتصوف، ورأينا موقفه منهما، ندخل في المجال العمليّ والحكمة العملية لديه، هذا الجانب الذي شغل مساحة كبيرة، وشكّل مورد اهتمام خاص، حيث عمل على تثمير التراث العلميّ العربسلامي في هذا المجال، مقدمة لجعله المقصد الأساس الذي لا بدّ من العمل عليه وإعادة دمجه بالحياة المعاصرة. وفي هذا المورد، سيظهر أنّ الدكتور زيعور، يختلف عن غيره من الباحثين إذ أنّه ينظر إلى الموضوع من منظار مختلف، ينطلق من تقسيمه العقل إلى قسمين: نظري وعملي. الأول يحمل في طياته العناصر الكلية، والثاني يرتبط بالأول، ولكنّه يحتوي الأمور التي لها علاقة بالتدبير الإنسانيّ، فهذا العقل: “هو الحاوي والضّامُّ المشتمل على: الأخلاق، القيم، فلسفة الفعل، الاقتصاد، الثقافة – الحضارة، السياسة، التربية، التنمويات للفرد والمجتمع، للفكر واللغة، التبادلية، التداولية، فلسفة المنفعة، النظرية في المصلحة، النظريات المادية في التاريخ والطبيعة البشرية والتطور… تميّز العقل العملي عمومًا أو في قطاعه التربوي، كشاهد بأنَّه ينقل الواقع وما يجري في الواقعِ؛ وهو قياسي وتشبيهي، تكراري ومِنبري، وعظي وتبشيري. وهو ينطلق من ثقةٍ بأنّ الإنتاج المعرفي يكون نتيجة اعتمادٍ لما يقوله القرآن والسنّة أو الحديث؛ ثم لِما يقول الفقيه والمفسِّر للدين، والممارِس أو المتعيِّن المُعاني. سوف نرى، إذن، أنّ التربويات ممثّلٌ بارز للعقل العملي؛ وهنا نقول ليس أبرز من ابن خلدون، ومن ثم ابن الأزرق، بين التربويين والمؤرِّخين، مَن عمِل على تحليل الوقائع والمناهج التربوية في عصره[1][1]، وهذا، يقود بشكل تلقائي إلى ملاحظة هامة، وهي تتمثل في تأكيد زيعور على فاعلية الميتافيزيقا وعدم انفكاكها عن التفكير الإنسانيّ، بالتالي النظر إلى العقل الأخلاقيّ باعتباره جانب من جوانب العقل العربسلاميّ ضمن سياقه الخاص، الذي لا يمكن فهمه إلا من خلال النصوص الذي ينتمي إليها.
يبدأ زيعور بتعريف الحكمة العملية، فيعتبرها: “نظرًا منظَّمًا ومنظِّمًا في الحال والمآل، للفرد وحقله. إنّها نظر تطبيقي، أو تأسيس لما يجب أن نكون على قاعدة نظرية، أو تطبيق نظر. إنّها تصورات للوجود، ووجود لتصورات قائمة في الفعل والتدبير. وتلك الحكمة في صياغاتها ومفاتيحها وطرائق تعليمها، تقصد إلى الخير الأعلى، وتقوم على المعرفة، وتردّ على أسئلة الإنسان في وجوده: كيف يجب أن نكون؟ كيف نحقق السعادة والفضيلة معًا؟ أو كيف تتحقق السعادة المثلى والخير الأسمى في الفرد؟ كيف أفوز بالدارين؟”[2][2]. انطلاقًا من هذا التعريف تصبح الحكمة العملية التنظيم المحكم للعلائق التي تقوم بين مكوّنات الفرد؛ وداخل أعضاء الأسرة؛ وفيما بين الأفراد داخل فئاتهم؛ وفيما بينهم وبين السلطة؛ وفيما بين الدول بعضها بعضًا، وهي تحتوي التصورات المثالية للفرد والأسرة والعلائق الاجتماعية، وللدول في علاقاتها المتبادلة ونظرتها للبشرية، وهذا ما يجعل من الحكمة العملية أمرًا تدبيريًّا له علاقة بالإنسان وحياته المعاشة بكلّ تفصيلاتها. كما أنّ التعريف السابق الذي قدمناه للدكتور زيعور، يطرح إشكالية العلاقة بين الأخلاق والحكمة العملية بالدين، فإذا كانا يسعيان للفوز بالدارين، فهذا يعني أنّ هذه الأخلاق تنتج واقعًا يتعدى الحياة الدنيا باتجاه المصير، وهذا ما يقربهما من الدين، يقول زيعور: “إنّ الحكمة العملية هي الشقّ الثاني من الدين الإسلامي، أي هي المعاملات. لكن “المعاملات” هنا لا تنفصل عن “العبادات”؛ فالوعي الروحاني أو المتديّن يقود التعاملية التي هي، كما قلنا وكما سنكرر باضطرار، تدبير للذات، وللعلائق، ولكلّ نشاط في الفرد والدولة والحلقات الاجتماعية. وبكلمة أوفى، إنّ الحكمة العملية امتداد للدين؛ والحكمة العملية نوع من أنواع التديّن، أو من توضيح الدين وبثه، وتوسيع نطاقه باستمرار. ثم إنّ ذلك التلاصق هو الذي يجعل الحكمة العملية “سياسة شرعية”، وأدبية، وتطبيقات مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجبية أو ينبغيات”[3][3]. هذا ويقسم علي زيعور العقل العملي بشكل شاقولي بحسب المجالات: “الفلسفة، الآدابية، الأصوليات، الفقهيات، القطاع التقميشي، الفكر الصوفيّ”[4][4]. وأُفقيًا: “الأخلاق، التربية، الاقتصاد (الفردي والعائلي والعام)، السياسة الفاضلة…”[5][5].
يبدو جليًّا من خلال الكلام السابق أنّ الحكمة العملية تتأسس على نظر وتدبر للعالم، وتستند إلى تصور شامل للوجود، أي أنّها نظرة للواقع انطلاقًا من كليات النظريّ الذي حضنه: “وهكذا فإنّ العمليّ مرتبط بالنظريّ، وتحضن الأيديولوجيا هموم الأعيان والأذهان الواقع والمثال، الموجود والموجوب، الفكر والسلوك، المعرفة والفضيلة”[6][6]، ولا يكتفي زيعور بذلك، فهو يعتبر أنّ العقل العربسلامي فيما يتعلق بالحكمة العملية، يقوم على تصوّر دينيّ (تشريعي معًا وتعبُّدي، روحي واجتماعي) يمتاز، واتّسم، بلون من الخلود. فالثبات في مبادىء ذلك التصور، والعمومية في هيكله، والشمولية في نظره وأخذه للظواهر والعلائق، وهذا ما يوصل إلى القول: “الثقافة العربية الإسلامية تبقى ثقافة أخلاقية؛ فهي ترتكز على أنّ الحقوق هي لله، فالعبودية هي، كخزعة أو قزعة شجرة، لله تعالى وحده؛ ترتكز أيضًا على أن الفضيلة هي المقصود والسبيل؛ وبالتالي فإن الواجبات على الإنسان مؤدّاها أنه موئل التكاليف الفاضلة ومناط العمل الصالح. وسواء أكان ذلك القول في الحقوق والواجبات صحيحًا، أو بحسب المذاهب الأخلاقية المعاصرة”[7][7].
ينتمي الفكر الأخلاقي في العالم العربسلامي للبيئة التي نما فيها، وهو يحمل خصوصيتها، وهذا أمر يعود إلى طبيعة الفكر، حيث: “الفكر لا يُعزل عن سياقاته. ومشكلات الزمان، ومجرى التاريخ، والنظرياتُ الاجتماعيّةُ والتربويّةُ كما السياسيّة والأخلاقيّة تُدرك مع أو متفاعلة، وضمن بنيةٍ مشتركةٍ أو نسقٍ واحد مع المايجري ويَحصل أو يقع ويصير، مع الما يُقلِق ويوتر الوعي والإرادةَ كما العقل والحرية”[8][8]، وهذا الأمر يُضاف إلى الرؤية المرجعية الحاكمة على الفكر، والتي تجعل كلّ منظومة تفكر بشكل مختلف عن الأخرى، وهذا هو أساس المقاربة التي سعى لتثبيتها وجعلها مادة دراسية، يقول زيعور: “أبرزت أهمية القطاع العملي من الحكمة العامة؛ وهو قطاع له شخصيته الفكرية العالمية المستقلة، وغير منفصل عن الحكمة النظرية إلا للتسهيل، وربما لأجل أن تكون الحكمة العملية (الباحثة عن الخير، السياسة، الأخلاق) موجّهة للجمهور والعامة. وبذلك نكون قد جعلنا الفلسفة النظرية (التي هدفها الحقّ) مكرّسة للمحظوظ والتلاميذ والباحث عن الفلسفة والمُحبّ أو الصديق لها”[9][9]، والكلام الذي صاغه الدكتور في هذا الموضع، يحمل طابعًا نخبويًّا، لأنّه يُقصِّر الجانب النظريّ على النخب الفكرية التي تتجه باتجاه الفلسفة، وهذا ما يجعل التعامل مع العقل العمليّ مبتورًا عن أصوله المرجعية؟ وهنا يُطرح إشكالًا عليه: إذا كانت مشكلة الفلسفة الغربية، تتمثل في الفصل بين العقل النظريّ والعمليّ، وجعل الثانيّ هو الأساس القيام بهذا العمل الإجرائيّ ألا يحمل في طياته إمكانية الوقوع بنفس الأزمة التي وقع فيها العقل الغربيّ؟ وهذا الأمر يُصبح أكثر إلحاحًا عندما ننظر إلى الموضوع انطلاقًا من وجهة نظر الدكتور زيعور، الذي يعتبر أنّ ما يقدمه هو نظرية في القراءة، يقول: “لقد قدّمت الحكمة أو الفلسفة العملية، في تراثنا الفكريّ، بمثابة حكمة مستقلة تؤكد تميّز الفلسفة في ثقافات الإسلام حيال النظريات اليونانية وغير اليونانية. وهكذا فلعلّه سيكون مجديًا أن تُطبق آرائي التي تدرس الفلسفة العربية الإسلامية بطريقة جديدة، واهتمام بالعقل العملي، وابتعاد عن القراءة التقطيعية البالية، واعتبار للشرح (التعليق) قراءة مستقلة وسيدة نفسها اتجاه النص الأصلي (الأفلاطوني أو الأرسطوي)، وتحيين (تزمين) للنقدي والفكر المحاكم والمقاصي أو المفكك والتقويضي. وهذا، بغير أدنى إغفال للقيمي”[10][10]، وهذا ما نؤكد عليه على أنّ التطبيق العملي للنظرة لا يكون إلا من خلال التعامل مع القراءة الكليّة وتطبيقها، ولكن قد يكون هناك عذر للدكتور أنّ ما كتبه في هذا الموضع، ترافق مع السنة التي انطوى فيها على نفسه، وهذا ما يُظهره القسم الأول، أما القسم الثاني، فيقدم مقاربة تحتوي احتجاجًا بقدر ما تحتوي من توجيه عن عقم تقديم المقاربات الأخلاقية بالطريقة التي تقدم بها.
ثانيًا: مراحل ظهور الحكمة العملية في الإسلام
بعد تعريف الأخلاق، ننتقل للحديث عن كيفية ظهور هذا العلم في المجتمع العربسلاميّ، وفي هذا المجال، يقسمه زيعور إلى مراحل تاريخية، كلّ مرحلة لها خصائصها التي تتميّز بها، وهي تتوزع على الشكل التالي:
أ: حالة ما قبل الوحيّ: وهي المرحلة التي سبقت الدعوة الإسلامية، حيث كان القانون الحاكم على الأخلاق هو: “القانون الأخلاقيّ [ال]انتشاري، غير متمايز عن السياسيّ والاجتماعيّ؛ ولا يُنظّم المجتمع والسلطة والقانون تبعًا لنبيّ”[11][11]، فالقبيلة هي أساس بناء الاجتماع ودستور العيش هو التنقل عمومًا؛ لهذا قلّت الاتفاقيات بين القبائل ما عدا البعض السلمي منها؛ والانتفاعي المؤقت من ناحية أخرى، وهذا ما يسهل القول: “إنّه لم يكن هناك ما يمكن أن نسميه بالفكر السياسيّ والنسق الأخلاقي؛ إنّما كانت هناك أساليب عُرفية في الحكم قائمة على العادات […] وقيود اجتماعية تُبقي على الانتماء العام إلى جانب إيمان “بالحرية” الفردية، وبعض الشذرات من الحكم والنصائح التي تمت بصلة إلى المسلك الرشيد والمعاملة القويمة”[12][12].
ب: الحالة الدينية: وهي مرحلة ظهور الوحي وانتشاره، وهنا يمتصّ فلاسفة الإسلام الوظائف السياسية الاجتماعية للدين: “وبذلك تُفصّل أدوار الدين على الصعيد الفردي وتنظيم العلائقية والعائلة، وتمتزج التكاليف الدينية بالواجبات الاجتماعية والأعراف والالتزامات الأخلاقية، وتترتّب السلطة ووظائفها أو طبيعتها ومسارها”[13][13]. وهنا يكون الوعيّ الأخلاقي شديد التأسّس والتأصّل على الوعي الديني وقيم الوحي”[14][14].
ج: حالة “السنة الحميدة”: وهي قامت إلى جانب الأولى، وآمنت بوجود حقيقة غير دينية، وهذه الحالة تؤمن: “بالمتعدّد والمختلف وحقّ كلّ أمةٍ بأن تشرع لذاتها أي أن تكون ذاتًا ومشرّعًا وحرّة… هنا تكون المعايير الأخلاقية متمايزة عن الدين ومستقلّة، أو قائمة على اعتبار الإنسان قادرًا على الثقة بنفسه وعقله، بطبيعته ومعاييره”[15][15]، وهنا يلاحظ زيعور: “لم يكن الخطاب الفلسفيّ العربيّ كلّه متدينًا، أو شديد الالتصاق بالأسبقيات الإيمانية. وحتى في الفيلسوف الواحد عينه نلاقي التفاوت في نظرته لسلطة الدين على العقل يتفاوت باختلاف الموضوعات”[16][16].
د: المرحلة الراهنة: وهي تترافق مع الميل للعولمة: “هنا تتحكّم الشركات المتعدّدة الجنسية، والصورة، والإعلام، وقدرات الحاسوب والاتصالات، والإلكترونيات، والسلعة والسوق والمال… أمّا الإنسان، من حيث هو عقلٌ وحرية وقيمة، فقد صار بحاجة لتأكيد ذلك تكرارًا ثم نقدًا وتوضيحًا وإعادة تدقيق للصياغة العامة، وللمعنى والفضيلة والفنّ”[17][17].
نلاحظ من خلال ما تمّ عرضه أنّ التقسيم الرباعي الذي قدمه الدكتور زيعور، بحاجة إلى مزيد من التفسير والإيضاح والتوسع لكي تظهر مراميه خاصة فيما يتعلق بالمراحل الثلاث المتعلقة بالإسلام، حيث نلاحظ أنّ الدكتور لم يُطبق منهجه الذي توصل إليه من خلال عمله، فإذا كان العقل النظري مترابط مع العمليّ ويحتضنه، فهذا يعني أنّ المرجعية الحاكمة ستضفي عليه سلوكياته وتحدد له هدفه، بالتالي لا بد من حضوره في كلّ مرحلة من مراحل الفكر، وهذا يعني أنّه ربما يكون التقسيم الأجدى، يجب أن يتوجه باتجاه العلوم كالفقه وعلم الكلام وعلم الحديث … التي أنتجت نظرات أخلاقية، والعمل على إبراز خصوصياتها ومدى مساهمتها، ولكنّه ربما مال إلى خياره انطلاقًا من رغبة بإعطاء خصوصية للفلسفة، يريد أن يبني عليها تحليلًا يتعلق بالمطمور وغير المفعل في التراث الإسلاميّ، ولعلّ هذا ما أفصح عنه في قوله: “ميدان الفكر الأخلاقي، في التجربة التدشينية أو الأرومية، متشايك مؤسّسٌ على الفكر الدينيّ وثقافات الروحانيات. غير أنّنا نستطيع القول إنّ الفكر العربي الراهن معنيّ أيضًا بالمذاهب غير المتأسّسة على الشريعة، أو الإيمان، أو الإلهي المحض”[18][18]، إذًا فهذا الفصل غائي، يتعلق بمرادته، التي تتمثل في:
كما نلاحظ أنّ الدكتور، يريد تأسيس علم أخلاق على أسس اجتماعية لادينية، وهذا ما يستدعي السؤال عن إمكانية قيام هذا الأمر انطلاقًا من منهجه الذي بناه، فالدينيّ يمكن أن يطوى في اللاوعي ولكنّه سيبقى حاضرًا على مستويات عدة ومنها اللغة نفسها، التي يعطيها أهمية خاصة، وهنا يبادر إلى الذهن السؤال التالي: الانفصال الذي يتكلم هل يعني فصلًا لأحدهما عن الآخر، أم أنّه عبارة عن جعل الأخلاق علم له موضوعه ومنهجه ولغته الخاصة وعند هذا المستوى ينفصل عن الدين، ولكن هذا لا يحول دون تواصلهما على مستوى المرجعية الكلية؟ وهذا ما يجعل الأخلاق منفصلة عن الدين على مستوى ما هو إنسانيّ عام، ولكن بخلفية تحفظ الذات، هذا ما يحتاج إلى توضيح. كما أنّ التقسيمات التي قُدِّمَت تفتقد المعيارية، فهي من الممكن أن يعاد ترتيبها انطلاقًا من موقعيتها من العلوم، حيث بالإمكان الحديث عن فلسفة الأخلاق التي تضم بشكل أفقي الأخلاق الرواقية وأخلاق السعادة وأخلاق الواجب… وبشكل عامودي يمكن أن يكون لدينا أخلاق التصوف وهو ما يعبر عنه أصحابه بالسير والسلوك والأخلاق الشرعية… ويمكن الحديث عن الآدابية باعتبارها عنصر متميز فهي لا تتعلق بالأخلاق بما هي أخلاق لأنّها تذهب باتجاه الأعراف والتقاليد، وهنا ما قدمه زيعور مفيد ولكنّه يحتاج إلى العمل الجديّ من الباحثين والنقاش العلميّ بين المختصين، لأنّ الكثير من المسائل لم تحسم، وهي تحتاج إلى عمل دؤوب.
ثالثًا: نظرته إلى الأخلاق في السياق التاريخيّ
بعد أن رأينا ميل زيعور إلى أخلاق لادينية، وعمله على بلورة هذا الأمر، سنراه يعود إلى التراث للعمل عليه للكشف عن ما فيه من أمور لا تزال نافعة في الحياة المعاصرة، فالغاية من عمله: “كانت إعادة قراءة خطاب فلسفي قديم جابر بن حيان، الكندي، الفارابي، قراءة تُظِهر المَنسي والفاشل توخَيًا لإعادة تسميته وتثميره في إثراء الخطاب الراهن داخل الوعي الفلسفي، بذلك تكون التأرخةُ التي نقوم بها، في مشروعنا لدراسات العقل العملي، مكانًا متاحًا من أجل التصويب والتعضية بعد المحاكمة أو النقد المستوعب المثمر[20][20]، ثم أنّه يحاول إحياء المهمش والمقصي في المدوّنة الجامعيّة والتربوية: “يضاف آخرون هم أقل شهرة أو مهملون في المقررات التدريسيّة التي غالبًا ما تكون ناقصة ومختارة أو على شكل مقتطفات أو مبتورة من هؤلاء الآخرين: الشهرزوري، والطوسي، والدواني، وصدر الدين الشيرازي، وهؤلاء يُعدون، بحسب فهمنا للفلسفة العربيّة الإسلامية، أساسيين واستمرارًا لمجالها الزمكاني الذي لا يقفل ولم يَنتقِل أو لم يَتوقف بعد ابن خلدون ولا تلبث عند موضوعاتِ محددة ومفاهيم معدودة مكرورة[21][21].
ما يريده إذًا زيعور هو إقامة معيارية أخلاقية غير منفصلة عن الذات الحضارية التي ينتمي إليها، هذه المعيارية تحدد ما يمكن القبول به أو رفضه أو تعديله، والعودة إلى التاريخ ضروري لإعادة بناء منظوره، والخطوة الأولى التي خطاها في هذا المجال ملاحظة عالمانية الإسلام وشمولية طرحه، يقول: “يتوجه الإسلام إلى العالمين كافة، أي إلى الأجناس؛ ويتوجه الكندي، ممثلًا الفلسفة العربيّة الإسلامية، إلى الجميع في الوجود؛ ويفتش عن الحقيقة بغض النظر عن أمة المنتج لها، أو لسانه أو زمانه. وتحظى فكرة العالم الواحد، المعمورة أو السياسة الواحدةِ للأمم، بمكانةٍ هي إنتاج وغاية في فلسفة الفارابي الاجتماعيّة السياسيّة، أو فلسفته في الأخلاق، في العقل العملي. ويهتم مسكويه بما هو “تعاقب وتراكم” في العالم أجمع، بما هو”حكمة خالدة” ورؤيّة إنسانويّة أجمعانيّة للتاريخ وتطور الأمم. ويصدق المقال نفسه في صدد النظريّة الأخلاقيّة الاجتماعيّة والسياسيّة عند ابن سينا وفي النظريّة الخلاصيّة الإنقاذيّة أو ذات الفوزين عند الغزالي. …”[22][22]، بالتالي فالمعيارية في الفكر الأخلاقي عالميّ، وهي تتعلق بالوجود والفعل الإنسانيّ بمعزل عن الدين والجنس واللغة.
فالأخلاق ليست هي الدين وإن كانت لم تقطع الوشائج معه: “نلاحظ أنّ الحكمة كانت في تيار منها تتجه صوب التخصص بالعلوم أي بأن تكون مستقلة عن الدين، وتقدّم الدراسة المنظّمة والمعرفة الدقيقة عن الطبيعة. ولعلّ السند النظري لهذا الزعم هو ما نجده في تعريف العلم والحكمة أيضًا، عند ابن سينا: “العلم هو أن يدرك الأشياء التي من شأن العقل الإنسانيّ أن يدركها إدراكًا لا يلحقه فيها خطأ…؛ فإن كان ذلك بالحجج اليقينية والبراهين التحقيقية سمي حكمة”[23][23]. الحكمة إذن أبعد من العلم في دنيا اليقين، وأعمق منه من حيث الأخلاق والقيم والأخلاص؛ تتميز هي بالأمانة وتوحيد المعرفة والسلوك الرفيعين. فالأخلاق بما هي حكمة عملية بحدّ ذاتها موضوعًا خاصًا، يوجد في كلّ منظومة ومنها الدينية، ولكنّه لا يستسلم، فهو يحاوره ويناقشه، فالكندي: “تبدو قراءته للنص الديني غير فاترة، وغير حياديّة، فهي ليست حرفيّة، ولا هي كلّها استسلام للخطاب الصريح، أو المعنى الرسمي الواضح، المعروض الشائع، فالكندي يكشف عن قلقه حيال النص العلني، ويسير متوجسًا في قطاع المحظور، أو منقبًا في الأسس المطمورة والقوى النفسيّة، وواقع الإنسان والمجتمع… فمنذ البدايّة، ينطلق الكندي من الإنسان، ثم من النفس، ثم من تمييز بين قوى النفس ترسخ في القطاع العربي المتفلسف حيث نتج تقسيم لا هو أرسطوي خالص، ولا هو أفلاطوني صرف، بل هو كما أفهم وأقول، صياغة عربيّة وعمليّة توظيف لمقولة كان يقال، منها – آنذاك – إنها علميّة، أو عقلانيّة، أو برهانيّة، أو فلسفيّة”[24][24]، ما يريد أن يقوله زيعور: إنّ المعيارية الأخلاقية هي معيارية إنسانية، تتعلق بالعواطف والانفعالات والفعل، يبقى مرتبطًا بما هو دينيّ من خلال الغاية المتمثلة بالفوز بالدارين، ولكنّه يسعى للتفتيش عن ما هو يرتبط بالفعل للحكم على هذا الأساس يمكن النظر للكندي وفلسفته الأخلاقية، التي تقوم على: “ضبط الذات اتجاه الفواجع ورغبات الجسد وإغراءات المجتمع بالكسب والجشع والتمدد، فضيلة الفضائل أو الفضيلة الكبرى والوحيدة التي تتوافق مع الحياة والوضع البشري في الوجود… لقد وجد الكندي في سوق الأفكار وعالم النظر ما ينصر أو يعمق ويثري، فلسفة الكندي الشخصيّة وحكمته العمليّة وتجربته في المعاناة والبحث عن ملهم مأساة الإنسان والمصير”[25][25].
حتى لا نطيل، نلاحظ أنّ الدكتور زيعور، يقدم لنا من خلال مقاربته لموضوع الأخلاق، أنّه يريد أن يقيم معيارية أخلاقية ذات طبيعة عالمانية شمولية، نستطيع من خلالها أن نحكم على الفعل الإنسانيّ أينما وجد، وهذه الأخلاق لا تقوم على مبدأ النفعية والعقل العملي فحسب، إنّما هو يرتبط بالعقل النظري الذي يقدم له ما هو كلّي ويساعده على الحكم، وهو في وجهته هذه فتح بابًا جديدًا للنقاش، يستحق الدخول إليه والعمل على تثميره.
مصادر الابحث:
[1][26] ريتا فرح: مقابلة مع علي زيعور على الرابط
https://www.alhiwartoday.net/
[2][27] علي زيعور، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة والتعاملية في الذات العربية، (بيروت، دار الطليعة، 1988)، الصفحة 29.
[3][28] المصدر نفسه، الصفحة 34.
[4][29] – علي زيعور، النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير، (بيروت، دار النهضة العربية، 1988)، الصفحة 219.
[5][30] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[6][31] المصدر نفسه، الصفحة 35.
[7][32] مقابلة خاصة مع الدكتور علي زيعور في شهر آذار من عام 2017.
[8][33] علي زيعور، أحاديث نفسانيّة اجتماعيّة ومبسطات في التحليل النفسي والصحة العقليّة، (بيروت، دار الطليعة، دون تاريخ)، الصفحة 120.
[9][34] علي زيعور، ذكريات الفكر الجامعي العربي، مصدر سابق، الصفحة 378.
[10][35] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[11][36] علي زيعور، النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير، مصدر سابق، الصفحة 219.
[12][37] المصدر نفسه، الصفحة 220.
[13][38] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[14][39] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[15][40] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[16][41] علي زيعور، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة والتعاملية في الذات العربية، مصدر سابق، الصفحة 70.
[17][42] علي زيعور، النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير، مصدر سابق، الصفحة 220.
[18][43] المصدر نفسه، الصفحة 221.
[19][44] علي زيعور، النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير، مصدر سابق، الصفحتان 223-224.
[20][45] علي زيعور، العقل العملي في الفلسفة الإسلاميّة الموسعة، (بيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر والتوزيع)، الصفحة 66 .
[21][46] علي زيعور، العقل العملي في الفلسفة الإسلاميّة الموسعة، مصدر سابق، الصفحة 66 .
[22][47] علي زيعور، العقل والتجربة في الفلسفة العربيّة، (بيروت، دار النهضة العربيّة، 2006 م)، الصفحة 12 .
[23][48] علي زيعور، العقل العملي في الفلسفة الإسلاميّة الموسعة، مصدر سابق، الصفحة 71.
[24][49] علي زيعور، تفسيرات الحلم وفلسفات النبوة، (بيروت، دار مناهل، 2000)، الصفحتان 205 – 206.
[25][50] علي زيعور، العقل العملي في الفلسفة الإسلاميّة الموسعة، مصدر سابق، الصفحتان 51-52.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14487/alizayour6/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.